عن بذور الإلحاد وجذوره وثمره (1)

"إن أكثر الأمور استعصاء على الفهم في الكون ، أنه قابل للفهم"

اينشتين

مقدمة :

الإلحاد كلغة : هو الميل عن القصد، أخذ من قوله تعالى :

" وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ " (الحج : 25) أى ترك القصد فيما أمر به ، ومال إلى الظلم.

قال تعالى: " لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ " (النحل:103)

فمن قرأ : يلحدون أراد : يميلون ، ومن قرأ : يلحدون : أراد يعترضون (الموسوعة الإسلامية العامة) ص 196 المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر 1429 هـ.

الإلحاد بالمعنى الإصطلاحي: الشك في الله أو في أمر من المعتقدات الدينية ، وللإلحاد تاريخ طويل حافل ، وله صور كثيرة متنوعة غير ان أوسع معنى له يعزي إليه، هو أنه إنكار للنصوص السائدة عن الله أو المعتقدات الدينية ، فقد أطلقت كلمة ملحد على (اسبنيوزا) لأنه ربط بين الله والعلم على نحو مخالف للفزلكة الدينية اليونانية عن الآلهة، وفي المجتمع الإسلامي اختلفت أسباب الإلحاد فمنهم من ألحد لأسباب من العصبية القومية، حملته على أن يتعصب لدين آبائه من المجوس والوثنية المانوية كما فعل (ابن المقفع) و (بشار) ، وهناك فريق ألحد فراراً من تكاليف الدين وطلباً لسلوك مسلك الحياة الماجنة كما هو الحال بالنسبة إلى كثير من الشعراء ممن ينتسبون إلى عصبة المجان على حد تعبير أبي نواس، وهناك فريق ثالث يتنازعه العاملاني بين سلوك المجان وبين عصبية الشعوبين، ومن هنا أطلق على كل صاحب بدعة ، بل انتهى الأمر أخيراً إلى أن أطلق لفظ (ملحد) على كل من كان يحيى حياة المجون من الشعراء والكتاب وأشهر من وصفوا بالإلحاد، ابن (الراوندي) الذي عاش في القرن الثالث الهجري.

وقد قام رجال الاستشراق منذ ظهورهم مع الفكرة الاستعمارية بدور بالغ الأثر  في إثاره كل (الأفكار الإلحادية) و (حركات الزندقة) التي شهدها التاريخ الإسلامي في عصوره المختلفة حتى يضعف الشعور الديني لدى الشعوب الإسلامية وقد إستطاعوا ولا شك أن يعبثوا  بمنظومات القيم الإسلامية ذاتها التي بدونها يسقط المجتمع وأنت تقرأ وتسمع وتشاهد من البلايا ما يعجز عنه الوصف ، فالواقع شديد القبح وجراءة الجهال على الدين أفظع من كل تصور.

وقد كانت بعض الكتب التي ترجمها الغزالي من الأسباب الرئيسية في تضخم (الفكر الفلسفي) لدينا واختلاطه بعقيدة (التوحيد) حتى صار وكأنه يشكل الزاوية فيها وأصبح لعلم الكلام مباحث طويلة في الإلهيات رغم أنها قضية برهانية كاملة وبعد أن شوهت الفلسفة اليونانية علم الكلام أصبح أقرب للطلاسم منه إلى الفكر المستقيم!!

والمسلم مطالب بالتعامل مع عالم الشهادة والإيمان بعالم الغيب وهو أوضح ما يكون كما جاء في الآيات الأولى من سورة البقرة: " الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)" (سورة البقرة: 1 - 5)

ويقول الدكتور عبد الحليم محمود : "وحينما أنشئت الجامعة المصرية القديمة، واستدعى الأستاذ (سانتلا) لتدريس المذاهب الفلسفية اليونانية ، وجزم منذ بدأ دراسته: أن العلوم الإسلامية مؤسسه، منذ بدء نشاتها على علوم اليونان وأفكار اليونان ، بل وعلى أوهام اليونان" ص 38 من كتابه (التفكير الفلسفي في الإسلام ج1 ، ط 4 ، 1974 ، مصر).

ويستطرد الدكتور عبد الحليم محمود قائلاً : "يتعصب الأستاذ سانتلا إذن منذ محاضرته الأولى لفكرة معينة ووضع سامعيه أمام اتجاه خاص سيسلكه، ولم يجعل هذا الاتجاه قابلاً للاحتمال أو الأخذ والرد وإنما أطلق الأمر إطلاقاً عاماً وجزم به في صورة لا يستسيغها العلم الدقيق" (ص  38 من التفكير الفلسفي).

تعصب ذميم !

       وهكذا تأسس في الجامعة المصرية (الفكر التغريبي) وغرست (المفاهيم الوثنية)! وقد أطلق بعض من كتابنا على (ٍسانتلا) وأمثاله أنهم علماء وأساتذة!! جرائم كبرى لتحريف تاريخ الأمة وكسر شوكتها. ثم استدعى (كريستوفر سكويب) المستشرق البغيض ليكون على رأس كلية الآداب فتخرج من تحت يديه الدكتور (لويس عوض) صاحب كتاب (قصائد من بلوتو لاند من شعر الخاصة) كما دون على الغلاف!ثم كان تعين الدكتور طه حسين مدرساً للأدب العربي بالجامعة المصرية!!! وتوالت الهجمات الشرسة على أدب الأمة ولغتها تمهيداً لاستزراع ثقافات مغايرة.

وفى الحقيقة أن المتتبع للفكر الفلسفي يشعر بالرثاء على الإنسان وعلى المأزق الفكري الذي اوقعته فيه الديانتين اليهودية والمسيحية فقد أوقعته هاتين الديانتين ـ وهو لا يدري ـ في أكبر مأزق فكري على مدار تاريخه وحضارته وقد أنعكس أثار هذا المأزق الفكري وإن لم يكن في هذا أدني مبالغة، على فكر الفلاسفة والمفكرين الغربيين، حتى أصبح الآن كما كان قبل ، يدور حول كيفية الجمع أو التوفيق بين فطرة ناصعة لوجود إلهي متعال ذى صفات كمآلات مطلقة، وبين دين هابط دون مستوى الحضيض يقول بوجود إله وثنى خرافي .. قبل بأن يضرب بكل نعال الأرض من الإنسان مخلوقه .. تحت دعوى محبته للإنسان!! وهكذا أنتجت التجربة الدينية اليهودية/المسيحية أما إنساناً يحاول الجمع بين المتناقضات، لهذا يتهمه علماء النفس بالمرض ـ النفسي ـ عندما يجدوه يجد في البحث عن المبررات الفاقدة للعقل والمنطق معاً حتى يمكنه الاحتفاظ بالدين بشكله الراهن وأما إنساناً يحترم عقله ويرفض هذا الفكر الديني الوثني برمته!! ثم يذهب يتحرى الحقيقة في مكان آخر، في شكل فلسفة ما .. أو مذهب ما ... !! عدا البحث عن الله بشعور مخلص في دين حق ، بعد أن كفر بدينه هو" الحقيقة المطلقة ص 516 للدكتور محمد الحسيني إسماعيل ، مكتبة وهبه، مصر 1416 هـ.

ولا أدرى لماذا تذكرت قول (روجيه جارودي) في كتابه لماذا أسلمت؟ نصف قرن من البحث عن الحقيقة. قال رحمه الله عن العالم المسيحي ومبشريه (بأنه تكاد تكون من سخرية الأقدار أنهم يريدون أن يفرضوا على الآخرين مسيحية يهزأون منها في كل عمل من أعمالهم).

نخلص مما سبق إلى:

أن الإلحاد كلغه هو الميل عن القصد وهو الشك في الله بالمعنى الاصطلاحي وهو قديم وقد ابتعثه الاستشراق وروج له لإفساد عقيدة الأمة وتلويث فكرها المستمد من دينها فتصبح أكثر استعداداً للسقوط وكانت وسيلتهم إحياء اليهودية والنصرانية واعتبارهما منزلتان من عند الله استناداً إلى مفاهيم العامة والدهماء عنهما ولم ينزل الله سبحانه وتعالى ديناً يهودياً أو نصرانياً إنما الدين الذي أنزله الله من السماء هو الإسلام دين كل الأنبياء من لدن سيدنا آدم حتى سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليه وسلامه، وقد ساعد استخدام المفاهيم اليهودية والنصرانية على تشتيت ذهن العامة وباتت تلكم المفاهيم شديدة الالتصاق بالعقيدة في أحوال كثيرة وتداولها العامة بالإضافة إلى التهليل الإعلامي المنقطع النظير لما يطلق عليه حوار الأديان! أى أديان؟؟!!

وأى حوار يكون بين مجتمع الكحول ـ كما يسميه الدكتور مراد هوفمان ـ ومجتمع المآذن؟

إنه فقط (التعارف) كما أمرت به الشريعة لقد بذرت البذور ي أوان مبكر، لم تقبلها الأرض في وقتها فقلبت الأرض وتعرض باطنها للإحراق ثم بذرت الأرض مرة أخرى بل مرات كثيرة حتى أنبتت نباتات هزيلة تم تغذيتها حتى استوى عودها واستقام فكان منها ما كان. بذرة ألقيت في أرض خصبة قوية وتمت رعايتها فأثمرت كل ما نراه من مفاهيم ضالة مضلة أفسدت عقل الأمة ولا تزال وسوف تستمر طويلاً. 

وسوم: العدد 658