مواجهة الحرب بالحكمة
في جو احتمالات عدوان إسرائيلي جديد على غزة ، لا أرتاح للبيانات المتحدية المتوعدة التي تصدر عن حركات المقاومة في غزة . في هذه البيانات حديث عن الجاهزية التامة لمواجهة أي عدوان جديد ، وفيها حديث عن مفاجآت للعدو ، وسوى ذلك من التحديات الواثقة بالنفس . وفي دهاء محسوب يتساوق قادة إسرائيل الأمنيون مع بيانات المقاومة ، فيتحدثون عن إمكانية محاولة المقاومة السيطرة على بعض مستوطنات غلاف غزة ، ويتوسعون في توكيد مخاطر الأنفاق ، ويزيدون فيقولون إن إسرائيل تخشى بحرية حماس ! ويقصدون تحديدا عمليات ضفادع بشرية من نوع عملية زيكيم في الحرب الأخيرة في 2014 . وأصوب وأحكم ما قالته المقاومة في جو احتمالات الحرب الحالي أنها لا تريد الحرب إلا أنها لا تخشاها . وحتى " لا تخشاها " تستدعي التحفظ . إنها توحي بندية مع العدو . وهذا ليس صحيحا إذا قيس الموقف بالعدة والعتاد والبيئة المساعدة للطرفين ، وهو أمر معروف لا يستوجب تقريرا أو توضيحا . وفي الحروب الثلاث الأخيرة قاتلت المقاومة ومعها الشعب بصبره وتضحياته قتال المضطر لا قتال المختار ، وأوجعت إسرائيل في الحرب الثالثة وجعا محرقا نفذ إلى روحها ، وجعلها تتحسب تاليا من مواجهة المقاومة ، وتتخلى عن حسبان قتالها رحلة سياحية ممتعة ، لكنها قتلت وجرحت الآلاف ، ودمرت عشرات الآلاف من البيوت والمرافق والمساجد ، وكله مازالت غزة تشقى في التعامل مع توابعه ، ولا تجد لها حلولا أو حتى مخففات . وإسرائيل قادرة في حرب جديدة على فعل ما هو أقسى منه ، وتنذر به فعلا . ما من ضرر أو معابة في أن نقول إننا شعب صغير تكالب علينا العدو والقريب ، وابتلينا بثلاث حروب عدوانية قاسية في خمسة أعوام ونصف ، وإن العدو يهددنا بحرب رابعة ، وإننا ليس لدينا سلاح يوازن سلاحه ، لكننا سنقاتله ولو بالحجارة عملا بقول الرسول _صلى الله عليه وسلم _ : " لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف "، وإننا نؤمن إيماننا بالله بحتمية انتصارنا عليه في النهاية لما في قضيتنا من حق وعدل ولما في سرقته لوطننا وعدوانه علينا من باطل وظلم . هو يملك القوة ظاهرا ، ونحن نملكها جوهرا ، والجوهر الثابت سيهزم الظاهر العابر . تجنب الحرب نوع من الحرب مادام العداء متصلا مستحكما ، ولا تنافر في هذا الكلام . تجنب الحرب الذي يقينا الخسائر في الأرواح والأبدان والعمران نوع من الانتصار على العدو لكوننا لم نمنحه فرصة لاستدراجنا وإحداث تلك الخسائر بنا في قتال يلائمه ولا يلائمنا . لب حروب إسرائيل مع الفلسطينيين هو قتل نموهم البشري والعمراني في الوقت الذي تطور فيه نموها في ذينك الحقلين الوجوديين المتلازمين تلازم الروح والجسد . مما أثر عن بن جوريون في بداية اختلاق إسرائيل تنبيهه الإسرائيليين إلى عدمية قيمة انتصاراتهم العسكرية على العرب إذا لم يعمروا الأرض التي سرقوها في فلسطين ، وكان يحذرهم من استرداد العرب لها إذا لم يعمروها . استبقاء نمونا البشري والعمراني وتطويره وتفعيله أقوى سلاح في يدنا ضد عدونا ، والحكيم يعرف متى يصمت ومتى يتكلم وماذا يقول إذا تكلم ، ومتى يستخدم سيفه ، وبالتأكيد لا يضع نفسه في موضع يسهل على عدوه افتراسه . في 1966 ذهب موشيه دايان وزيرالحرب الإسرائيلي الأسبق إلى فيتنام مراسلا حربيا لصحيفة " معاريف " لمتابعة العدوان الأميركي على فيتنام ، ولهدف كبير آخر هو الاطلاع على أساليب الحرب هناك للإفادة منها في حروب إسرائيل مع العرب . ولفت اهتمامه أن الفدائيين الفيتناميين ( الفيت كونج ) كانوا لا يهاجمون الأميركيين إلا إذا تأكدوا تماما من نجاح هجومهم ، وأن الأميركيين كانوا يفتقرون إلى تلك الحكمة الحربية ، ومرد ذلك في رأينا فضلا عن الاختلاف الثقافي بين الطرفين هو غرور القوة المادية في الطرف الأميركي الذي يدفع إلى الحماقة والتهور، ونقص تلك القوة المادية في الطرف الفيتنامي الذي يوجهه إلى الحذر والتروي وحساب كل شيء بإحاطة وتدقيق . لنكن مثل الفيتناميين حذرا وحكمة في مواجهة عدونا ! وفي ديننا وثقافتنا الكثير الذي يحثنا على ذلك ، ومنه الحديث الذي أسلفناه ، وقول شاعر عربي : ليست الحرب حصونا وقوى بل خداعا وفنونا .
وسوم: العدد 655