حنين حول ذاك الزمن الذي مضى

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

(1) 

كثيراً ما تمر على أحدنا حوادث ومصادفات يومية تكون سبباً لتذكرنا واسترجاعنا أشياءً وأحداثاً مررنا بها فيما مضى من أيام وسنين خلت، فتقفز في التو والحال إلى أذهاننا صوراً وتداعيات وومضات من ماضينا البعيد وزمننا الغابر، إلى حد أن بعض هذه الأشياء كانت وقتها في منتهى التفاهة والبساطة والصغر، ولم تكن في حينها شيئاً مذكوراً، إعتقدنا معها وحسبنا أننا نسيناها وأن الزمن قد عفا عليها، وأن الدهر قد أكل عليها وشرب، وصارت نسياً منسيا.

إن هذه الأشياء البسيطة والصغيرة، كثيرة في حياتنا، ولم تكن في لحظة وقوعها تشكل اهمية تذكر، إلا أنه نتيجة لحدث عابر أو لشيء طارئ نفاجأ بها بازغةً وطافيةً في أذهاننا وأمام ناظرينا بدون أي سابق إنذار، فتشعل في نفوسنا حرائق من الشوق لا ينطفئ وحنين لا يهدأ، ليس لتلك الأشياء البسيطة والصغيرة فقط، وإنما أيضاً لأشياء أخرى أحاطت بها، من أمكنة عشنا بها وترعرعنا في مرابعها وربوعها، أو وجوه أشخاص، صاحبناهم وصاحبونا، أحببناهم وأحبونا.

ألم يصادف أحدنا أنه التقى وجه أحد لم يره منذ سنين طويلة خلت، حتى تداعت له الذكريات من ذاك الزمن الذي مضى؟. ألم يصادف أن شم أحدنا رائحة ما، حتى قفزت إلى ذاكرته وفاحت منها وجوه أشخاص لهم روائحهم الخاصة وعطرهم المميز، أو أخذته الذكرى إلى أمكنة تفوح منها روائح وعطور تخصها وتميزها؟. ألم يصادف أن أحداً منا شاهد صورة ما، فإذا به يجد نفسه يستعيد ذكرى وجوه من زمن بعيد، منهم من رحل ومنهم من ينتظر وقد بلغ بهم العمر عتيا؟.

ها أن الزمن يمضي، والأشياء التي تستفز فينا الذاكرة كثيرة، ما أن تباغتنا، حتى ينفتح شريط الذكريات بحلوها ومرها. فعنوان كتاب يقفز بذاكرتك إلى بدايات وأجواء وأوقات اهتمامك بالقراءة، أو إلى الأثر الذي تركته بعض عناوين الكتب في توجيه وعيك وفكرك. وفي مرات أخرى تقفز إلى ذاكرتك وجوه أناس كانت لمعرفتنا بهم تأثيراً وأثراً ما في تحويل بوصلة واتجاه خياراتنا الشخصية والحياتية.

كم وكم هي جميلة أيضاً تلك المفاجآت المبهجة التي تباغتك، ومن دون قصد، فتعيد بذاكرتك مرة أخرى إلى مقاعد الدرس والتحصيل صغيراً، تتعرف وتتعلم حروف الهجاء والأبجدية، ومردداً ومكرراً خلف معلمك وبصوت عال طريقة هجائها ونطقها. ليجعلك هذا المشهد تعاود التأمل والتفكير والمقارنة بين حال الأمس وحال اليوم، حين تغيرت فيه الأحوال وتبدلت تبدلاً كبيراً، وانفتحت فيه الآفاق وتوسعت مجالات العلوم والمعارف، في زمان عالمي متغير وسريع التحول.

إننا ما أن نذكر ونسترجع هذه الذكريات الجميلة، إلا ونصاب بالشوق والحنين إليها، ويحلو لنا التغني بها، وتمني تكرارها، ونتوق لعودتها، والعيش في زمانها مرة أخرى.

والذكريات السيئة والمرة، كما هي الذكريات الجميلة والحلوة في حياتنا، تستدرج وتعاد، إلا أنها غالباً ما تذكر بألم وحسرة، ومصحوبة بالشكوى على ما فات وضاع من أيام وسنين، كان يمكن أن تكون غير ما كانت، لو تيسرت أثناءها ظروف مختلفة. إلا أن ما حدث قد حدث، وما فات قد فات، وما ضاع ذهب، و لات حين ندم. فاليوم نحن أمام أحداث جديدة وظروف مختلفة، قد تكون أفضل أو قد تكون أسوأ، إلا أنها بكل تأكيد لها دورها المؤثر في تحديد الخيارات الأساسية للأجيال الجديدة في هذه الحياة، وهي أيضاً عاملاً قوياً ومرجحاً في صنع تبدلات وانقلابات تعيد توجيه المصائر والأقدار، وكما يذهب إلى ذلك الكاتب البحريني حسن مدن مصوراً ومعبراً عن هذه الفكرة بالقول (إن الأمر الذي ينطوي على شيء من المفارقات الغريبة حين نلاحظ أن حدثاً عابراً للغاية، أو مجرد مصادفة لم يكن في التوقع أو الحسبان هي ما يصنع لنا مصيراً كان قبل حدوثه ببرهة وجيزة في طي الغيب)[175] .

إن مما لا شك فيه أن هذه الأشياء والظروف وملابساتها، تؤسس لذاكرة جديدة ومختلفة، سنعود لذكرها وتذكرها واسترجاعها والحديث عنها عندما تباغتنا المصادفات في المستقبل، تقفز على أثرها الذكريات بطعم ورائحة يفوح منها عبق من الماضي.

إذا كانت تلك الأشياء البسيطة والصغيرة في حياتنا، قد ألقت بظلالها علينا، وفعلت فعلها فينا، وأشعلت في نفوسنا الحنين، فكيف إذاً هو أثر تلك الأشياء الكبيرة، والأحداث الأعظم، التي مررنا بها، أو كنا شهوداً عليها، أو كنا جزءاً منها؟ وكيف ستكون تداعياتها ووقعها علينا عندما نستعيد تذكرها؟

لعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، أمام وقع وأثر هذه التداعيات، هو كيف ننجح في توثيق وكتابة وتدوين ذكرياتنا، وهذه المصادفات، وتلك اللحظات النادرة في سيرتنا، عندما انقلبت فيها الأمور والأشياء رأساً على عقب واتخذت مجراً مختلفاً عن الذي كان يجب أن تأخذه بالفعل؟ وهل يمكن لنا نحن أبناء اليوم أن نسجل للأجيال القادمة يوميات ذاكرة حياتنا الجديدة والحادثة؟ وهل لنا أن ندعي يوماً ما أننا قد تركنا لمجتمعاتنا أثراً وإرثاً وبصمة تضاف إلى مخزون ذاكرة المجتمع؟.

II

ليس كل منا قادر على استعادة وتذكر أحداث ماضي حياته ووصفها بسلاسة وطلاقة، أو هو متمكن من التعبير عن ذكرياته بصفاء ووضوح، لا تشوبها وتعكرها شائبة. إلا أنه مع ذلك هناك من يمتلك ذاكرة قوية وحيّة وقّادة، لا تفوتهم لا الشاردة ولا الواردة، تراهم يحدثونك عن أشياء حدثت بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة بدقة متناهية، كأنك وأنت تستمع إليهم، تشاهد شريط سينمائي يعرض أحداثه ويصورها بشكل جذاب ولذيذ وطازج.

هؤلاء وخصوصاً المعمرين منهم، كيف لهم أن يسجلوا ذكرياتهم ويدونوها للأجيال القادمة، لتكون وثيقة تصف وتشرح مشاهداتها ومعاناتها والتحولات الكبرى التي جرت وواكبوا حدوثها في مجتمعاتنا الخليجية على وجه الخصوص، عندما كانت هذه المجتمعات تئن تحت وطأة حياة صعبة وقاسية ومؤلمة قبل اكتشاف النفط، وما صاحب اكتشافه من تحولات وتداعيات دراماتيكية أثرت علي حياة الناس وشؤونهم، وفي كافة المجالات وعلى جميع الصعد والمستويات طوال معظم فترات القرن العشرين.

لقد كانت منطقة الخليج خلال تلك الفترة عرضة للتغير الدائم والمستمر، أدت إلى حدوث متغيرات بنيوية وأساسية فيها، وهو ما كان يستوجب تسجيل هذه الحركة ورصد هذا التغيّر كي لا يفقد الإنسان في هذا المكان روابط الود والانسجام مع الأشياء التي كوّنت جذور وملامح هويته. (فالمكان، رغم الثبات النسبي الذي يميزه مقارنة بأمور وحالات أخرى، عرضة للتغير الدائم، وكل فترة تختلف، بمقدار، عن الفترة التي سبقت أو عن الفترة التي ستأتي، الأمر الذي يجعل حتى الجغرافيا، ليس بالمفهوم السياسي فقط، في حالة حركة وتغير، مما يستوجب تسجيل هذه الحركة ورصد هذا التغير، من اجل إقامة علاقة أكثر سلامة وأكثر ثباتاً بين الإنسان والمحيط من خلال الفهم، وبالتالي الانسجام، مع حركة الأشياء والكون، وكل محاولة للتحدي تتجاوز مقدار معيناً، أي طاقة الاحتمال لدى العناصر الأخرى، يمكن أن تؤدي إلى الاختلال، ومن ثم النبذ، وقد تصل إلى درجة الدمار)[176] .

إن التحولات الاقتصادية والعمرانية والديموغرافية الكبيرة التي تعرضت لها منطقة الخليج، انعكست بشكل كبير على بنيته الاجتماعية، وأدت إلى إعادة تشكيل المدن والقرى والجغرافيا المحيطة بها، بحيث أصبحت شيئاً مختلفاً عما كانت عليه من قبل. فتم إزالة أشياء واختفت أشياء أو تبدلت حتى أخذت تتلاشى صور الأماكن الفعلية القديمة لتحل بدلاً عنها أماكن تم صنعها وبناءها وصياغتها بطريقة قد لا تعبر عن ترابط وامتداد طبيعي مع الماضي. وعندما يغيب الذين ولدوا على تلك الأرض وعاشوا فيها، ولم يسجلوا ويدونوا ويوثقوا معالم المكان وما يميزه، فسوف تندثر المعالم والأسماء والأشكال لتولد جغرافيا جديدة ومختلفة.

وكما تقول فاطمة الصايغ عن تلك المرحلة من الزمن أنه (في الخمسينات من القرن العشرين كانت منطقة الخليج عامة تعاني من شح الموارد الاقتصادية علاوة على تأخر قطار التنمية أو حتى عدم استطاعته الوصول إلى بعض محطات دولة. كانت المنطقة برمتها تعاني أزمة اقتصادية طاحنة أثرت في جميع مناحي الحياة ورمت بظلال كثيفة على الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية،... وتضيف الصايغ... أنه بعد مضي نصف قرن تغيرت فيه الأحوال وتبدلت خلاله مجتمعات الخليج تبدلاً كبيراً حتى لم يعد هناك من مجال للمقارنة بين خليج الخمسينات وخليج الألفية الثالثة. حيث انتهى خليج الكفاف والفقر الاقتصادي وبدأ خليج النفط بكل طفرته وثروته، وتقلباته وأزماته، وأمنياته وتمنياته)[177] .

هناك تحولات كبيرة وهائلة حدثت وطرأت على مجتمعات الخليج، وأجيال اليوم يصعب عليها استيعاب هذه التغيرات وإدراكها وفهمها، إذا لم تكن هذه المتغيرات مرصودة وموثقة، بسبب حالة الصخب والتوتر والزحام والانشغالات اليومية التي تبعدها عن الاهتمام بملاحظة هذه المتغيرات التي تتراكم وبشكل تدريجي على توالي الأيام، حيث تفقد وتندثر آثار وكنوز تعبر عن هوية المكان وشخصيته والملامح المميزة له. لقد تغيرت حتى الأنماط السلوكية لمجتمعات الخليج تغيراً جذرياً عمّا كان سائداً قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن حيث (تغيرت الأنماط المعيشية تغيراً كبيراً الأمر الذي غير من أسلوب الحياة الاجتماعية تغيراً تاماً. كما دخلت أنماط غربية مستوردة لكي تحتل جوهر الحياة الاجتماعية. وتقهقرت بعض الأنماط التقليدية الايجابية لتحل محلها بعض الأنماط الجديدة التي نراها ونصادفها في حياتنا اليومية)[178]  وهو ما يؤشر إلى أننا دخلنا في مرحلة مجتمعية جديدة ومسار جديد نمضي فيه، له سلبياته التي يمكن أن تؤدي إلى اختلالات قيمية، وبروز أنماط مجتمعية ومعيشية مغايرة ومختلفة، تنتج عن هذه المتغيرات البنيوية الجذرية التي فرضتها رحلة الإنتقال إلى التحديث في منطقة الخليج.

هاهي الأيام تأتي وتذهب، ولا يمضي يوم إلا ونفقد فيه أحداً من هؤلاء المعمرين من الذين عاشوا تلك المراحل الصعبة من حياة هذه المنطقة، لنفقد برحيله ذاكرة من الماضي تأخذ معها جزءاً من تراث هذا المكان ويدفن معها إلى الأبد، وكأنه لم يمر من هنا من عاش فيها وسقى الأرض واستصلحها وشقى في بنائها وعمارتها.

إن الاحتفاء بالمكان والحرص على تصويره والكتابة عنه في مراحله المتعاقبة ليس سمة من سمات الثقافة البارزة التي يمكن ملاحظتها في علاقة الفرد بمحيطه في منطقة الخليج. فالكتابات التي تتناول المدن وتصورها وتتحدث عن تطورها وتحولاتها وتوثقها هي من النادر وجودها (وتبدو الكتابة عن المدن بنظر الكثيرين، خاصة في المرحلة الحالية، أمراً زائداً أو لا ضرورة له إذ يفترض هؤلاء أن الأماكن التي يعيشون فيها من الألفة، وبالتالي من العادية إلى درجة لا تستوجب الالتفات، فما دام الجميع يرونها كل يوم، وتجري أحداثها أمام أنظارهم، فقد أصبح منظرها مألوفاً، وأحداثها معروفة تقريباً بقدر متساو، بحيث لا تحتاج إلى تسجيل أو تثبيت. قد تكون هذه النظرة مفهومة، وربما مقبولة، إذا اقتصرت على الرؤيا الخارجية، أو تحددت بالزمن الآني، لكن ما أن تتسع الرؤية، وتتجاوز القشرة أو النظرة الأولى، وما أن يمتد الزمن وتمر الأيام، وتتغير الصورة، حتى نكتشف كم كانت الخسارة كبيرة نتيجة قصور في التدوين وإغفال التفاصيل)[179] .

لقد رحل الكثيرون وماتت معهم الذكريات ولم يخلفوا لنا إرثاً وتراثاً يحكي عن تجاربهم ونضالهم وكفاحهم في هذه الحياة، سواء كانت هذه التجارب فردية أو جماعية، والتي تدلل على عطائهم وما تركوا من أثر وما وضعوا من بصمة في سيرة ومسيرة المجتمعات التي سكنوا وعاشوا فيها طويلاً.

إن هذه الأمكنة تغيرت خلال تلك السنوات الماضية كثيراً، إلى الدرجة التي لم تعد لها صلة بما كان قبلاً. فحجم التغيّر الذي حدث أدى إلى قطع أو تشويه وتبدل الصورة تماماً، و (الذين كان يفترض بهم تقديم صورة أدق وأكمل عن تلك المراحل لم يفعلوا لا بالكلمة المكتوبة ولا بالصورة المرسومة، وهكذا ضاعت أشياء لا تقدر بثمن، ولا يمكن تعويضها)[180] .

إنه لمن المؤلم والمزعج أن يرحل هؤلاء بدون أن يدونوا ذاكرتهم، ولعل السؤال الموجّه للباقين من الأحياء، أطال الله في أعمارهم وأمدهم بالصحة والسلامة والعافية، عن مدى قدرتهم على تدارك ما فات، خصوصاً أن منهم الذين مازالوا يملكون ذاكرة قوية وخصبة، يمكن استفزازها وتنشيطها لتنهض وتنفض الغبار عنها، لتتمكن من استرجاع ما اختزنته في ذاكرتها من أحداث وقضايا وأشياء يمكن تسجيله وتوثيقه. فإذا لم يكتب الأوائل عن أماكنهم أو يسهبوا بوصفها وما تتميز به من مناخ وتضاريس وعادات وتقاليد وأسلوب حياة، بحيث تعتبر هذه الكتابات، في الوقت الحاضر مرجعاً أساسياً لمن يريد الكتابة عن المنطقة خلال تلك الفترات، فإنه من الأجدر بالأحياء المبادرة للتعويض عمّا فات، خصوصاً أن كثيراً منهم يملك القدرة والإمكانية على الحكي والقص والتخيّل والتصوير والتذكر بيسر ووضوح وسهولة.

لقد مرت على منطقة الخليج تطورات وأحداث سياسية صاخبة مازال كبار السن إلى يومنا هذا يذكرونها ويروونها ويحكون عنها. فعلى الرغم من الأمية والتخلف والجهل التي عانته المنطقة حيث (لا يعرف أغلبية سكانها القراءة والكتابة، ولكنها من ناحية أخرى، تسمع وتتفاعل مع كل ما يدور في المجتمعات العربية الأخرى من أحداث وتطورات وثورات وتغيرات راديكالية، مجتمعات عاش أهلها عيش الكفاف، وعلى الرغم من ذلك تتبرع لمصلحة الأقصى وفلسطين والثورات العربية الأخرى)[181] ، عندما انبرت ثلّة من النخبة المتعلمة وذات المشارب الثقافية المتنوعة، في إحداث حراك ثقافي وفكري نتج عنه إثارة مشاعر التعاطف مع القضايا الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية.

لذلك هناك ضرورة تستحق العناية والاهتمام تقتضي نقل وتحويل ما تحفظه الذاكرة الشفوية لمجتمعاتنا إلى ذاكرة مدونة وموثقة حتى لا تتعرض للضياع والنسيان والتشتت وبالتالي لا تتعرض علاقة الإنسان بأرضه للاهتزاز والتآكل، فالكلمة المكتوبة تجعل للمكان حضوراً وهيبة وثقلاً يتجاوز الذكريات والحنين، وهو ما يؤكد عليه عبد الرحمن منيف بقوله (لو أن الفكر العربي أكثر عمقاً ورصانة وحرصاً لأعطى للأمكنة ما تستحقه من عناية واهتمام، ليس من خلال ما تحفظه الذاكرة الشفوية، وإنما من خلال ما تحفظه الذاكرة المدونة والموثقة، فالكلمة المكتوبة عندما تترافق مع الصورة، مع الوثيقة التاريخية، مع الوصف الحي، تجعل للمكان حضوراً يتجاوز الذكريات والحنين، وينتقل من جيل إلى الذي يليه عن استحقاق وجدارة، ويصبح ثابتاً وأكيداً، لأنه جزء من الذات، وتعبير عن ملامحها، والشيء المميز لشخصيتها. أما إذا بقيت الذاكرة العربية معتمدة على الثقافة الشفوية، أو متكئة على مدونات الآخر، ولا ترى في المكان سوى الجماد والثبات، فإن علاقة الإنسان بالأرض، أي بالوطن، عرضه للاهتزاز ثم للتآكل... ثم يضيف منيف... أما حين أهمل الإنسان الكتابة، أو حين لم تعد الكتابة وسيلته الأساسية للتعبير، بسبب الجهل وظلام العصور، فإن الكثير من الكنوز، على مستوى المعرفة والثقافة والجمال، طواها الإهمال ثم النسيان، وأصبحت كما أنها لم تكن في يوم من الأيام، وهكذا خسرت الإنسانية الكثير في رحلتها الشاقة والطويلة، والسبب الأساسي عدم القدرة، أو الكفاءة، في التعامل مع المادة المتاحة)[182] .

III

ألم يئن للذين عاشوا الحياة خلال معظم فترات القرن الماضي، وهي من أهم وأدق المراحل والمفاصل التي مرت بها منطقة الخليج، أن تنشرح قلوبهم وتنفتح قريحتهم وتنفرج مغاليق ذاكرتهم، وتخرج عن صمتها وبلادتها، لتقول وتحكي عن ذكرياتها، وتسجل وتوثّق تجاربها الفردية والجماعية، وعلى كل المستويات والمجالات التي تخصصت بها وشغلتها واهتمت بها. فهم الذين عاشوا هذا الزمن، وهم الأقرب إليه، تابعوا تجاربه وعاصروه ورأوا رأي العين المشروعات تظهر والعوالم تتبدّل وتتغيّر وتتشكّل، وبعضهم كانوا شهوداً على عهود ارتفعت فيها شعارات التحرر والثورة والإنقلاب والتقدم والتراجع، أو شاركوا وتصدّوا وقادوا معارك الصراع خلال بعض تلك الفترات والمراحل.

إن الأمر الذي يجدر الاهتمام به والتفكير فيه هو كيف يمكن استثمار هذه الطاقات المهدرة والمشتتة، وتنمية قدراتها وتحفيزها، لتتحول من حالة قصصية متخيلة محكية، تنتهي برحيل أصحابها، إلى حالة كتابية نصوصية مكتوبة تخلّد أصحابها وتسجّل وتوثّق ذاكرة مجتمعاتها؟. كما يقول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل متحدثاً عن تجربته الشخصية كصحفي عاش عمراً مديداً في هذه الحياة ومستخلصاً منها الدروس والعبر: (الشاهد إنسانياً أن كل واحد منا في خاطرة أمنية مشروعة تطمح إلى اعتراف الآخرين بأن دوره كان نافعاً لمجتمعه وأنه ترك على سجلاته علامة أو بصمة وأضاف موقفاً أو فكرة إلى المخزون العظيم من ذخيره وطنه وأمته)

ثيراً ما تمر على أحدنا حوادث ومصادفات يومية تكون سبباً لتذكرنا واسترجاعنا أشياءً وأحداثاً مررنا بها فيما مضى من أيام وسنين خلت، فتقفز في التو والحال إلى أذهاننا صوراً وتداعيات وومضات من ماضينا البعيد وزمننا الغابر، إلى حد أن بعض هذه الأشياء كانت وقتها في منتهى التفاهة والبساطة والصغر، ولم تكن في حينها شيئاً مذكوراً، إعتقدنا معها وحسبنا أننا نسيناها وأن الزمن قد عفا عليها، وأن الدهر قد أكل عليها وشرب، وصارت نسياً منسيا.

إن هذه الأشياء البسيطة والصغيرة، كثيرة في حياتنا، ولم تكن في لحظة وقوعها تشكل اهمية تذكر، إلا أنه نتيجة لحدث عابر أو لشيء طارئ نفاجأ بها بازغةً وطافيةً في أذهاننا وأمام ناظرينا بدون أي سابق إنذار، فتشعل في نفوسنا حرائق من الشوق لا ينطفئ وحنين لا يهدأ، ليس لتلك الأشياء البسيطة والصغيرة فقط، وإنما أيضاً لأشياء أخرى أحاطت بها، من أمكنة عشنا بها وترعرعنا في مرابعها وربوعها، أو وجوه أشخاص، صاحبناهم وصاحبونا، أحببناهم وأحبونا.

ألم يصادف أحدنا أنه التقى وجه أحد لم يره منذ سنين طويلة خلت، حتى تداعت له الذكريات من ذاك الزمن الذي مضى؟. ألم يصادف أن شم أحدنا رائحة ما، حتى قفزت إلى ذاكرته وفاحت منها وجوه أشخاص لهم روائحهم الخاصة وعطرهم المميز، أو أخذته الذكرى إلى أمكنة تفوح منها روائح وعطور تخصها وتميزها؟. ألم يصادف أن أحداً منا شاهد صورة ما، فإذا به يجد نفسه يستعيد ذكرى وجوه من زمن بعيد، منهم من رحل ومنهم من ينتظر وقد بلغ بهم العمر عتيا؟.

ها أن الزمن يمضي، والأشياء التي تستفز فينا الذاكرة كثيرة، ما أن تباغتنا، حتى ينفتح شريط الذكريات بحلوها ومرها. فعنوان كتاب يقفز بذاكرتك إلى بدايات وأجواء وأوقات اهتمامك بالقراءة، أو إلى الأثر الذي تركته بعض عناوين الكتب في توجيه وعيك وفكرك. وفي مرات أخرى تقفز إلى ذاكرتك وجوه أناس كانت لمعرفتنا بهم تأثيراً وأثراً ما في تحويل بوصلة واتجاه خياراتنا الشخصية والحياتية.

كم وكم هي جميلة أيضاً تلك المفاجآت المبهجة التي تباغتك، ومن دون قصد، فتعيد بذاكرتك مرة أخرى إلى مقاعد الدرس والتحصيل صغيراً، تتعرف وتتعلم حروف الهجاء والأبجدية، ومردداً ومكرراً خلف معلمك وبصوت عال طريقة هجائها ونطقها. ليجعلك هذا المشهد تعاود التأمل والتفكير والمقارنة بين حال الأمس وحال اليوم، حين تغيرت فيه الأحوال وتبدلت تبدلاً كبيراً، وانفتحت فيه الآفاق وتوسعت مجالات العلوم والمعارف، في زمان عالمي متغير وسريع التحول.

إننا ما أن نذكر ونسترجع هذه الذكريات الجميلة، إلا ونصاب بالشوق والحنين إليها، ويحلو لنا التغني بها، وتمني تكرارها، ونتوق لعودتها، والعيش في زمانها مرة أخرى.

والذكريات السيئة والمرة، كما هي الذكريات الجميلة والحلوة في حياتنا، تستدرج وتعاد، إلا أنها غالباً ما تذكر بألم وحسرة، ومصحوبة بالشكوى على ما فات وضاع من أيام وسنين، كان يمكن أن تكون غير ما كانت، لو تيسرت أثناءها ظروف مختلفة. إلا أن ما حدث قد حدث، وما فات قد فات، وما ضاع ذهب، و لات حين ندم. فاليوم نحن أمام أحداث جديدة وظروف مختلفة، قد تكون أفضل أو قد تكون أسوأ، إلا أنها بكل تأكيد لها دورها المؤثر في تحديد الخيارات الأساسية للأجيال الجديدة في هذه الحياة، وهي أيضاً عاملاً قوياً ومرجحاً في صنع تبدلات وانقلابات تعيد توجيه المصائر والأقدار، وكما يذهب إلى ذلك الكاتب البحريني حسن مدن مصوراً ومعبراً عن هذه الفكرة بالقول (إن الأمر الذي ينطوي على شيء من المفارقات الغريبة حين نلاحظ أن حدثاً عابراً للغاية، أو مجرد مصادفة لم يكن في التوقع أو الحسبان هي ما يصنع لنا مصيراً كان قبل حدوثه ببرهة وجيزة في طي الغيب)[175] .

إن مما لا شك فيه أن هذه الأشياء والظروف وملابساتها، تؤسس لذاكرة جديدة ومختلفة، سنعود لذكرها وتذكرها واسترجاعها والحديث عنها عندما تباغتنا المصادفات في المستقبل، تقفز على أثرها الذكريات بطعم ورائحة يفوح منها عبق من الماضي.

إذا كانت تلك الأشياء البسيطة والصغيرة في حياتنا، قد ألقت بظلالها علينا، وفعلت فعلها فينا، وأشعلت في نفوسنا الحنين، فكيف إذاً هو أثر تلك الأشياء الكبيرة، والأحداث الأعظم، التي مررنا بها، أو كنا شهوداً عليها، أو كنا جزءاً منها؟ وكيف ستكون تداعياتها ووقعها علينا عندما نستعيد تذكرها؟

لعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، أمام وقع وأثر هذه التداعيات، هو كيف ننجح في توثيق وكتابة وتدوين ذكرياتنا، وهذه المصادفات، وتلك اللحظات النادرة في سيرتنا، عندما انقلبت فيها الأمور والأشياء رأساً على عقب واتخذت مجراً مختلفاً عن الذي كان يجب أن تأخذه بالفعل؟ وهل يمكن لنا نحن أبناء اليوم أن نسجل للأجيال القادمة يوميات ذاكرة حياتنا الجديدة والحادثة؟ وهل لنا أن ندعي يوماً ما أننا قد تركنا لمجتمعاتنا أثراً وإرثاً وبصمة تضاف إلى مخزون ذاكرة المجتمع؟.

ليس كل منا قادر على استعادة وتذكر أحداث ماضي حياته ووصفها بسلاسة وطلاقة، أو هو متمكن من التعبير عن ذكرياته بصفاء ووضوح، لا تشوبها وتعكرها شائبة. إلا أنه مع ذلك هناك من يمتلك ذاكرة قوية وحيّة وقّادة، لا تفوتهم لا الشاردة ولا الواردة، تراهم يحدثونك عن أشياء حدثت بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة بدقة متناهية، كأنك وأنت تستمع إليهم، تشاهد شريط سينمائي يعرض أحداثه ويصورها بشكل جذاب ولذيذ وطازج.

هؤلاء وخصوصاً المعمرين منهم، كيف لهم أن يسجلوا ذكرياتهم ويدونوها للأجيال القادمة، لتكون وثيقة تصف وتشرح مشاهداتها ومعاناتها والتحولات الكبرى التي جرت وواكبوا حدوثها في مجتمعاتنا الخليجية على وجه الخصوص، عندما كانت هذه المجتمعات تئن تحت وطأة حياة صعبة وقاسية ومؤلمة قبل اكتشاف النفط، وما صاحب اكتشافه من تحولات وتداعيات دراماتيكية أثرت علي حياة الناس وشؤونهم، وفي كافة المجالات وعلى جميع الصعد والمستويات طوال معظم فترات القرن العشرين.

لقد كانت منطقة الخليج خلال تلك الفترة عرضة للتغير الدائم والمستمر، أدت إلى حدوث متغيرات بنيوية وأساسية فيها، وهو ما كان يستوجب تسجيل هذه الحركة ورصد هذا التغيّر كي لا يفقد الإنسان في هذا المكان روابط الود والانسجام مع الأشياء التي كوّنت جذور وملامح هويته. (فالمكان، رغم الثبات النسبي الذي يميزه مقارنة بأمور وحالات أخرى، عرضة للتغير الدائم، وكل فترة تختلف، بمقدار، عن الفترة التي سبقت أو عن الفترة التي ستأتي، الأمر الذي يجعل حتى الجغرافيا، ليس بالمفهوم السياسي فقط، في حالة حركة وتغير، مما يستوجب تسجيل هذه الحركة ورصد هذا التغير، من اجل إقامة علاقة أكثر سلامة وأكثر ثباتاً بين الإنسان والمحيط من خلال الفهم، وبالتالي الانسجام، مع حركة الأشياء والكون، وكل محاولة للتحدي تتجاوز مقدار معيناً، أي طاقة الاحتمال لدى العناصر الأخرى، يمكن أن تؤدي إلى الاختلال، ومن ثم النبذ، وقد تصل إلى درجة الدمار)[176] .

إن التحولات الاقتصادية والعمرانية والديموغرافية الكبيرة التي تعرضت لها منطقة الخليج، انعكست بشكل كبير على بنيته الاجتماعية، وأدت إلى إعادة تشكيل المدن والقرى والجغرافيا المحيطة بها، بحيث أصبحت شيئاً مختلفاً عما كانت عليه من قبل. فتم إزالة أشياء واختفت أشياء أو تبدلت حتى أخذت تتلاشى صور الأماكن الفعلية القديمة لتحل بدلاً عنها أماكن تم صنعها وبناءها وصياغتها بطريقة قد لا تعبر عن ترابط وامتداد طبيعي مع الماضي. وعندما يغيب الذين ولدوا على تلك الأرض وعاشوا فيها، ولم يسجلوا ويدونوا ويوثقوا معالم المكان وما يميزه، فسوف تندثر المعالم والأسماء والأشكال لتولد جغرافيا جديدة ومختلفة.

وكما تقول فاطمة الصايغ عن تلك المرحلة من الزمن أنه (في الخمسينات من القرن العشرين كانت منطقة الخليج عامة تعاني من شح الموارد الاقتصادية علاوة على تأخر قطار التنمية أو حتى عدم استطاعته الوصول إلى بعض محطات دولة. كانت المنطقة برمتها تعاني أزمة اقتصادية طاحنة أثرت في جميع مناحي الحياة ورمت بظلال كثيفة على الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية،... وتضيف الصايغ... أنه بعد مضي نصف قرن تغيرت فيه الأحوال وتبدلت خلاله مجتمعات الخليج تبدلاً كبيراً حتى لم يعد هناك من مجال للمقارنة بين خليج الخمسينات وخليج الألفية الثالثة. حيث انتهى خليج الكفاف والفقر الاقتصادي وبدأ خليج النفط بكل طفرته وثروته، وتقلباته وأزماته، وأمنياته وتمنياته)[177] .

هناك تحولات كبيرة وهائلة حدثت وطرأت على مجتمعات الخليج، وأجيال اليوم يصعب عليها استيعاب هذه التغيرات وإدراكها وفهمها، إذا لم تكن هذه المتغيرات مرصودة وموثقة، بسبب حالة الصخب والتوتر والزحام والانشغالات اليومية التي تبعدها عن الاهتمام بملاحظة هذه المتغيرات التي تتراكم وبشكل تدريجي على توالي الأيام، حيث تفقد وتندثر آثار وكنوز تعبر عن هوية المكان وشخصيته والملامح المميزة له. لقد تغيرت حتى الأنماط السلوكية لمجتمعات الخليج تغيراً جذرياً عمّا كان سائداً قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن حيث (تغيرت الأنماط المعيشية تغيراً كبيراً الأمر الذي غير من أسلوب الحياة الاجتماعية تغيراً تاماً. كما دخلت أنماط غربية مستوردة لكي تحتل جوهر الحياة الاجتماعية. وتقهقرت بعض الأنماط التقليدية الايجابية لتحل محلها بعض الأنماط الجديدة التي نراها ونصادفها في حياتنا اليومية)[178]  وهو ما يؤشر إلى أننا دخلنا في مرحلة مجتمعية جديدة ومسار جديد نمضي فيه، له سلبياته التي يمكن أن تؤدي إلى اختلالات قيمية، وبروز أنماط مجتمعية ومعيشية مغايرة ومختلفة، تنتج عن هذه المتغيرات البنيوية الجذرية التي فرضتها رحلة الإنتقال إلى التحديث في منطقة الخليج.

هاهي الأيام تأتي وتذهب، ولا يمضي يوم إلا ونفقد فيه أحداً من هؤلاء المعمرين من الذين عاشوا تلك المراحل الصعبة من حياة هذه المنطقة، لنفقد برحيله ذاكرة من الماضي تأخذ معها جزءاً من تراث هذا المكان ويدفن معها إلى الأبد، وكأنه لم يمر من هنا من عاش فيها وسقى الأرض واستصلحها وشقى في بنائها وعمارتها.

إن الاحتفاء بالمكان والحرص على تصويره والكتابة عنه في مراحله المتعاقبة ليس سمة من سمات الثقافة البارزة التي يمكن ملاحظتها في علاقة الفرد بمحيطه في منطقة الخليج. فالكتابات التي تتناول المدن وتصورها وتتحدث عن تطورها وتحولاتها وتوثقها هي من النادر وجودها (وتبدو الكتابة عن المدن بنظر الكثيرين، خاصة في المرحلة الحالية، أمراً زائداً أو لا ضرورة له إذ يفترض هؤلاء أن الأماكن التي يعيشون فيها من الألفة، وبالتالي من العادية إلى درجة لا تستوجب الالتفات، فما دام الجميع يرونها كل يوم، وتجري أحداثها أمام أنظارهم، فقد أصبح منظرها مألوفاً، وأحداثها معروفة تقريباً بقدر متساو، بحيث لا تحتاج إلى تسجيل أو تثبيت. قد تكون هذه النظرة مفهومة، وربما مقبولة، إذا اقتصرت على الرؤيا الخارجية، أو تحددت بالزمن الآني، لكن ما أن تتسع الرؤية، وتتجاوز القشرة أو النظرة الأولى، وما أن يمتد الزمن وتمر الأيام، وتتغير الصورة، حتى نكتشف كم كانت الخسارة كبيرة نتيجة قصور في التدوين وإغفال التفاصيل)[179] .

لقد رحل الكثيرون وماتت معهم الذكريات ولم يخلفوا لنا إرثاً وتراثاً يحكي عن تجاربهم ونضالهم وكفاحهم في هذه الحياة، سواء كانت هذه التجارب فردية أو جماعية، والتي تدلل على عطائهم وما تركوا من أثر وما وضعوا من بصمة في سيرة ومسيرة المجتمعات التي سكنوا وعاشوا فيها طويلاً.

إن هذه الأمكنة تغيرت خلال تلك السنوات الماضية كثيراً، إلى الدرجة التي لم تعد لها صلة بما كان قبلاً. فحجم التغيّر الذي حدث أدى إلى قطع أو تشويه وتبدل الصورة تماماً، و (الذين كان يفترض بهم تقديم صورة أدق وأكمل عن تلك المراحل لم يفعلوا لا بالكلمة المكتوبة ولا بالصورة المرسومة، وهكذا ضاعت أشياء لا تقدر بثمن، ولا يمكن تعويضها)[180] .

إنه لمن المؤلم والمزعج أن يرحل هؤلاء بدون أن يدونوا ذاكرتهم، ولعل السؤال الموجّه للباقين من الأحياء، أطال الله في أعمارهم وأمدهم بالصحة والسلامة والعافية، عن مدى قدرتهم على تدارك ما فات، خصوصاً أن منهم الذين مازالوا يملكون ذاكرة قوية وخصبة، يمكن استفزازها وتنشيطها لتنهض وتنفض الغبار عنها، لتتمكن من استرجاع ما اختزنته في ذاكرتها من أحداث وقضايا وأشياء يمكن تسجيله وتوثيقه. فإذا لم يكتب الأوائل عن أماكنهم أو يسهبوا بوصفها وما تتميز به من مناخ وتضاريس وعادات وتقاليد وأسلوب حياة، بحيث تعتبر هذه الكتابات، في الوقت الحاضر مرجعاً أساسياً لمن يريد الكتابة عن المنطقة خلال تلك الفترات، فإنه من الأجدر بالأحياء المبادرة للتعويض عمّا فات، خصوصاً أن كثيراً منهم يملك القدرة والإمكانية على الحكي والقص والتخيّل والتصوير والتذكر بيسر ووضوح وسهولة.

لقد مرت على منطقة الخليج تطورات وأحداث سياسية صاخبة مازال كبار السن إلى يومنا هذا يذكرونها ويروونها ويحكون عنها. فعلى الرغم من الأمية والتخلف والجهل التي عانته المنطقة حيث (لا يعرف أغلبية سكانها القراءة والكتابة، ولكنها من ناحية أخرى، تسمع وتتفاعل مع كل ما يدور في المجتمعات العربية الأخرى من أحداث وتطورات وثورات وتغيرات راديكالية، مجتمعات عاش أهلها عيش الكفاف، وعلى الرغم من ذلك تتبرع لمصلحة الأقصى وفلسطين والثورات العربية الأخرى)[181] ، عندما انبرت ثلّة من النخبة المتعلمة وذات المشارب الثقافية المتنوعة، في إحداث حراك ثقافي وفكري نتج عنه إثارة مشاعر التعاطف مع القضايا الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية.

لذلك هناك ضرورة تستحق العناية والاهتمام تقتضي نقل وتحويل ما تحفظه الذاكرة الشفوية لمجتمعاتنا إلى ذاكرة مدونة وموثقة حتى لا تتعرض للضياع والنسيان والتشتت وبالتالي لا تتعرض علاقة الإنسان بأرضه للاهتزاز والتآكل، فالكلمة المكتوبة تجعل للمكان حضوراً وهيبة وثقلاً يتجاوز الذكريات والحنين، وهو ما يؤكد عليه عبد الرحمن منيف بقوله (لو أن الفكر العربي أكثر عمقاً ورصانة وحرصاً لأعطى للأمكنة ما تستحقه من عناية واهتمام، ليس من خلال ما تحفظه الذاكرة الشفوية، وإنما من خلال ما تحفظه الذاكرة المدونة والموثقة، فالكلمة المكتوبة عندما تترافق مع الصورة، مع الوثيقة التاريخية، مع الوصف الحي، تجعل للمكان حضوراً يتجاوز الذكريات والحنين، وينتقل من جيل إلى الذي يليه عن استحقاق وجدارة، ويصبح ثابتاً وأكيداً، لأنه جزء من الذات، وتعبير عن ملامحها، والشيء المميز لشخصيتها. أما إذا بقيت الذاكرة العربية معتمدة على الثقافة الشفوية، أو متكئة على مدونات الآخر، ولا ترى في المكان سوى الجماد والثبات، فإن علاقة الإنسان بالأرض، أي بالوطن، عرضه للاهتزاز ثم للتآكل... ثم يضيف منيف... أما حين أهمل الإنسان الكتابة، أو حين لم تعد الكتابة وسيلته الأساسية للتعبير، بسبب الجهل وظلام العصور، فإن الكثير من الكنوز، على مستوى المعرفة والثقافة والجمال، طواها الإهمال ثم النسيان، وأصبحت كما أنها لم تكن في يوم من الأيام، وهكذا خسرت الإنسانية الكثير في رحلتها الشاقة والطويلة، والسبب الأساسي عدم القدرة، أو الكفاءة، في التعامل مع المادة المتاحة)[182] .

III

ألم يئن للذين عاشوا الحياة خلال معظم فترات القرن الماضي، وهي من أهم وأدق المراحل والمفاصل التي مرت بها منطقة الخليج، أن تنشرح قلوبهم وتنفتح قريحتهم وتنفرج مغاليق ذاكرتهم، وتخرج عن صمتها وبلادتها، لتقول وتحكي عن ذكرياتها، وتسجل وتوثّق تجاربها الفردية والجماعية، وعلى كل المستويات والمجالات التي تخصصت بها وشغلتها واهتمت بها. فهم الذين عاشوا هذا الزمن، وهم الأقرب إليه، تابعوا تجاربه وعاصروه ورأوا رأي العين المشروعات تظهر والعوالم تتبدّل وتتغيّر وتتشكّل، وبعضهم كانوا شهوداً على عهود ارتفعت فيها شعارات التحرر والثورة والإنقلاب والتقدم والتراجع، أو شاركوا وتصدّوا وقادوا معارك الصراع خلال بعض تلك الفترات والمراحل.

إن الأمر الذي يجدر الاهتمام به والتفكير فيه هو كيف يمكن استثمار هذه الطاقات المهدرة والمشتتة، وتنمية قدراتها وتحفيزها، لتتحول من حالة قصصية متخيلة محكية، تنتهي برحيل أصحابها، إلى حالة كتابية نصوصية مكتوبة تخلّد أصحابها وتسجّل وتوثّق ذاكرة مجتمعاتها؟. كما يقول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل متحدثاً عن تجربته الشخصية كصحفي عاش عمراً مديداً في هذه الحياة ومستخلصاً منها الدروس والعبر: (الشاهد إنسانياً أن كل واحد منا في خاطرة أمنية مشروعة تطمح إلى اعتراف الآخرين بأن دوره كان نافعاً لمجتمعه وأنه ترك على سجلاته علامة أو بصمة وأضاف موقفاً أو فكرة إلى المخزون العظيم من ذخيره وطنه وأمته)

(2)

 كلهم مضوا تاركين الدنيا لغيرهم وصدق من قال ( لو دامت لغيرك لما وصلت إليك ) هذه العبارة مكتوبة على قصر بيان بدولة الكويت فهى تصور حال من مضوا من غير رجعه إلى الدار الفانية وأثروا الحياة الباقية ، فقد مضت بروف نادية أحمد يحي ولم تترك شى من مسيرتها سوى شهادات لا تنطق إلا بالمسار الإكاديمي دون الولوج فى تفاصيل الدقيقة لما معاناة الطريق الشاق وتسابق السنين نحو النهاية المحتومه التى تنظر كل منا !!! لأن لكل أجل كتاب ، لقد مضى بدر الدين إسماعيل بعد أن ترك خلفه زرية طيبة نعتقد بأنها نبتت فى أرض غير أرضها فالحنين دائما لمسقط الرأس والتربة فهي حكمة الله فى خلقة فكل منا يحن إلى مكان تربته لقد مضى بابكر حمد وعبد الله حمد وعبد الله عثمان ويوسف قسم الخالق ذاك الأسد الذى ولج إلى ميدان المعرفة من أوسع أبوابها ( فهو عصامى بمعنى الكلمة فى ذاك الزمان البعيد ) ـ فله الرحمه ـ دون أن يتركوا لنا سوى أثر من أثار الخلود على ألسنه من عاصروهم من أجدادنا وابنائنا الكرام لقد مضى سليمان يحي من غير رجعه مخلفاً وراءه شى من سيرة الأمس الجميل فقد كان كريماً كرم النيل فى بلادي داره دائماً حبلى بالضيوف من كل القبائل لأنه كان يحفل بالجمع ويذبح الشاه والخراف حتى يكرم الجميع فى تلك الأمسية الجميلة فمنزله عامر بوقوف العديد من الباكسي والسيارات الفارهه فى ذاك الزمان الجميل وكنا ضيوف على مائدة والدنا سليمان يحي فكان له القدح المعلى من إكرام الضيوف القريب قبل البعيد ولكن ما يدور فى ذاك المجلس بين هؤلاء وأولئك لا يعرفه إلا القليل منا ربما حل مشاكل الزوجية او تقسيم الآراضي والتى خلفت خلفها غبار كثيف من الإنشاقات هنا وهناك وذلك لأن سمه الجهل كان تفعل أفعالها لم يكن للمثقفين دور من الولوج وحل تلك المفردات والطلاسم التى لا تبين إلا من خلف جدار من الصمت العنيد !!!لقد رحل الطيب إبراهيم حامد وقد حمل معه ملفات زاخرة من المعرفة منها ما نجهله تماماً وذلك بأنه مقاول إنشاء العديد من المدارس والمستشفيات بالنيل الأبيض ـ كوستى والدويم وغيرها لم نعرفه إلا بعد سكن معنا لقد رحل وفى جعبته الكثير والوفير من ذكريات الأمس التى كنا سوف نفرد لها برنامج بالصوت والصورة والكاميرا من خلال أنفاس القرية ـ وجوه وقصص !! لقد رحل الكثير من أهلنا الطبيبن كنا نعشم بأن نتواتر سيرتهم العطرة وكانت لنا أفكار بان نسجل تطوير قريتنا الجميلة من خلال الصورة والكاميرا مع أفذاذ لنا نعتقد بأنهم كانوا معول من معاول التطوير والتحول من قرية إلى مدينة ترفل بنعيم المدن الكبيرة من أسواق وأفران ومحطات ما يكروفون وقنوات فضائية وصحف ومجلات كبيرة كلها أفكار مطروحة للبيع والتنفيذ فهل أنت معي !!! وللحكاية بقية من السرد الجميل !!!

من الأهمية بمكان بأن نفرد صفحات وصفحات ليستشف منها جيل اليوم ما كان عليه حال الزمان فى ذاك الزمان الجميل لأن كثير من معارف أهلنا الطيبين غير مدونه وموثوقة فهى محاولة للتوثيق فى غياب تلك الأحداث والذكريات التى إنطوت عجلى دون أن تخلف لنا سوى فتات من القصص المروية هنا وهناك (كثير من المعارف السودانيين فى الصدور أو فى القبور ) فهذه المقولة هى التى دفعتنى إلى الكتابة فى هذا الباب لعل أن تعم الفائدة للجميع فهل أنت معى !!! ونواصل