بين التطبيق والتشدُّد

(هذا أول مقال نُشِرَ لي، وكان نشره في مجلة التربية الإسلامية (البغدادية)، في العددين: العاشر والحادي عشر، المؤرَّخَيْن بـشوال، وذي القعدة سنة (1404هـ)، = تموز، وآب سنة (1984م)، السنة "25"، أحببتُ إعادة نشره هنا، عسى أن يكون فيه فائدة، ونسأل الله التوفيق):

في زمانِنا هذا انحرفَ الكثيرُ عن الأفكار الصالحة، وأصبح للنّاسِ ميزانٌ جديدٌ يَعتمدُ على الهوى والنزعات النفسيّة يُقوِّمون به سلوكَهُم وسلوكَ غيرِهم، وللعودة إلى النَّهج الصحيح لا بُدَّ مِنْ إِحكام الفكر، والتزوُّد من الثقافة الدينية الإسلامية بسلاحٍ متينٍ يُقاوِمُ صدأ الأيام، وتياراتِ الانجراف الأعمى الوبيل.

ومِنْ انحرافاتِ زمنِنا هذا وسقم رأي أهلهِ تسميةُ الالـتزام بمبادئِ الـدِّينِ الحنيفِ (تشدُّداً)، أو(جموداً)، أو(تعصُّباً)، أو ما شاكلَ ذلك.

ولعمري إنهم بمقولتهم هذه لا يُفرِّقون بين التبر والتُرب، والشِّعر والشعير، وإلا فمتى كان الأخذُ بكتابِ الله وسُنّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم تشدُّداً وتزمُّتاً؟!

ومتى يصحُّ إسلامُ المُسلم ويَحْسنُ إنْ لم يَلتزم الأمرَ، ويضربْ عن المنَهي صفحاً؟!

وما هذا الذي يُسمّونه بالتشدُّد إلا الورع والحيطة مِنْ أنْ يقع المسلمُ في المنهيات، فمَنْ حامَ حول الحمى يُوشِك أنْ يرتعَ فيه كما قال عليه الصلاة والسّلام.

بل أستطيع أنْ أقول: ما التشدُّد هذا إلا التزامٌ هادئٌ لم يَبلغ الشُّموليةَ المُبتغاةَ فضلاً عن وصوله إلى درجة العُنف والتزُّمت.

يجبُ أنْ نُفرِّق - أيها الإخوة - بين ما هو مطلوبٌ منا عملُهُ وغيرُ مسامحين في الهوادة فيه، وبين ما لنا حقُّ الاختيارِ في الادِّراع والتسُّور به، خيفةَ التدرُّج شيئاً فشيئاً ومِنْ ثَمَّ السقوط في مُستنقع المخالفة والإثم.

ومَنْ أراد رضى اللهِ ورسولهِ فعليه ألا يلتفتَ إلى رضى الآخرين أو سخطهم، فما هو بالفيصل الـعَدْل ولا الحَكَم المَرْضي.

وإنَّ الالـتزامَ يجبُ ألا يـقتصر على جانبٍ دون جانبٍ، أو على الأخذِ بـ (جوهر الدين)، وتركِ ما يُكلِّفنا به مِنْ أعمالٍ وأفعالٍ، بناءً على أنّا أخذنا بالجوهر فلا يَضرُّنا تركُ (الأشياء الجانبية).

الالتزامُ يَعني التطبيقَ التامَّ لكُلِّيات الإسلام وجُزئياته على حدٍّ سواء، فلا نُفْرِطُ في زاويةٍ ونُهمِلُ زاويةً أخرى، ولا نجعلُ شعارَنا عملاً مُعيّناً ونتخلى عن الشعارات الأخرى كي لا نُتّهم بما ذكرتُه من اتهامات.

وأخيراً - أيها الإخوة - فالإسلامُ ثوبُ الحياةِ السابغُ النظيفُ فلنرتدهِ ــ قلباً وقالباً ــ ثوباً سابغاً نظيفاً، ولنحافِظْ عليه مِنْ كدرِ الشرور، وآثامِ الشيطان، ولنضعْ أمامَنا دائماً أنَّ الحقَّ أحقُّ أنْ يُتَّبَعَ.

وسوم: العدد 661