خمْسُ نساءٍ في يومٍ واحد
بعد صلاةِ الجمعة، أوصلُ صديقة أمي العجوز من المسجد إلى بيتها الصغير، وفي الطريق يسيل كلامها العذبُ دعاءً وعسَلا، سلْسلًا من سلْسلٍ، أعلم من خلاله أنها تحمل في بيتها الذي لا تتجاوز مساحته الستين مترا مربعا ابنها الأربعينيّ العاطل المريض، وزوجته وأولاده، وأنها راضية رضى يختزل كل معاني الفطرة الطيبة، رغم كل آلام المرض، وتقدم السن، وأذى جارها بائع الدجاج... أسعد كثيرا بهذه المرأة الموصولة بالسماء، وقد جاءت من أقصى المدينة تسعى إلى هذا المسجد البعيد، وأقول لنفسي: "ما أزكى طينة هؤلاء الناس الطيبين!"
في المساء تأتي زوجتي مكالمةٌ يسري منها في ركبتيْها خِدرٌ كبنج ما قبل العملية الذي يفقدك الشعور بالأعضاء، تنهار، وتناولني الهاتف لأتم المكالمة. "آلو، ابنكم في المستشفى الجامعي لحادث تعرض له". بثباتٍ أسأل من وراء الجهاز بعد الشكر: "أأنتم إدارةُ المؤسسة التي يدرس فيها؟" تجيبني: "كلّا، أنا فقط أوصلته إلى المستعجلات". هرعنا في الحين إلى هنالك، وحمدنا الله على سلامة الولد. لم تكن المتصلة غير فتاة في عمر الزهور، حملت الولد إلى المستعجلات في سيارتها لما وجدته مضرجا في دمه، قبل أن تتصل بنا. لم تستطع عبارات شكرنا أن توفيها معشار ما نشعر به إزاءها من امتنان، غير أن بالغ الفرحة التي غمرتني لم يكن إلا في السرّ التالي: "لا يزال هناك طيّبون يَكفرون – كما كفرتُ طيلة حياتي – بالأنانيةِ التي تسفر عن وجهها القبيح في ما يردده الجُهال: "ما تديرْ خيرْ، ما يطْرا باسْ"... نديرْ الخيرْ، وأتحداك أيها الباسْ، غي طْرا إلى بغيتْ تْطرا!
عونُ الصيدلية – على خلاف مالكتها – في غاية الكرم الإنساني التواصلي، من الابتسامة الصادقة، إلى الدعاء بالشفاء وهي تسلمك الدواء، فيكون ذلك أول بلسم لجروحك أو جروح مريضك. شابة متحجبة، أنيقة العبارة، لطيفة المعشر، خدومة للغاية. قالت لي: "إليك سرّي الذي اقتنعتُ أخيرا أن أعمل وفق مبدئه: اشتغلتُ من قبلُ لإرضاء أرباب العمل، فاكتشفتُ أني كنت واهمة كوهم المتأمل ماءً من سراب. الآن أنا مُوقنة أن الله تعالى أقامني في هذا المكان لأكون في خدمة عِياله الناس مخلصة لوجهه الكريم، لا غير. ولذلك أجِدُني في غاية الحبور والمسرَّة وأنا أضمّد بالكلمة الطيبة جروح كل مريض، بينما تركتُ جروحي خلف ظهري في البيت الذي أعُوله".
يتصل بي طالبٌ مُجِدّ ليطلب مني عنوان عمل سردي مغربي ليشتغل به، شريطة ألا يختزل المرأة في مركزية الأنوثة على غرار عُقدة ما بعد الحداثة النسوانية، فتقفز إلى ذهني خيارات قليلة جدا، أقول له بثقة: "جاثية تحت قدميها" للقاصة حياة خطابي. هذه المجموعة القصصية التي كتبت بلغة في غاية الشفافية والأناقة السردية متميزة من زاويتين: زاوية رؤية الساردة المفعمة بإنسانية الزيجة والأمومة النابضة، وزاوية تيمات امرأة مغربية مثقفة أصيلة. كنت سأقول هذا الكلام من دون أن أعرف القاصة شخصيا، فكيف بي وهي زميلة كريمة؟
قبل النوم، أمتع ذهني كالعادة بجولة ثقافية أو علمية أو تاريخية مع "الجزيرة الوثائقية". ما أشد ألمي الليلة! لأني أكتشف معاناة نساء أطلسنا المغربي القريب عبر قناة الجزيرة البعيدة. يا للغرابة، ويا للسعادة بوسائل الإعلام والتواصل الحديثة التي كسّرت ديماغوجية "العام زين"! شريط "قرى بدون رجال" يرصد بشكل صحفي مندمج صورًا يومية لنساء يقطرن آلاما مبرّحة في صراعهن مع الفقر والبؤس وقساوة العيش من أجل البقاء ولقمة خبز حلال.
لن تجد لرضى صديقة أمّي وتضحيتها، ولا لخيريةُ منقذة ابني وإيجابيتها، ولا لإخلاص عون الصيدلية وطيبوبتها، ولا لأصالة زميلتي القاصة وأناقة قلمها، ولا للُقمة نساء الأطلس الحلال ولذتها، صوتًا ولا صدًى في وسائل الإعلام الرسمية، لأن "ترسيم" التفاهة لتتْفيه عقول المغاربة وتسفيهها رهانُها على كل الصُّعد: إنسانيا واجتماعيا وقيميا وفنيا... لذلك لا شك أن أسماعنا وأبصارنا قد تلوّثت كثيرا، وأن مخيالنا الجمعيَّ قد جُرح عميقا، بسبب صور نمطية مبتذلة للمرأة المغربية، في أمثال ما تكرسه برامج أو صور "مدام مسافرة" و"الحبيبة أمي" و"ستوديو دوزيم" والأمهات العازبات و"الشين اللي فيك" ولبنى أبيضار ودنيا باطمة وغيرهن من النكرات التي يُراد لها أن تسكن مخَّ المغاربة ومُخيْخهم وبصلتهم السيسائية، حيث لا تقدّم المرأة إلا باعتبارها سلعة للاستهلاك، أو جسدا للإثارة والتخدير، أو "مسنطحة" ترفع عقيرتها بوقاحة، أو ضحية هشة، أومجرمة "متضاحية"، وحيث لا مكان للمرأة الأصيلة المعتزة بشرف الانتماء، ولا للمرأة المتحررة من سلطة الجسد والماكياج، ولا للمرأة المثقفة المفكرة بعمق، ولا للمرأة الفاعلة عضويا... وصدق حتّى النخاع من وصف تلك القنوات بأنها – حاشاكم – قنواتٌ "للصَّرف الصحي"، ولست أدري إلى أي مستنقع آسنٍ أو "مطمورة" تتجه بالمجتمع!؟
وسوم: العدد 660