التغريبة الفلسطينية
لعلي، بداية، أعتذر من الصديق الدكتور وليد سيف كاتب مسلسل "التغريبة الفلسطينية" التلفزيوني، عن استخدام اسم عمله الإبداعي في هذا المقال، وإن كنت أظنّه شكلاً آخر من التغريبة التي أجاد في وصفها منذ ما قبل النكبة وحتى يونيو/ حزيران 1967. وأذكر أننا تناقشنا، بعد عرض حلقات المسلسل، والذي ما زالت محطات فضائية تعرضه منذ عرضه الأول في رمضان 2004، إن كان في نيته كتابة جزءٍ ثانٍ من التغريبة، فاعتذر الدكتور سيف معللاً ذلك بمعيقاتٍ عديدة تعترض كاتب الدراما، حين يتعرض لتاريخ حديث. يومها، تحمّس لكتابة نص درامي عن تجربة الأسرى في السجون، ووعدته أن أساعده في تجميع شهادات، ولم أفعل، ولا أظنه كتب هذا النص، إذ توالت الأحداث على منطقتنا، واتسع مدى تغريبتنا الفلسطينية التي لم تنته فصولها، وتجدّدت حلقاتها، وأخذت أشكالاً جديدة في ظل الأحداث العربية والاقتتال الأهلي الذي عصف بالمنطقة، حتى كادت أهميتها أن تتراجع، لولا جذوة متقدة بقيت مشتعلة في أرجاء الوطن الفلسطيني، لتذكّر بأنّ أصل البلاء الصهيوني جاء من هنا، وأنّ خلاص الأمّة بأسرها من الاستبداد والفساد وتحرّر شعوبها لا بد أن يمر من هنا.
من أين سيبدأ وليد سيف لو أراد الآن أن يكتب فصولاً جديدة في هذه التغريبة؟ هل سيعود إلى حيث انتهى، حين تلاشى الكيان الفلسطيني وتحول حلماً لدى جيل لاحق، ليمتزج هذا الحلم مع منطق الثورة وإرادة التحرير الكامل، لكنّه ولد مسخاً، في أعقاب اتفاق أوسلو. أم أنّه سيسترسل في تصوير أيام الثورة والكفاح المسلح، ثم ينقلنا فجأة إلى دهاليز التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني، ومحاولات إجهاض انتفاضة شبابٍ ولدوا في زمن الردة وتمرّدوا عليها؟ وكيف سيتخيل مشهد محمد القيق، وهو يواجه كل الصلف الصهيوني منفردًا بأمعائه الخاوية، ولا يتحرّك أحد من ذوي السلطة للتقدم، ولو بشكوى أمام المحاكم الدولية، ليس بهدف إنقاذ محمد فحسب، وإنّما للخلاص من منظومة الاعتقال الإداري المستمدة من قوانين الانتداب البريطاني على فلسطين، حيث أمضى معتقلون إداريون فترات تجاوزت عشر سنوات في سجون الاحتلال من دون محاكمة أو لائحة اتهام محددة، إذ يكفي لبقائه في السجن قرار من الحاكم العسكري على ورقة بيضاء، تجدد كل ستة أشهر. أو ما هو حال أكثر من سبعة آلاف أسير اعتقلوا بعد اتفاقات السلام المزعومة، بينهم بضعة وعشرون من أهل القدس وفلسطين المحتلة 1948، من جنرالات الصبر والصمود، ما زالوا في السجون، منذ ما قبل توقيع اتفاق أوسلو، تنصل العدو من إطلاق سراحهم المتفق عليه مع السلطة الوطنية الفلسطينية، شأنه في ذلك شأن كل تعهداته والتزاماته.
للتغريبة الفلسطينية أشكال متعددة، بتعدد أماكن البقاء واللجوء والمنافي. فالفلسطيني الذي لجأ
إلى سورية بعد النكبة، وتمتع فيها على اختلاف عصورها بكل حقوق المواطن السوري في التعليم والعمل والوظائف الحكومية، فقد هذه المساواة في ظل التغريبة السورية الحديثة التي تشابه، بل وتكاد تفوق، تغريبة أهل فلسطين، من حيث مآلاتها ونتائجها وكوارثها الإنسانية، ذلك أنّ الحكومات المجاورة تخشى من هجرتهم إليها، وتقوم بتمييزهم عن جارهم السوري، وتعيدهم من حيث جاءوا إلى حيث الموت والقتل الذي ينتظرهم، وإذا نجح أحدهم بالإفلات، واكتشفته الوكالات الدولية المشرفة على شؤون اللاجئين، فإنّ أبسط إجراءٍ يُتخذ بحقه هو حرمانه من المعونات الإنسانية. أمّا من اختار منهم البقاء في سورية، فقد وقع بين مطرقة النظام وسندان المعارضة المسلحة، في حين اختار بعضهم الهجرة عبر سماسرة البحر باتجاه أوروبا، وضحى عدد منهم بحياته، ثمناً لحلمٍ لم يكتمل.
في الكويت، دفع زهاء 400 ألف فلسطيني أقاموا في الكويت التي احتضنتهم وخدموها بمهج القلوب، ثمن خطأ ارتكبه غيرهم، عندما اجتاح الكويت، ونشأت عنه هجرة قسرية ثانية لآلاف العائلات، أمّا فلسطينيو العراق فكان مصير غالبيتهم، بعد اجتياح القوات الأميركية له البقاء في مخيم على الحدود الأردنية العراقية، مثل أشقائهم من فلسطينيي ليبيا الذين تفضل عليهم العقيد معمر القذافي، وقذفهم إلى نقطة على الحدود المصرية الليبية، تطبيقاً منه لحق العودة، ولكن إلى مجاهل الصحراء.
لم تكن تغريبة الفلسطينيين في لبنان أفضل حالاً، وحجم المتغيرات فيه كانت كبيرة، فمن تحكم جهاز المخابرات اللبناني المعروف بالمكتب الثاني، وحرمانهم من فرص العمل وحقوقه ومن حق البناء والتملك، إلى الحرية الكاملة في عهد الثورة، مع إبقاء البنية التحتية في المخيمات كما هي، تجنباً لشبهات التوطين، إلى المجازر المرتكبة بحقهم، بعد اجتياح بيروت وحروب المخيمات، وعودتهم إلى المربع الأول، من حيث قوانين العمل والبناء، الأمر الذي دفع آلاف الشباب إلى تلمس طرق مختلفة للهجرة.
شهد الأردن، الدولة التي تمتع فيها الفلسطينيون المقيمون في الضفة الغربية بحقوق متساوية بعد دمج الضفتين في إطار المملكة الأردنية الهاشمية، ضجة كبرى في الفترة الأخيرة، بشأن طلب السلطات الأردنية من المقيمين في البلاد من أهل قطاع غزة، والذين حملتهم الشاحنات العسكرية الإسرائيلية عنوة في سنة 1967، وألقت بهم في الأردن، التقدم بتصاريح للعمل والخضوع لقانون العمل الأردني الذي يحدّد المهن التي يستطيع الوافدون العمل بها. لكن، في حقيقة الأمر، ثمّة شرخ أصاب وضع الفلسطينيين فيه منذ مقررات قمة الرباط 1974، وتكرس بعد قرارات فك الارتباط، وإنهاء وحدة الضفتين، وحرمان عدد كبير من الجنسية الأردنية، أو ما يعرف بالرقم الوطني. لم يؤثر هذا الموضوع على الأفراد العاديين، بل وامتد إلى النخب السياسية المرتبطة بالنظام، والتي يصف أحد أبرز رموزها ما شعر به، بأنّه أحس بالغربة والتيه والضياع، أمّا فيما بعد فقد شعر بالاقتلاع.
وعودة إلى الأرض المحتلة التي يواجه سكانها الحرب والحصار في غزة، والاستيطان والاحتلال والخضوع له في الضفة، ومحاولات العدو الصهيوني الدؤوبة لأسرلة المجتمع الفلسطيني في فلسطين المحتلة 1948. وتهاوي المشروع السياسي الذي قسم الفلسطينيين ما بين الشتات والأراضي المحتلة في سنة 1967 والمحتلة منذ 1948، ولم يتمكن من تحقيق أي تقدم أو الادعاء بأي إنجاز.
وسط هذه الصورة المختلطة بالواقع العربي الدامي والمثخن بالحروب الأهلية والإرهاب والتكفير والاستبداد، تطل آفاق جديدة نحو مشروع وطني فلسطيني، يجمع ولا يفرق، ويعيد تشكيل فلسطين مرة أخرى هدفاً مركزياً للأمّة بأسرها. إذ إنّ اشتداد الظلام يؤذن ببزوغ وشيك لفجر قادم.
وسط هذا الزحام، لو قدّر للدكتور وليد سيف أن يكتب الأجزاء الأخرى من التغريبة الفلسطينية، فقد لا يعرف من أين يبدأ، لكنّه قطعاً سيعرف أين سينتهي، وكيف سيكمل تغريبته التي بدأها من ساحل حيفا، لينتهي مرة أخرى فيها.
وسوم: العدد 657