نحو شيء من الخيال
ربما كان «الخيالُ» - بعد العقل - هو اعظم مَلَكات الإنسان. وهو المسؤول عن كثير من مظاهر الحضارة، وعن تطور العلوم والآداب والفنون. والعقل نفسه بغير خيال قاصر عن التمثل والمقايسة والافتراض وبناء النظريات. وحين يفتقر الفيلسوف الى خصوبة الخيال تصبح اقواله عقيمة ما مِنْ أُكل لها ولا جنى ولا تملك ان تتجاوزه الى غيره من الناس. اما السياسي - والسياسة فرع من الفلسفة - فهو اجدر الخلق بالافادة من الخيال، وسياسة بغير خيال هي انتكاسة للاجتماع الانساني، لما تجره عليه من مصائب وعقابيل، وحيثما نظرنا اليوم في المضطرب العربي وجدنا آثار غياب العقل وغياب الخيال، وقامت الشواهد حولنا، جمّة ومؤلمة، على ما يتأدى اليه هذا الغياب من فساد الحال وسوء المآل..
قال احد الناظرين في الأنباء المتوالية عما يجري على ارض العرب من تدافع القوى واعتراك السياسات: إن العرب لو يتمتعون بشيء من البصيرة وقوة التصور لرأوا بعين الخيال ان جميع الخيوط المتقاطعة والمتوازية والمتشابكة تنتهي الى نقطة واحدة هي «تل أبيب». وان سر غموض مواقف الشخصيات، والمحاور، والأحلاف إنما مرده الى ان الكلمة الفصل في هذه المسألة او تلك لم تأتهم بَعْدُ من دهاقنة الصهيونية، وان ما نراه من تصريحات ومناكفات اعلامية، وما يدور على ارض الواقع من تطاحن وتفانٍ، كل ذلك في مجمله مسخّر لتمكين اسرائيل من المشرق العربي الاسلامي، وللمصادرة على مطلوبات نهوض هذا المشرق من تلدده وحيرته وتخلفه ومضاهأته للغرب الذي يغطي سماءه، ويجتاح ارضه ويسفك دماء شعوبه، وينهب خيراته، ويستبقيه راغما في خيبته وحبوطه.
ألا ينبغي لنا ان «نتخيل» عددا من اصحاب الرؤوس الثقيلة (بأهدافها ومخططاتها المستقبلية) تجتمع الآن في واشنطن او لندن او تل ابيب او حتى في موسكو، لتنظر كيف تحرك قطع الشطرنج في الرقعة المستباحة لهذا المشرق العربي الاسلامي، وكيف تدفع بجماعات العرب المتصارخة الى حيث يقتل بعضها بعضا، ويشرد بعضها بعضا، فتتفرق في الارض ايدي سفه وجاهلية ما كان احراها بتنكبهما او دفعهما عن واقعها الممزق الشتيت؟
اما ينبغي لنا ان «نتخيل» كيف يصوغون بروتوكولاتهم في مراكز البحوث ودوائر الاستشراق ومكاتب الخبراء الاستراتيجيين، وكيف ينزلونها منازلها في بلادنا الغافية، فيجعلونها مناهج دراسية واكاديمية ومذاهب فكرية وسياسات حكومية، ونزعات ثقافية، وملامح اخلاقية. وما شئت (او بالاحرى ما يشاؤون) من اساليب وادوات لنُصنَع على اعينهم وليختم على عقولنا وقلوبنا بأختامهم، ويُضرب علينا أُناسي واوطانا بالاسداد؟!.
ألا ان حاجتنا الى «الخيال» كما هي الى «العقل» شديدة، ولا سيما في معترك السياسات ومضطرب الارادات، وبعد ان تداعت الأُمم علينا تداعى الوحوش الضارية على سائمة الانعام. فهل الى بعض هذا «الخيال» او الى شيء منه، ايها «الاذكياء»؛ من سبيل؟!.
وسوم: العدد 657