معالم المشروع الحضاري في فكر الإمام الشهيد حسن البنا
بطاقة حيـاة:
هو حسن أحمد عبد الرحمن البنا (1324 – 1368هـ / 1906 – 1949م).
وُلد ونشأ في أسرة ريفية بسيطة، تحترف الزراعة بقرية “ شمشيرة “، مركز “ فوة “ بالقرب من “ رشيد “ – بدلتا النيل – محافظة “ كفر الشيخ “ حاليًا.
وكان والده – أحمد – قد يسلك – بناءً علي رغبة والدته – طريق التعليم الديني، بدلاً من فلاحة الأرض.. فحفظ القرآن الكريم.. ثم التحق بجامع إبراهيم باشا – بالإسكندرية – فدرس فيه منهاج التعليم الأزهري.. ثم امتهن – لتحصيل العيش – مهنة إصلاح الساعات، في محل الحاج محمد سلطان الذي كان عالمًا صالحًا.. وعضوًا بجمعية “ العروة الوثقى “ – التي كان جمال الدين الأفغاني (1254 – 1314هـ / 1838 – 1897م) رئيسًا لها.. والشيخ محمد عبده (1265 – 1323هـ / 1849 – 1905م) نائب رئيسها – ولذلك كان محل إصلاح الساعات هذا – حيث عمل الوالد – ملتقي عدد كبير من العلماء والوجهاء، الذين عايشهم، وسمع منهم، وتأثر بهم والد حسن البنا.
وبعد فراغ والده – أحمد – من تحصيل العلم بجامع إبراهيم باشا.. وبعد إتقان الصنعة – إصلاح الساعات – عاد إلي قريته “ شمشيرة “، فتزوج.. ثم انتقل بزوجه ووالده – عبد الرحمن – إلي مدينة “ المحمودية “ – بمحافظة البحيرة – مشتغلاً بصنعة إصلاح الساعات.. ومواصلاً الاشتغال بالعلم، وخاصةً علم الحديث النبوي الشريف.. كما عمل مأذونًا شرعيًا.. ومارس الخطابة في مساجد المحمودية.
وفي عام انتقال الوالد – أحمد – إلي مدينة المحمودية وُلد له ابنه البكر حسن في يوم الأحد: (25 شعبان سنة 1324هـ / 14 أكتوبر سنة 1906م).
ولأن والده – أحمد – قد احتضن كل مسانيد الحديث النبوي الشريف.. وجميع مذاهب الفقه الإسلامي؛ فلقد وجَّه ابنه حسن لدراسة الفقه علي المذهب الحنفي.. ووجَّه أخاه الثاني – عبد الرحمن – للدراسة علي المذهب المالكي.. وأخاه الثالث – محمد – للدراسة علي المذهب الحنبلي.. وأخاه الرابع – جمال – للدراسة علي المذهب الشافعي.. فنشأ حسن البنا في أسرة تحتضن وتعتز بجماع تراث الإسلام.
ولقد تعلم حسن البنا من والده حرفة إصلاح الساعات، ومارسها.. كما تعلم حرفة تجليد الكتب، ومارسها.. وذلك سيرًا علي سنة العلماء – التي سلكها والده – في التعيش من الحرف والصنائع ؛ ليكون علمهم مبذولاً لوجه الله وخدمة الناس.
وفي مدينة “ المحمودية “.. وبعد مرحلة التعليم في الكتاتيب، التحق بمدرسة الرشاد الدينية لمدة أربع سنوات – بين الثامنة والثانية عشرة من عمره – (1333 – 1338هـ / 1915 – 1920م)..
وكان صاحب هذه المدرسة – الشيخ محمد محمد زهران – علي حظَّ من العلم والثقافة، يصدر مجلة دينية لغوية أدبية اجتماعية اسمها: “ السعادة “.
ثم التحق حسن البنا بالمدرسة الإعدادية.. التي بدأ ينشط فيها، فرأس جمعية “ الأخلاق الأدبية “.. كما التحق – عضوًا – بجمعية “ منع المحرمات “ – السرية – التي كوَّنها مع بعض أقرانه.
وبعد المدرسة الإعدادية التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور.. وفيها انخرط في “ الطريقة الحصافية “، وبايع شيخها السيد عبد الوهاب الحصافي في (4 رمضان سنة 1341هـ / 20 إبريل سنة 1923م)، وواظب علي “ حلقة ذكرها “.. وكانت هذه الطريقة الصوفية – الحصافية – من اكثر الطرق بعدًا عن البدع والخرافات، ومن أقربها إلي الالتزام بالشريعة، والاهتمام بمناهج الإصلاح الخلقي والاجتماعي.
وأثناء تنقله بين دمنهور والمحمودية لاحظ نشاط الجماعات والإرساليات التنصيرية الإنجيلية، التي دخلت مصر في ركاب الاستعمار الانجليزي، ويدعم من الكنيسة الأمريكية.. والتي “ أخذت تبشر بالمسيحية في ظل التطبيب، وإيواء الصبية، وتعليم التطريز.. “.
فقام – مع عدد من زملائه – بتأسيس جمعية “ الحصافية الخيرية “، وانتخب سكرتيرًا لها.. وأخذت هذه الجمعية تمارس الدعوة إلي الأخلاق، ومقاومة المنكرات.. ومحاربة الإرساليات التبشرية الإنجيلية.
وعندما قامت ثورة مصر الكبرى (1337هـ / 1919م) زادت من تفتح وعيه الوطني ونضجه السياسي.. فشارك في مظاهرات الثورة – وكانت سنه إبان الثورة بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة.. وعندما قاطع الشعب المصري – أثناء الثورة – لجنة “ ملنر “ – الانجليزية – نَظَمَ حسن البنا في ذلك شعرّاء جاء فيه:
يا مـلـنـر، ارجع، ثـم سـلْ وفـدًا بـباريـس أقــام
وارجـع لقـومـك قل لهـم: لا تخـدعـوهـم يـالـئـام
وإبان تلك الثورة، توفي – بالمنفي – الزعيم الوطني المجاهد محمد بك فريد (1284 – 1338هـ / 1868 – 1919م) – زعيم الحزب الوطني – فهزَّ نبأ وفاته حسن البنا ؛ فنظم في ذلك قصيدة مطلعها:
أفـريـدُ نم بـالأمـن والإيمـان أفريـدُ لا نجزع علي الأوطان
وبعد مرحلة مدرسة المعلمين – بدمنهور – انتقلت الأسرة إلي القاهرة ؛ لتكون بجوار ابنها البكر حسن البنا ؛ ليلتحق بدار العلوم، في العام الدراسي ( 1923م – 1924م ).
وفي دار العلوم تتلمذ حسن البنا علي عدد من علماء ذلك العصر.. وكان من بين الأساتذة الذين تأثر بهم الشيخ أحمد بدير (1295 – 1347هـ / 1878 – 1929م)، الذي كان قد تتلمذ علي الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
وفي القاهرة – وهو طالب بدار العلوم – عايش زلازل:
سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م.
وصدور عدد من الكتب التي صادمت ثوابت الإسلام.
كما صدمته عواصف التغريب الفكري والانحلال الخلقي، التي كانت غريبة عن المجتمع المحافظ الذي أَلِفَهُ وخلَّقه في الريف، وفي المدن شبه الريفية – المحمودية، ودمنهور – فلقد وجد “ الكثير من مظاهر التحلل والبعد عن الأخلاق الإسلامية في كثير من الأماكن التي لا عهد له بها في الريف المصري.. وظهرت كتب وجرائد ومجلات كل ما فيها ينضح بهذا التفكير الذي لا هدف له إلا إضعاف أثر أي دين، أو القضاء عليه في نفوس الشعل.. “.
وإلي جانب الآلام الذاتية التي عاشها من هذا الذي رآه وقرأه بالقاهرة.. أخذ يفكر في مصير الأمة التي أراد الأعداء دفعها إلي هذا المصير.
وبعبارته: “ كنت متألمًا أشد الألم ؛ فهذا أنذا أري الأمة المصرية العزيزة تتأرجح حياتها الاجتماعية بين إسلامها العزيز الغالي، الذي ورثته وحمته وألفته، وعاشت به، واعتز بها أربعة عشر قرنًا كاملة، وبين هذا الغزو الغربي العنيف المسلح المجهز بكل الأسلحة الماضية الفتاكة ؛ من المال والجاه، والمظهر والمتعة، والقوة، ووسائل الدعاية. وكان بنفَّس عن نفسي بعض الشيء الإفضاء بهذا الشعور إلي كثير من الأصدقاء الخلصاء من زملائنا الطلاب بدار العلوم والأزهر والمعاهد الأخرى.. “
وكانت المكتبة السلفية – لصاحبها العالم المجاهد محب الدين الخطيب (1303 – 1389هـ / 1886 – 1969م) – مكان شكواه ومنتدي محاوراته مع العديد من العلماء والطلاب..
وكذلك كانت دار مجلة [المنار].. لصاحبها العالم المجاهد الشيخ محمد رشيد رضا (1282 – 1354هـ / 1865 – 1935م).. والتي كان يفر إليها العديد من تلاميذ الأفغاني ومحمد عبده.
وعندما كان يهم بمغادرة مقاعد الدراسة بدار العلوم، ويدلف إلي ميادين الحياة العامة، أعلن عن “ أمله.. وخطته “.. وذلك عندما كتب في امتحان مادة “ الإنشاء “، جوابًا علي سؤال أستاذه أحمد يوسف نجاتي:
“ اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبيَّن الوسائل التي تعدها لتحقيقها.. “.
فكانت إجابة حسن البنا – في “ ورقة الإجابة “ – تقول:
1 – خاص: وهو إسعاد أسرتي وقرابتي.
2 – وعام: وهو أن أكون مرشدًا معلمًا، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار، قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم.. تارة بالخطابة والمحاورة، وأخري بالتأليف والكتابة والثالثة بالتجول والسياسة.
وقد أعددت لتحقيق الأول: معرفة بالجميل.
ولتحقيق الثاني، من الوسائل الخلقية: “ الثبات والتضحية “، وهما ألزم للمصلح من ظله، وسر نجاحه كله..
ومن الوسائل العملية: درسًا طويلاً، سأحاول أن تشهد لي به الأوراق الرسمية، وتعرفاً بالذين يعتنقون هذا المبدأ، أو يعطفون علي أهله، وجسمًا تعوَّد الخشونة علي ضآلته، وألف المشقة علي نحافته، ونفسًا بعتها لله صفقة رابحة، راجيًا منه قبولها، سائله إتمامها.
ذلك عهد بيني وبين ربي، أسجله علي نفسي، وأُشهد عليه أستاذي في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير.. “.
فكان العهد.. والصفقة.. والمبايعة.. التي كانت أربح صفقات القرن الرابع عشر الهجري !.
لقد تخرج حسن البنا من دار العلوم.. وحصل علي دبلومها سنة (1346هـ / سنة 1927م)، ولم يكن قد أتم يومئذ عامه الواحد والعشرين.. وكان ترتيبه الأول علي دفعته..
لقد رشح للسفر إلي باريس للدراسات العليا.. لكنه تنازل عن حقه في الابتعاث، مفضلاً البقاء بمصر للعمل علي تحقيق الأهداف التي حددها لنفسه في هذه الحياة.
ولقد عين مدرسًا بإحدى المدارس الابتدائية بمدينة الإسماعيلية في (سبتمبر سنة 1927م / ربيع أول سنة 1346هـ) وفي الإسماعيلية رأي من الحوافز – المستفزة “ أكثر مما رآه في القاهرة..
رأي نماذج الاحتلال والاستغلال الأجنبي مجسدة أمام سمعه وبصره.. ورأي التغريب الثقافي والاجتماعي يتحدي هوية الأمة وكرامتها:
“ فهذا المعسكر الانجليزي في غربها ببأسه وسلطانه – يبعث في نفس كل وطني غيور الأسى والأسف، ويدفعه دفعًا إلي مراجعة هذا الاحتلال البغيض، وما جره علي مصر من نكبات جسام.
وهذا المكتب الأنيق الفخم: مكتب إدارة شركة قناة السويس، في سلطانه وسطوته، واستخدامه للمصريين ومعاملته إياهم معاملة الأتباع المضطهدين، وإكرامه للأجانب، ورفعه إياهم إلي مرتبة السادة والحاكمين.
وهذه المنازل الفخمة المنتشرة في حي الإفرنج بأكمله، ويسكنها موظفو الشركة الأجانب، وتقابلها مساكن العمال العرب في ضآلتها وصغر شأنها.
والشوارع كلها تحمل لوحات لم تكتب إلا بلغة هذا الاحتلال الجاثم علي صدورها، حتى شارع المسجد كان مكتوبًا هكذا “ Ruc Du Mosquee “ !!.
وفي الإسماعيلية.. وفي هذا المناخ، وتلك الملابسات.. قرر تأسيس جماعة [ الإخوان المسلمين ].. وتوجه بدعوته إلي مختلف شرائح الأمة، وقادة الرأي فيها:
إلي العلماء أولاً.
وشيوخ الطرق ثانيًا.
والأعيان ثالثاً.
والأندية رابعًا.
وكان أول المستجبيين لدعوته ستة رجال، جميعهم من العمال الحرفيين.. فأسس بهم الجماعة في (ذي القعدة سنة 1347هـ - إبريل / مايو سنة 1928م).
وكان للمرأة – منذ البداية – نصيب في الدعوة.. فأسس حسن البنا – بالإسماعيلية – معهد “ أمهات المؤمنين “ لتربية البنات تربية إسلامية صالحة.. كما أنشأ – بالجماعة – قسم “ الأخوات المسلمات “.
ومن الإسماعيلية انتشرت الدعوة وتنظيمات الجماعة و “ شعبها “ إلي مدن مصر وقراها..
وتخطت حدود مصر إلي مختلف أنحاء عالم الإسلام.. بل وإلي مواطن الجاليات الإسلامية خارج عالم الإسلام.
وفي سبيل الدعوة والجماعة زار الأستاذ البنا ثلاثة آلاف قرية مصرية – من بين قرى مصر، البالغ عددها يومئذ أربعة آلاف !! – وذلك غير المدن، الكبير منها والصغير.
وغير الخطابة – التي لم يكن يُجاري فيها – كانت الصحافة.. ميدانًا لدعوته ؛ فأصدر من المجلات والصحف:
1 – مجلة [المنار] الشهرية.
2 – ومجلة [الشهاب] الشهرية.
3 – ومجلة [النذير] الأسبوعية.
4 – ومجلة [التعارف] الأسبوعية.
5 – ومجلة [الكشكول الجديد].
6 – وجريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية.
7 – وجريدة الإخوان المسلمين نصف الشهرية.
8 – وجريدة الإخوان المسلمين اليومية.
ولقد رشح نفسه للانتخابات البرلمانية مرتين – بدائرة الإسماعيلية -:
الأولي: في انتخابات سنة 1942م.. ثم تنازل عن الترشيح بطلب من الحكومة، بناءً علي ضغط وتهديد من المحتلين الانجليز،
والثانية: في انتخابات (سنة 1944 – 1945م).
وكان الأستاذ البنا وجماعته في طليعة القوى التي وعت خطورة القضية الفلسطينية، وجاهدت في سبيلها منذ الثورة الفلسطينية سنة 1936م ؛ فرفعوا شعارات الجهاد لإنقاذ فلسطين من المخطط الصليبي الصهيوني..
كما كانوا في طليعة الذين أعدوا العدة للجهاد المسلح، وخاضوا معاركه علي أرض فلسطين (سنة 1947 – 1948م).. قبل وبعد دخول الجيوش العربية إلي أرض فلسطين في (مايو سنة 1948م).
وفي (مايو سنة 1946م / جمادي الآخرة 1365هـ).. استقال حسن البنا من وظيفة مدرس ابتدائي.. بعد ما يقرب من تسعة عشر عامًا قضاها في التدريس.. ويومها كان قد بلغ “ الدرجة الخامسة “ !!! بحكم “ قانون الموظفين المنسيين “ !!.
وبضغط من الاستعمار.. وخوفًا من قوة الجماعة.. وخاصةً بعد تجربتها الجهادية في فلسطين ؛ صدر الأمر العسكري بحل الجماعة في (8 ديسمبر سنة 1948م / صفر 1368هـ)..
وكان عدد أعضائها يومئذٍ نصف مليون عضو.. معهم من الأعضاء المؤازرين أضعاف هذا العدد..
ولها من “ الشعب “ المنتشرة في مصر ما يزيد علي 2000 شعبة !.
وتسارعت الأحداث.. واغتيل الأستاذ الإمام الشيخ حسن البنا – بالقاهرة – في (12 فبراير 1949م / ربيع ثان سنة 1368هـ).. فصعدت روح هذا الرجل الملهم المبارك إلي بارئها، بعد أن بذر البذرة التي أنبتت الشجرة الطيبة، التي امتدت أغصانها وأوراقها وثمراتها إلي كل أنحاء الكوكب الذي نعيش فيه.. والتي بارك الله فيها، كما لم يبارك في بذرة من البذور الكثيرة التي بذرت في ذلك التاريخ !
أما الثقافة التي صنعت هذا العقل المنفرد.. وصاغت هذا المشروع الإصلاحي، فإنها كانت مزيجًا من:
1 – فقه القرآن الكريم.
2 – وفقه الهدي النبوي الشريف – حديثًا وسيرة وخلقاً -.
3 – وفقه الواقع المعاصر والمعيش – مصريًا.. وعربيًا.. وإسلاميًا.. وعالميًا -.
4 – والتصرف الشرعي، البرئ من البدع والخرافات.. والذي أخذه عن الطريقة الحصافية، التي تأثر بشيخها السيد حسنين الحصافي، وقال عنه:
“ وكان أعظم ما أخذ بمجامع قلبي، وملك عليَّ لبي من سيرة الشيخ الحصافي رضي الله عنه شدته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه كان لا يخشي في الله لومة لائم، ولا يدع الأمر والنهي مهما كان في حضرة كبير أو عظيم “.
5 – والسلفية التجديدية الواعية التي أخذها عن الأستاذ محبَّ الدين الخطيب.
6 – والعقلانية المؤمة التي تشبَّع بها من المدرسة الإحيائية الإصلاحية لجمال الدين الأفغاني.. ومحمد عبده.. ورشيد رضا.
7 – والمعارف العامة والإنسانية، التي رآها “ حكمة “ هي ضالة المؤمن، أنَّي وجدها فهو أحقَّ الناس بها.
ومن كلماته الجامعة.. وذات المغزى.
1 – عن الإسلام الثورة:
“ إن الإسلام ثورة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني.. يزلزل الأوضاع الفاسدة، ويحطم صروح البغي والعدوان الشامخة، ويجدد معالم الحياة وأوضاعها، ويقيمها علي أثبت الدعائم. إنه ثورة علي الجهل..
وثورة علي الظلم بكل معانيه: ظلم الحاكم للمحكوم، وظلم الغني للفقير، وظلم القوي للضعيف. وثورة علي الضعف بكل مظاهره ونواحيه: ضعف النفوس بالشح والإثم، وضعف الأبدان بالشهوات والسقم..”.
2 – وعن تحرير مصر:
“ أيها المصري، أيتها المصرية، أيها الشرقي، أيتها الشرقية، علَّموا أولادكم منذ نعومة أظفاركم أن يكرهوا وأن يمقتوا وأن يلعنوا الإمبراطورية البريطانية، كما يعلَّم الآباء الانجليز أبناءهم أن يحبوا إمبراطوريتهم. تصرفوا بطريقة تجعل علي الانجليز أن يواجهوا قلوبًا تكرههم، وألسنة تلعنهم، وأيادي تذبحهم..
وإنه لا باب للحرية سوي باب العداء الصريح لبريطانيا، والإعداد الكامل والجهاد الواثب، ومرحبًا به ؛ ليحق الحق ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون ! “.
3 – وعن إنقاذ فلسطين:
“ إن فلسطين هي قلب الشرق النابض، وموطن مقدسات مسلميه ومسيحييه علي السواء.
وإن الشعب الفلسطيني هو من سلالة الصحابة الفاتحين.. وإن ثري فلسطين قد رُوي بدماء عشرات الآلاف من صحابة نبينا محمد صلي الله عليه وسلم.
وإن قضية فلسطين هي قضية العالم الإسلامي بأسره، وهي ميزان كرامته، ومقياس هيبته وقوته.
وإن الصهاينة في فلسطين خطر داهم علي سياسة الشرق العامة، ومطامعهم في الوطن القومي غير محصورة ؛ فهم لا يقتصرون علي فلسطين، ولكنهم سيتحيفون الأرض من كل جانب، وهم خطر علي وحدة العرب في الشرق ؛ لأنهم لا يعيشون إلا في جو التفريق، وهم خطر داهم علي الشرق، فهم قوم خُلُقُهم المال، باعوا من قبل آيات الله بثمن قليل، ولا يزالون يبيعون الأخلاق بثمن بخس.
وإن الصهيونية ليست حركة سياسية قاصرة علي الوطن القومي لليهود أو الدولة المزعومة بالتقسيم الموهوم، ولكنها ثمرة تدابير وجهود اليهودية العالمية، التي تهدف إلي تسخير العلم كله لحكم اليهود، ومصلحة اليهود، وزعامة مسيح صهيون،
وليست دولتهم التي يعبرون عنها بجملتهم المأثورة: “ ملك سليمان إسرائيل من الفرات إلي النيل “ في عرفهم إلا نقطة ارتكاز تنقض منها اليهودية العالمية علي الأمة العربية، دولة فدولة، وعلي المجموعة الإسلامية، أمة بعد أمة.
أما أمم العرب في أوروبا وأمريكا، فقد تكفل الذهب اليهودي، والإغراء الصهيوني بتوجيه زعمائها حيث يريد. وإن الانجليز واليهود لن يفهموا إلا لغةً واحدةً: هي لغة الثورة، والقوة والدم.. “.
4 – وعن الوحدة العربية:
“ إن قضية وحدة العرب هي أعدل وأنجح وأوضح قضية في التاريخ ؛ فمن البديهيات التي لا تقبل الجدل أن العرب أمة واحدة، وأن هذا التعبير يساوي في أحقيته ووضوحه واستقراره في النفوس والأذهان قول القائلين: “ السماء فوقنا والأرض تحتنا “ ؛ فلقد اصطلحت علي تكوين هذه الوحدة العربية وتدعيمها كل العوامل الروحية، واللغوية، والجغرافية، والتاريخية، والمصلحية.. “.
5 – وعن تحرير الوطن الإسلامي:
“ إن الوطنية هي فرض من الله، هو الذي أمر به، وهي جزء من تعاليم الإسلام.
ونحن لا نطيق أن يكون في أرض الإسلام مستعمر واحد.. ولذلك يعمل [الإخوان] بالنفس والمال في سبيل تحرير الوطن الإسلامي العام.
إن الوطن الإسلامي لا يتجزأ، وإن كل شبر فيه مسلم يقول: لا إله إلا الله، أو رفعت عليه يومًا من الأيام راية الله – قد صار أمانة في يد المسلمين قاطبة، ووجب عليهم أن يفدوا حريته بالنفوس والأرواح.. “.
6 – وعن الجهاد والاستشهاد:
“ إن الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة – يهب الله لها الحياة العزيزة.
فاعملوا الموتة الكريمة تظفروا بالسعادة الكاملة، رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله.. “.
وعندما سئل هذا الرجل الرباني الملهم، الذي كان من أبرز مجددي الإسلام في القرن (الرابع عشر الهجري – العشرين الميلادي (- والذي أكرمه الله فاستجاب دعوته، ورزقه كرامة الاستشهاد في سبيله -.. عندما سئل:- من أنت ؟؟
كان جوابه: “ أنا سائح يطلب الحقيقة.
وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس.
ومواطن ينشد لوطنه الكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة في ظل الإسلام الحنيف.
ومتجرد أدرك سر وجوده ؛ فنادي: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب.
تلك السطور – مجرد سطور – من “ بطاقة حياة “ هذا الإمام الشهيد – عليه رحمة الله -.
***********
المبحث الثاني
التأسيس لليقظة الإسلامية الحديثة:
علي امتداد أوطان الأمة الإسلامية – من “ غانة “ – غربًا – إلي “ فرغانة “ – شرقًا.. ومن حوض “ نهر الفولجا “ – في الشمال – إلي جنوبي خط الاستواء – بل وفي مواطن الأقليات الإسلامية خارج عالم الإسلام – إذا نظر الباحث المنصف إلي ظواهر البعث والإحياء والنهضة والتجديد والإصلاح، ومشروعاتها الحضارية النهضوية، وحركاتها وتنظيماتها..
فسيجد أن ظاهرة الصحوة الإسلامية، ومشروعها الحضاري هي أقوى وأكبر وأخطر وأعمق ظواهر العصر الذي نعيش فيه..
يستوي في ذلك التقييم، والتسليم بتلك الحقيقة، الباحثون المؤيدون أو المناوئون لهذا المشروع وتلك الحركات !..
والحقيقة الثانية: التي لن تجد عليها خلافاً بيّن الباحثين، ولا بين حركات هذه الصحوة الإسلامية المعاصرة وتياراتها، هي الأبوة والأمانة والريادة التي يمثلها الإمام الشهيد الشيخ حسن البنا (1324 – 1368هـ / 1906 – 1949م) بالنسبة لهذه الظاهرة الكبرى التي تمثل أمل النهضة لدي الإسلاميين.. ومصدر القلق لدي الإسلاميين.. ومصدر القلق المزعج والمخيف لأعداء الإسلام والمسلمين !.
أما الحقيقة الثالثة: في هذا المقام، فهي أن أبوة حسن البنا وإمامته وزيادته لهذا الإحياء الإسلامي المعاصر، إنما تمثل “ الحلقة المعاصرة “ في سلسلة حلقات هذا الإحياء الإسلامي الحديث..
إنها مرحلة متميزة في “ الكم “ و “ الكيف “.. ولكنها امتداد متطور لمرحلة “ النشأة “ و “ التبلور “، التي تمثلت في حركة “ الجامعة الإسلامية “، التي ارتاد ميدانها ورفع أعلامها رائد الإحياء الإسلامي في العصر الحديث، فيلسوف الإسلام، وموقظ الشرق: جمال الدين الأفغاني (1254 – 1314هـ / 1838 – 1897م).
والتي كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1266 – 1323هـ / 1849 – 1905م) المهندس الأول لتجديدها الفكري..
كما مثل الشيخ محمد رشيد رضا (1282 – 1354هـ / 1865 – 1935م) الامتداد الذي حمل رسالتها – عبر مجلة [المنار] – إلي العالم الإسلامي علي امتداد أربعين عامًا (1315 – 1354هـ / 1898م – 1935م).. ثم أسلم أمانتها إلي الشيخ حسن البنا.
الذي واصل إصدار [المنار] لعدة سنوات.
والذي أخذ في تفسير القرآن الكريم من حيث انتهي رشيد رضا.. الذي سبق وواصل تفسيره من حيث انتهي محمد عبده.
والذي حافظ – في البرنامج التثقيفي لجماعته – علي تدريس كتب: [ رسالة التوحيد ]، و [ الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ] – وللإمام محمد عبده – و [ طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ] – لعيد الرحمن الكواكبي (1270 – 1320هـ / 1854 – 1902م).
وذلك لتأكيد قسمة “ التواصل “ و “ الامتداد “.. مع “ التطور “ الذي انتقلت به الظاهرة الإحيائية والتجديدية – علي يديه – إلي “الكيف“ الجديد والمعاصر، الذي استجاب ويستجيب لمتغيرات الواقع.. والتحديات.
لقد بدأ المشروع الحضاري الإسلامي، علي يد الأفغاني، حركة تجديد واجتهاد وإحياء، تستهدف تحرير العقل المسلم من أغلال الجمود والتقليد ؛ ليواجه ويتجاوز التخلف الموروث عن الحقبة “ المملوكية، العثمانية “ ؛ وليتمكن من مواجهة التحدي الحضاري الغربي، الذي اقتحم حياتنا الفكرية، وواقعنا الإسلامي في ركاب الغزوة الاستعمارية الأوروبية الحديثة.
وبعبارة الإمام محمد عبده:
فلقد “ وجه الأفغاني عنايته لحل عقد الأوهام عن قوائم العقول.. أما مقصده السياسي: فهو إنهاض دولة إسلامية من ضعفها وننبهها للقيام علي شئونها، حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة، والدولة بالدول القوية ؛ فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجده.. “
ولأن المشروع الحضاري الغربي – الغازي – كان وضعيًّا علمانيًّا لا دينيًا..
فلقد كان شعار هذه اليقظة الإسلامية الحديثة: “ الإصلاح بالإسلام “ ؛ ليتميز مشروعها عن هذا المشروع الغربي.. ولكي تعود الأمة لمواصلة نهضتها الحديثة، انطلاقاً من الأصول الإسلامية الجوهرية والنقية، التي صنعت نهضتها الأولي.. فتتجاوز بذلك مرحلة تراجعها الحضاري، وتنجو من المسخ والنسخ والتشويه، الذي يريده لها الغرب الاستعماري.
ولذلك حدد الأفغاني ومحمد عبده “ المحتوي الفكري “ لحركة الجامعة الإسلامية “ عندما قال الأول:
“ إن الدين هو قوام الأمم، وبه فلاحها، وفيه سعادتها.. وهو السبب المفرد لسعادة الإنسان.. فهو يذهب بمعتقديه إلي جواد الكمال الصوري والمعنوي، ويصعد بهم إلي ذروة الفضل الظاهري والباطني، ويرفع أعلام المدنية لطلابها، بل يفيض علي التمدين من ديم الكمال العقلي والنفسي ما يظفرهم بسعادة الدارين.
أرسل فكرك إلي نشأة الأمة، التي خملت بعد نباهة، واطلب سبب نهوضها الأول.. إنه دينٌ قويم الأصول، محكم القواعد، شامل لأنواع الحِكَم، باعث علي الألفة، داعٍ إلي المحبة، مزكَّ للنفوس، مطهر للقلوب من أدران الخسائس، منور للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات البشرية، وحافظ وجودها، ويتأدَّي بمعتقديه إلي جميع فروع المدنية.
فإن كانت هذه شرعة تلك الأمة، ولها وردت، وعنها صدرت، فما نراه من عارض خللها، وهبوطها عن مكانتها، إنما يكون عن طرح تلك الأصول ونبذها ظهريًا.. فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلي قواعد دينها، والأخذ بأحكامه علي ما كان في بدايته.
ولا سبيل لليأس والقنوط، فإن جراثيم – [أصول] – الدين متأصلة في النفوس.. والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها نور خفي من محبته، فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلي نفخة واحدة يسري نفسها في جميع الأرواح لأقرب وقت..
فإذا قاموا، وجعلوا أصول دينهم الحقة نُصب أعينهم ؛ فلا يعجزهم أن يبلغوا في سيرهم منتهي الكمال الإنساني.
ومن طلب إصلاح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوي هذه ؛ فقد ركب بها شططًا، وجعل النهاية بداية، وانعكست التربية، وانعكس فيها نظام الوجود، فينعكس عليه القصد، ولا يزيد الأمة إلا نحسًا، ولا يكسبها إلا تعسًا. ودونك تاريخ الأمة العربية.. وما كانت عليه قبل الإسلام من الهمجية.. حتى جاءها الدين فوحدها، وقواها، ونور عقلها، وقوَّم أخلاقها، وسدد أحكامها ؛ فسادت علي العالم.. “.
هكذا أعلن الأفغاني “ البيان الإسلامي “ لليقظة الإسلامية الحديثة..
ثم واصل الإمام محمد عبده السير علي هذا الطريق، بإلحاح علي تزكية شعار “ الإصلاح بالإسلام “ ؛ فقال – ناقدًا للمدنية الغربية -:
“ إنها مدنية المُلْك والسلطان، مدنية الذهب والفضة “، مدنية الفخفخة والبهرج، مدنية الختل والنفاق، وحاكمها الأعلى هو (الجنيه) عند قوم، و (الليرا) عند قوم آخرين، ولا دخل للإنجيل في شيء من ذلك “ !
ومزكيًا للإسلام فكرته لليقظة الإسلامية والمشروع النهضوي الإسلامي ؛ لأنه دين الوسطية الجامعة.. فقال:
“ لقد ظهر الإسلام، لا روحيًا مجردًا، ولا جسدانيًا جامدًا، بل إنسانيًا وسطًا بين ذلك، آخذا من كلا القبيلين بنصيب، فتوافر له من ملاءمة الفطرة البشرية، ما لم يتوافر لغيره ؛ ولذلك سمي نفسه دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم، وعدوه المدرسة الأولي التي يرقي فيها البرابرة علي سُلَّم المدنية.
لقد جاء الإسلام: كمالاً للشخص، وألفةً في البيت، ونظامًا للملك، امتازت به الأمم التي دخلت فيه عن سواها ممن لم يدخل فيه “.
ثم تحدث الإمام محمد عبده عن الإسلام كسبيل مفرد للتقدم والنهوض والإصلاح، فقال:
“ إن أهل مصر قوم أذكياء.. يغلب عليهم لين الطباع، واشتداد القابلية للتأثر، لكنهم حفظوا القاعدة الطبيعية، وهي: أن البذرة لا تنبت في أرضٍ إلا إذا كان مزاج البذرة مما يتغذي من عناصر الأرض، ويتنفس بهوائها، وإلا ماتت البذرة، بدون عيب علي طبقة الأرض وجودتها، ولا علي البذرة وصحتها، وإنما العيبُ علي الباذر “.
أنفس المصريين الانقياد إلي الدين حتى صار طبعًا فيها ؛ فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذرًا غير صالح للتربة التي أودعه فيها ؛ فلا يثبت، ويضيع تعبه، ويخفف سعيه.. وأكبر شاهد علي ذلك ما شوهد من أثر التربية التي يسمونها أدبية من عهد محمد علي (1184 – 1265هـ / 1770 – 1849م) إلي اليوم..
فإن المأخوذين بها لم يزدادوا إلا فسادًا.. وإن قيل إن لهم شيئًا من المعلومات – فما لم تكن معارفهم وآدابهم مبنية علي أصول دينهم فلا أثر لها في نفوسهم.
إن سبيل الدين لمريد الإصلاح في المسلمين سبيل لا مندوحة عنها، فإن إتيانهم من طريق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين، يحوجه إلي إنشاء بناء جديد، ليس عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من عماله أحدًا.
وإذا كان الدين كافلاً بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل النفوس علي طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة فيه ما ليس في غيره، وهو حاضر لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به فَلِمَ العدول عنه إلي غيره ؟! “.
هكذا تم التأسيس.. وحدث الاختيار.. وأُعلن الانحياز إلي خيار “ الإصلاح بالإسلام “، كمحتوي فكري لحركة الجامعة الإسلامية.
وتم – كذلك – ترتيب الأولويات بين ميادين الإصلاح..
إصلاح الأصول قبل الفروع..
والبدء بالتربية، وإصلاح مناهج الفكر، وتنقية الاعتقاد مما شابه من الخرافات والبدع،
والتركيز علي المؤسسات التي تصوغ العقل المسلم والوجدان الإسلامي..
وتقديم الأمة علي الدولة، وأصول التربية علي فروع السياسة.
وبعبارة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي (1306 – 1385هـ / 1889 – 1965م):
“ فإن السياسة لباب وقشور، وإن سياسة التربية هي الأصل لتربية السياسة – التي هي الفروع – والأصول مقدمة علي الفروع.. ولباب السياسة، بمعناها العام، وعند جميع العقلاء، هو عبارة واحدة:
إيجاد الأمة، ولا توجد الأمة إلا بتثبيت مقوماتها من: جنس، ولغة، ودين، وتقاليد صحيحة، وعادات صالحة، وفضائل جنسية أصيلة.. فوجود تلك المقومات شرطٌ لوجودها، وإذا أنعدم الشرط انعدم المشروط، ثم يفيض علي الأمة من مجموع تلك الحالات إلهامٌ لا يُغالب ولا يُرد، بأن تلك المقومات متى اجتمعت تلاحقت، ومتى تلاحقت ولَّدت (وطنًا).. “.
فالآمال في الإصلاح والنهوض إنما تُعلَّق علي الأمة، قبل الملوك والأمراء..
وإعلانًا عن هذا المنهاج في الإصلاح.. قال الإمام محمد عبده:
“ لقد ارتفع صوتي بالدعوة إلي أمرين عظيمين:
الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين علي طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلي ينابيعها الأولي، واعتباره من ضنمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه.. لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنه علي هذا الوجه بعد صديقاً للعلم، باعثًا عن البحث في أسرار الكون، داعيًا إلي احترام الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل.
كل هذا أعده أمرًا واحدًا. وقد خالفت فيه رأي الفئتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلب علوم الدين ومَنْ علي شاكلتهم، وطلاب فنون العصر ومَنْ هو في ناحيتهم.
أما الأمر الثاني: فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير.. “.
هكذا تم التأسيس لفكر حركة الجامعة الإسلامية، وتيار اليقظة الإسلامية الحديثة.. الإصلاح بالإسلام، وتقديم الأصول علي الفروع – في أولويات الإصلاح – والسلفية التجديدية، التي تعود – في الدين – إلي المنابع الجوهر والنقية ؛ لتجدد دنيا المسلمين بهذا الدين المتجدد أبدًا.. والذي غدا التجديد فيه سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل.. وليس مجرد حق من حقوق الفكر والتكوين !.
وعلي امتداد ما يقرب من أربعين عامًا (1315 – 1354هـ / 1898 – 1935م) كانت المدرسة [المنار] – التي قادها الشيخ محمد رشيد – هي ترجمان هذا التيار التجديدي الإحيائي، الذي وضع الأسس والمعالم للمشروع الحضاري الإسلامي، والذي كوَّن “ العقل، الصفوة، النخبة “ – كما تمثلت في تنظيماته – وأبرزها تنظيم جمعية [العروة الوثقى] التي كونها ورأسها جمال الدين الأفغاني.. والتي كان محمد عبده نائب الرئيس فيها، وواضع مقوماتها.. ورئيس تحرير جريدتها، التي حملت اسمها.
تصاعد التحدي.. وعموم البلوى:
في أوائل القرن العشرين حذَّر الإمام محمد عبده من العواقب الوخيمة لصراع “ العرب “ مع “ الأتراك “ ؛ لأن: “ هذان الشعبان هما أقوى شعوب الإسلام.. ودول أوروبة واقفة لهما بالمرصاد..
فإذا وهنت قوتهما في الصراع، وثبتت دول أوروبة، فاستولوا علي الفريقين، أو علي أضعفهما.. فتكون العاقبة إضعاف الإسلام، وقطع الطريق علي حياته.. “.
وبعد خمسة عشر عامًا من هذا “ التحذير – النبوءة “ وقع المحظور.. وبدأ عموم البلوى يخيم علي سائر بلاد الإسلام.
فالشريف حسين بن علي (1272 – 1350هـ / 1856 – 1931م) – أمير مكة – تمرد علي الدولة العثمانية سنة (1334هـ - 1916م) استجابة لعوامل داخلية، ومدفوعًا – في الأساس – بإغراءات انجليزية !..
ففُتحت في جدار دولة الإسلام الكبرى الثغرة التي أفضت إلي تنفيذ الغرب لمعاهدة “ سيكس بيكو “ – السرية – التي عقدتها انجلترا وفرنسا سنة (1334هـ / 1916م) ؛ لتقسيم ولايات الدولة العثمانية بين أقطاب التحالف الاستعماري الغربي..
ولوعد “ بلفور “ (1336هـ / 1917م) بإقامة الكيان الصهيوني، قاعدة استعمارية غربية، علي أرض فلسطين.
وعقب ذلك، احتل الفرنسيون الشام، وقال قائدهم “ جورو “ (1867م – 1946م) أمام قبر صلاح الدين الأيوبي (532 – 589هـ / 1137 – 1193م) – بدمشق -: “ ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين “ ؟!!..
واحتل الانجليز فلسطين، والعراق، وقال قائدهم “ اللنبي “ (1861م – 1936م) – عندما دخل القدس -: “ اليوم انتهت الحروب الصليبية “ !!.
وفي (22 رجب سنة 1342هـ - 3 مارس سنة 1924م) أُلغيت الخلافة الإسلامية.. ونُفي آخر خلفائها السلطان عبد الحميد الثاني (1286 – 1264هـ / 1869 – 1944م)، فزال “ الرمز “، وتحطم “ الوعاء “ الذي حافظ – بشكل أو بآخر – علي وحدة الأمة وتكامل دار الإسلام، والذي أبقت عليه الأمة، واعتصمت به منذ ظهور الإسلام !
والذين يعلمون عداء الغرب الاستعماري – تاريخيًا – لهذا “ الرمز “ وهذا “ الوعاء “.. والأفراح التي أقامها الصليبيون والصهاينة لهذا الحدث، يستطيعون تقدير وقعه علي الإسلاميين وعلي عموم المسلمين.. ويفهمون معني الرثاء الذي أعلنه أمير الشعراء أحمد شوقي (1285 – 1351هـ / 1868 – 1932م)، عندما قال:
ضجّـت علـيك مـآذنٌ ومنابـر وبـكت عليـك ممالـكٌ ونـواحِ
الهنـدُ والهـةٌ، ومصرُ حزينـةٌ تـبكي عليـك بَمدْمَـعٍ سَحَّـاحِ
والشـامُ تسألُ، والعراقُ، وفارسٌ أَمحا من الأرض الخلافة ماحِ ؟!
يا لـلرجـالِ، لحـرَّةٍ مـوءودةٍ قُتلـت بغير جـريرةٍ وجُـناحِ
نزعـوا من الأعناق خيرَ قـلادةٍ ونضوا عن الأعطاف خيرَ وِشَاحِ
وعلاقة فُصمت عُـرى أسبابِـها كانـت أَبَـرَّ عـلائـقِ الأرواحِ
نَظَمَتْ صفوفَ المسلمين وخَطْوَهم في كل خطـوةِ جـمعـة ورواحِ
بكتِ الصلاةً، وتلك فتنةُ عـابثِ بالشرع، عربـيد القضاء، وَقَاحِ
فلنسمعنَّ بكـلَّ أرضٍ داعـيـًا يدعو إلي الكـذاب، أو لسـجـاجِ
ولنشهـدنَّ بكلَّ أرضٍ فتـنـةً فـيها يُـباع الديـن بيـعَ سـمـاحِ
يُفْتَي علي ذهـب المعزَّ وسيفِهِ وهـوى النفوس، وحقـدها الملـحاحِ
وما هي إلا أشهر حتى تحققت “ نبوءة “ أمير الشعراء.. فعلت أصوات دعاة الفتنة في طول البلاد الإسلامية وعرضها.
ففي (رمضان سنة 1343هـ / إبريل سنة 1925م) نشر الشيخ علي عبد الرازق (1305 – 1386هـ / 1887 – 1966م) كتابه: [الإسلام وأصول الحكم]... فكان أول كتاب يكتبه مسلم – بل وشيخ أزهري، يتولي منصب القضاء الشرعي – يزعم أن الإسلام دين لا دولة.. وأن الخلافة الإسلامية كانت دائمًا وأبدًا، وعلي مر تاريخها سلطة قهر.. وأنها لا علاقة لها بالإسلام !
ولقد وقع هذا الكتاب علي العقل المسلم وقع الصاعقة.. ودارت حوله معركة لعلها أكبر معارك الشرق الفكرية في القرن العشرين !.
وفي (ذي القعدة سنة 1343هـ - يونية سنة 1925م) عزل الانجليزي الشريف حسين بن علي، ونفوه إلي جزيرة “ قبرص “.. فجسدوا بهذا القرار غدرهم “ بالعرب والعروبة “، بعد أن استعانوا بها علي الغدر بالإسلام والمسلمين !.. و
هكذا ضاع من يد المسلمين – إسلاميين كانوا أو قوميين – كل شيء !
وفي (سنة 1344هـ - سنة 1926م) نشر الدكتزر طه حسين (1306 – 1393هـ / 1889 – 1973م) كتابه: [ في الشعر الجاهلي]، الذي استخدم فيه منهج “ الشك الديكارتي “ للتشكيك في “ الشعر الجاهلي “.. ثم تجاوز نطاق “ الشعر الجاهلي “ إلي حيث شكك في عقائد قرآنية، من مثل قصة الجليل إبراهيم، ورحلته الحجازية، وإقامته – مع ابنه إسماعيل – عليهما السلام – قواعد البيت الحرام!.
فكان هذا الكتاب – بعد كتاب [الإسلام وأصول الحكم] – ثاني عمل فكري – يكتبه شيخ أزهري – بمثل اقتحام “ التغريب “ لمقدسات المسلمين، واستفزاز “ الترعة المادية “ للحضارة الغربية مشاعر المسلمين !
وهكذا حدث ما هو أخطر من احتلال الأرض، ونهب الثروات.. حدث الاختراق للعقل المسلم، وبدأ صوت “ التغريب “ – علي ألسنة نفر من أبناء الأمة – يبشر بأن الخلاص لن يتحقق إلا عبر تبني المشروع الحضاري الغربي، بخيره وشره، بحلوه ومره، ومره، بما يُحب فيه وما يُكره، بما يُحمد فيه وما يُعاب.. وذلك بدعوى أننا جزء من طبيعة هذا المشروع الغربي ؛ لأننا جميعًا أبناء حضارة البحر المتوسط !.. وعقلنا يوناني، لم يغير القرآن من يونانيته، كما لم يغير الانجيل يونانية العقل الغربي ؛
إذْ القرآن – في دعواهم – مجرد مصدق للإنجيل !!.
والإسلام – كالنصرانية – ليس إلا رسالة روحية، لا سياسة فيها ولا حكم ولا دولة.. بل، يباعد ما بين السياسة والإسلام !
وما كان محمد إلا صاحب سلطان روحي علي القلوب، كالخالين من الرسل، لم يُقم دولة، ولم يرأس حكومة، ولم يبلور جماعة سياسية.. فرسالته، كسابقاتها، تدع: ما لقيصر لقيصر وتقف – فقط – عند ما لله !
وللمؤمنين أن يؤمنوا ما شاء لهم الإيمان بقصص القرآن، لكن الباحثين لابد لهم من الشك فيه !..
وليست العربية هي لغة النهضة والتقدم، لأنها لغة القرآن والأخلاقيات العربية، فلا تصلح لعصر الديمقراطية والبرلمانات !
ومعايير النضج الفكري هي الإيمان بالغرب، والتقليد له.. والكفران بالشرق !!..
ولهذا فلابد لنا “ أن نسير سيرة أوروبا في الحكم والإدارة والتشريع “.
نعم.. حدث هذا الزلزال.. وهذا الاختراق للثوابت والعقائد والمقومات.
وإذا كانت الزلازل السياسية والاستعمارية لها نظائر في تاريخ الإسلام والمسلمين.. فإن هذا الاختراق الفكري غير مسبوق في تاريخ حضارة الإسلام !..
الأمر الذي اهتز له ضمير الأمة كما لم يهتز في منعطف من منعطفات التحديات التاريخية التي واجهتها.. فكانت الاستجابة الإيجابية أمام هذا التحدي غير المسبوق، تعبيرًا عن نفاسة المعدن.. وتحقيقًا للسنة الإلهية: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).. الحجر 9.. سنة حفظ الإسلام بالمسلمين.. وتجديد دنيا المسلمين بتجديد دين الإسلام !.
الجامعة الإسلامية في طور جديد:
نعم.. حدثت هذه الأحداث الجسام، التي هزت كيان الأمة وزلزلت وجدان الإسلاميين، فاستفزتهم للمقاومة.. فلقد كان الإسلام، علي مر تاريخ الأمة، هو حصنها المنيع عندما تتهدد الملمات والتحديات وجودها وهويتها..
وكانت صيحة “ وا إسلاماه “ هي كلمة السر التي تنادي بها الأمة، وتتداعي إليها عقولها وقلوبها.. خاصتها وجماهيرها.
كان هذا هو القانون “ التحدي “ و “ التصدي “، علي مر تاريخ الإسلام والمسلمين.
ولقد عاد ليعلن عندما عمت البلوى أثناء الحرب الاستعمارية العالمية الأولي (1332 – 1336هـ / 1914 – 1918م).. وفي أعقابها.
ففي (سنة 1346هـ / سنة 1928م) – بعد فشل المؤتمرات الحكومية وشبه الحكومية التي عقدت لإنقاذ الخلافة – اجتمع صفوة علماء الإسلام ومفكريه – بالقاهرة – وأسسوا جمعية “ الشبان المسلمين “.
وإذا كان أمير الشعراء أحمد شوقي قد تحدث في رثائه للخلافة عن بكاء ممالك الإسلام، ونواحي دياره علي إسقاطها:
وبكت عليك ممالكٌ ونواحِ
فلقد كان حسن البنا – مع ثلاثة من رفاقه – يبكون بكاءً حقيقيًا علي الخلافة الإسلامية.. وعلي الحال الذي وصلت إليه الأمة.. مع مراعاة التفكير – ليل نهار – فيما يجب عمله لإنقاذ الأمة من هذا المنحدر الخطير الذي سقطت فيه.
وعن هذه الحال النفسية التي عاشها الفتى – ابن العشرين عامًا.. المتخرج من كلية دار العلوم – حدثنا فقال:
“.. وليس يعلم إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل ونعلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلي حد البكاء !..
وكم كنا نعجب إذ نري أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة، والخليُّون هاجعون يتسكعون بين المقاهي ويترددون علي أندية الفساد والإتلاف.. “.
ثم يمضي للإشارة إلي “ القرار التاريخي “ الذي اتخذه – هو ورفاقه الثلاثة – في “ اللحظة التاريخية “، فيقول:
“ لقد ألهبت هذه الحوادث نفسي، وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلي وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس.. “.
هكذا كانت (سنة 1347هـ / سنة 1928م) هي سنة “ اللحظة التاريخية “، التي مثلت “ التطور النوعي “؛ لإنجاز الشيخ حسن البنا في سياق تطور المشروع الإسلامي للنهضة الحضارية، وتجديد دنيا المسلمين بتجديد دين الإسلام..
“ اللحظة التاريخية “ التي أدرك فيها هذا الرجل الملهم والمبارك أن تصاعد التحديات.. وثغرات الاختراق.. وعموم البلوى، إنما تتطلب الانتقال بالقضية من إطار الصفوة والنخبة – التي كانت عليه منذ [العروة الوثقى] وحتى [الشبان المسلمين] – إلي الدائرة التي تشترك فيها “ الأمة “ مع “ النخبة “، وإلي المستوي الذي تسهم فيه “ الجماهير “ مع “ الصفوة “ في مواجهة التحديات.
فالغرب الاستعماري والفكري لم يعد “علي الأبواب“ –كما كان الحال في عصر الأفغاني– وإنما أصبح في داخل المعدة الإسلامية!..
والتخلف الموروث لم يعد بالنقل الذي كان عليه في عصر الأفغاني ومحمد عبده، وإنما أصبح الثقل لخطر التغريب.. فتغيرت – إذن – موازين التحديات، الأمر الذي فرض إعادة الترتيب للأولويات.
لقد كان نصف القرن الذي مضي من عمر الجامعة الإسلامية ؛ تأسيًا لمشروع النهضة الإسلامية، وتكوينًا “ للعقل “ القائد لهذا المشروع..
وأمام تصاعد التحديات.. والاختراق من الداخل.. كان لابد من بلورة جسم لهذا “ العقل “ !..
فكان الإنجاز التاريخي لحسن البنا، في سياق الإحياء الإسلامي:
الانتقال “ بأسس المشروع الحضاري “ و “ مناهج التجديد لدين الأمة ودنياها “ إلي معالم أشد وضوحًا، وأكثر تفصيلاً، وأقرب إلي التنزيل علي الواقع الذي استجد، والمتغيرات التي حدثت في موازين التحديات؛ حتى يقترب هذا المشروع و “ معالمه “ من “ البرنامج “ المقدم إلي “ الجماهير “.
وأيضًا الانتقال “ بالتنظيم “ الحتمل للرسالة من إطار “ الصفوة – صفوة أولي الأمر – كما كان الحال في جمعية “ العروة الوثقى “ إلي إطار “ الجماهير “، كما تجسد في جماعة “ الإخوان المسلمين “.
تلك هي “ اللحظة التاريخية “ لحسن البنا.. وذلك هو “ التطور النوعي “، و “ الإضافة الكيفية “ لإنجازه في السباق التاريخي لحركة الإحياء الإسلامي الحديث، وتلك هي “ بصمته “ المتميزة في ظاهر الصحوة الإسلامية المعاصرة.
*************
المبحث الثالث
من معالم التجديد في مشروعه الحضاري:
وإذا كان المقام لا يتسع لحديث مفصل عن معالم المشروع التجديدي للنهضة الحضارية الإسلامية، كما صاغه الإمام الشهيد الشيخ حسن البنا لحركة الصحوة الإسلامية المعاصرة، ممثلةً في “ جماعة الإخوان المسلمين “..
فإننا نقف عند إشارات، إلي عناوين أمهات المسائل في هذا المشروع.. وعلي سبيل المثل:
1 – التميز عن المؤسسات الدينية التقليدية:
فلم يكن الإسلام عند “ الإخوان المسلمين “ – كحركة إحياء إسلامي – كما هو عند “ المؤسسات الدينية التقليدية “، تلك التي كانت لا تزال – في جملتها – واقفة عند “ المتون “ و “ الحواشي “ و “ التعليقات “ و “ الاعتراضات “ التي أفرزها عصر التراجع الحضاري – المملوكي، العثماني – والتي أقامت شبه شبع قطيعة معرفية مع عصر الازدهار والإبداع في تاريخنا الحضاري.
واتخذت موقفاً غير وديَّ من إبداعات العصر الحديث في التجديد والإحياء.
لم يكن الإسلام، عند “ الإخوان المسلمين “، هو ذلك الذي وقفت عنده المؤسسات التقليدية في التعليم الديني..
وإنما تقدم “ الإخوان “ خطوات فتجاوزوا فهم هذه المؤسسات للإسلام.. ومن هنا كانوا بحقَّ – فصيلاً من فصائل تيار التجديد.
ولم يكن الإسلام – عند حسن البنا، والإخوان المسلمين – وقوفاً عند العقل وحده – فهو دين.. مطلق – بينما العقل نسبي الإدراك، ككل ملكات الإنسان.
ولا وقوفاً عند “ النقل “ وحده.. فلله سبحانه وتعالي – مع النقل – هدايات أخرى وهبها وسخرها للإنسان.
ولا وقوفاً عند التجارب والحواس وحدها.. وإلا كان الناس “ خبراء لا قلوب لهم “ !.. يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، لا يتجاوزون حدوده.
ولا وقوفاً عند القلب والوجدان وحده، وإلا كانت “ الثمرة “ “ دراويش “ لا عقل لديهم يضبط خطرات القلوب !
وإنما كان الإسلام الإحيائي – عند حسن البنا – هو ذلك الدين الشامل، الذي يرجع – في مصادر المعرفة – إلي كتابي الوحي والكون – كتاب الله المسطور.. وكتابه المنظورة
ولذلك أعلن حسن البنا أن جماعته هي: “ دعوة من الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب “.
وأنها – لذلك – جامعة لأصول التجديد.. ولمعالمه.. ومستجيبة لملكات الإنسان.. وملبية لشرائح الأمة ومكوناتها.. وأيضًا مراعية لمستوي الجماهير..
فهي: “ دعوة سلفية.. وطريقة سنية.. وحقيقة صوفية.. وهيئة سياسية.. وجماعة رياضية.. ورابطة علمية ثقافية.. وشركة اقتصادية.. وفكرة اجتماعية “.
2 – الجمع بين “ النظر العقلي والنظر الشرعي “:
وفي مواجهة الاستقطاب الحادة بين الغلاة.. الغلاة الذين تخندقوا أمام ظواهر النصوص.. والغلاة الذين ألهوا براهين العقول، ونقلوها من “ النسبية “ إلي “ الإطلاق “..
وقف الأستاذ البنا – بالتحديد الإسلامي – عند وسطية الإسلام..
فقطع باستحالة الخلاف والصدام والتناقض بين “ النظر العقلي “ و “ النظر الشرعي “ في الأمور “ القطعية “..
ورأي أن بعض المجالات المعرفية مختصَّ بواحد من سبل النظر دون الآخر.. كالإلهيات.. ؛ مثلاً:
“ فذات الله – تبارك وتعالي – أكبر من أن تحيط بها العقول البشرية، أو تدركها الأفكار الإنسانية؛ أو تدركها الأفكار الإنسانية؛ لأنها مهما بلغت من العلوم والإدراك محدودة القوة، محصورة القدرة.. فالعقل البشري قاصر عن إدراك حقائق الأشياء.. “
في مثل هذه الميادين ؛
ولذلك فإن “ الإسلام قد أرشد العقول إلي التزام حدها، وعرفها قله علمها، وندبها إلي الاستزادة من معارفها، فقال تعالي: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).. الإسراء 85... وقال تعالي: (وقل ربي زدني علما ).. طه 144 .
وإذا كانت “ طبيعة المبحث “ هي التي تحدد أداة النظر فيه، وهل الأوْلي أن تكون “ العقل “ أو “ الشرع “، فإن اختلافهما إنما يكون في “ الظاهر “، وفيما هو “ ظني “، لم يبلغ فيه أحدهما مرتبة “ اليقين “..
“ فقد يتناول كلَّ من: النظر الشرعي، والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر،، ولكنهما لن يختلفا في القطعي، فلن تصطدم حقيقة علمية بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤول الظني منهما ليتفق مع القطعي، فإن كنا ظنيين فالنظر الشرعي أولي بالاتباع حتى يثبت بالعقل أو ينهار..“.
وإذا كان الإسلام قد رفض “ غرور العقل “، و “ انفراده بالنظر “ في كل الميادين، ودعا إلي التوازن بين نظره وبين النظر الشرعي.. فإنه لم يحجر علي الأفكار، ولم يحبس العقول.. بل جاء يحرر العقل، ويحث علي النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح النافع من كل شيء، “ والحكمة ضالة المؤمن أنَّي وجدها فهو أحقُّ الناس بها “.
وهذا الموقف الإسلامي الوسط، إزاء “ العقل والعقلانية “ نابع من التمييز بين مجالات البحث وطبائع الأشياء موضوع النظر..
فمن هذه المجالات ما تكون السيادة الأولي فيه للنظر العقلي، ومنها ما تكون السيادة الأولي فيه للنظر الشرعي، وهناك ميادين تكون السيادة فيها للحواس والتجربة.. وأخري تكون السيادة الأخرى فيها للقلب والوجدان.
وهذا الموقف الإسلامي المتميز، هو الذي يرفض الخرافة المنكرة للعقل..
كما يرفض المادية، المنكرة لعالم الغيب، ولما يعلو علي الفهم – وإن لم يناقض العقل فيرفض ؛
هذا الموقف الإسلامي “ الإيمان الأسطوري “، كما يرفض “ العقلانية اليونانية – الأوروبية “، التي أنكرت الوحي، ووقفت عند النظر العقلي المجرد وحده، وعالم الشهادة دون سواه..
وإذا كان تاريخ “ العقل البشري “ يشهد علي تذبذبه بين:
1 – طور الخرافة والبساطة والتسليم المطلق للغيب.
2 – وطور الجمود والمادية والتنكر لهذا الغيب المجهول.
وكلا هذين اللونين من ألوان التفكير خطأ صريح، وغلو فاحش، وجهالة من الإنسان بما يحيط بالإنسان ؛ فلقد جاء الإسلام الحنيف يفصل القضية فصلاً حقًّا.. فجمع بين الإيمان بالغيب، والانتفاع بالعقل..
إن المجتمع الإنساني لن يصلحه إلا اعتقاد روحي يبعث في النفوس مراقبة الله.. في الوقت الذي يجب علي الناس فيه أن يطلقوا لعقولهم العنان؛ لتعلم وتعرف وتخترع وتكتشف وتسخر هذه المادة الصماء، وتنتفع بما في الوجود من خيرات وميزات..
فإلي هذا اللون من التفكير، الذي يجمع بين العقليتين: الغيبية والعلمية، ندعو الناس “.
هكذا قال الأستاذ البنا فاصلاً ومفصلاً القول في هذا المنهج الإسلامي الوسطي، الرافض لكل ألوان الغلو في هذا الميدان.
3 – مرونة الشريعة.. والانفتاح علي الحكمة الإنسانية:
وحتى يكون الباب مفتوحًا – حقًّا – أمام التجديد، جاء الإسلام.. في المعاملات.. والاجتماعيات.. والسياسات.. بالكليات.. فوفقت شريعته..- التي هي وضع إلهي ثابت – عند فلسفة التشريع.
ولم تأتِ بتفاصيل التشريعات، وركزت علي “ القواعد “ و “ النظريات “ و “ الكليات “، تاركة الباب مفتوحًا أمام “ الاجتهاد “ المحكوم بهذه الكليات والقواعد والفلسفات والنظريات.. ومفتوح – كذلك – أمام التجديد الذي يضع هذه الاجتهادات في الممارسة والتطبيق،
فكان هذا المنهاج الإسلامي الذي يواكب كل المستجدات بالحلول الجديدة، والذي تبقي فيه هذه الحلول الجديدة إسلامية دائمًا وأبدًا ؛ لأنها فروع وأوراق للجذور والأصول والكليات الثوابت التي لا تغيير فيها ولا تبديل.
وعن هذا الموقف الإسلام من الكليات الثوابت.. والجزئيات المتجددة، كتب الأستاذ البنا، فقال:
“ يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام، كدين عام، انتظم كل شئون الحياة، في كل الشعوب والأمم، لكل الأعصار والأزمان، جاء أكمل وأسمي من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة وخصوصًا في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشئون، ويرشد الناس إلي الطريق العملية للتطبيق عليها، والسير في حدودها.
لقد جاء الإسلام للناس فكرة سامية تحدد الأهداف العليا، ونضع القواعد الأساسية، وتتناول المسائل الكلية، ولا تتورط في الجزئيات، وتدع بعد ذلك للحوادث الاجتماعية والتطورات الحيوية أن تفعل فعلها، وتتسع لها جميعًا، ولا تصطدم بشيء منها..
ولقد فرق الفقهاء في النظرة التشريعية بين ما هو من قواعد أحكام العبادات، وشئون الحياة الاجتماعية، فأفسح للنظر والاجتهاد في الثانية ما ليس في الأولي ؛ حتى لا يكون علي الناس حرج ولا مشقة ( يريد الله بكم البير ولا يريد بكم العسر ).. البقرة 185، وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.. فليست في الدنيا شريعة تقبل المرونة والسلاسة والسَّعة كشريعة الإسلام ؛ ولذلك كان الإسلام هو شريعة كل زمان ومكان.. “
وهذا الجديد الذي تفتح له الشريعة صدرها، وتفسح أمامه الطريق، كما يكون إبداعًا ذاتيًا للأمة الإسلامية والعقل المسلم، يكون – أيضًا – حكمة – أي: صوابًا عقليًا – يلتقطها العقل المسلم أنَّي وجدها، وبصرف النظر عن المواطن الحضارية التي أبدعتها.
وعن هذه الحقيقة من حقائق الانفتاح الإسلامي علي الآخرين، والتفاعل مع إبداعاتهم، يقول الأستاذ البنا:
“ إن طبيعة الإسلام، التي تساير العصور والأمم، وتتسع لكل الأغراض والمطالب – لا تأبي أبدًا الاستفادة من كل نظام صالح لا يتعارض مع قواعده الكلية وأصوله العامة. إنه يدعو إلي أن تأخذ من كل شيء أحسنه، وينادي بأن الحكمة ضالة المؤمن ؛ أنَّي وجدها فهو أحق الناس بها، ولا يمنع أن تقتبس الأمة الخير من أي مكان ؛ فليس هناك ما يمنع من أن ننقل كل ما هو نافع ومفيد عن غيرنا، ونطبقه وفق قواعد ديننا، ونظام حياتنا، وحاجات شعبنا” .
4 – إسلامية النظام النيابي الدستوري:
ولقد طبق الأستاذ البنا هذا المنهاج – منهاج انفتاح الإسلام – وخاصة في الشئون الدنيوية – علي مختلف الثقافات والحضارات – طبق هذا المنهاج علي الموقف الإسلامي من النظام النيابي والدستوري الذي تبلور في تجارب الديمقراطيات الغربية.. فقال:
“ إنه ليس في قواعد هذا النظام النيابي – الذي نقلناه عن أوروبا – ما يتنافي مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيدًا عن النظام الإسلامي ولا غريبًا عنه..
وإن الباحث حين ينظر إلي مبادئ الحكم الدستوري – (التي قام عليها الدستور المصري الموضوع سنة 1314هـ / سنة 1923م) – التي تتلخص في:
المحافظة علي الحرية الشخصية بكل أنواعها.
وعلي الشورى واستمداد السلطة من الأمة.
وعلي مسئولية الحكام أمام الشعب، ومحاسبتهم علي ما يعملون من أعمال.
وبيان حدود كل سلطة من السلطات.
هذه الأصول كلها يتجلي للباحث أنها تنطبق كل الانطباق علي تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم ؛ ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلي الإسلام، وهم لا يعدلون به نظامًا آخر.. فنحن نسلم بالمبادئ الأساسية للحكم الدستوري باعتبارها مثقفة، بل مستمدة من نظام الإسلام.. “.
فالمبادئ والفلسفات والمقاصد التي جاء بها الإسلام في سياسة الأمة والدولة يمكن أن تحققها “ النظم المدنية “ و “ التجارب الإنسانية “ التي هي إبداع إنساني – إسلامي أو غير إسلامي – والمعيار في القبول والرفض هو مدي تحقيق هذه “ النظم “ لمقاصد الإسلام في إشراك الأمة في سلطة صنع القرارات.. وفي تحقيق العدل بين الناس.
5 – رفض التغريب. ونقد الحضارة المادية الغربية:
وفي مواجهة “ التغريب “.. الذي اخترق عقل الأمة، وغدا له أعضاء من بين أبنائها.. يقف مشروع الأستاذ البنا ليقول:
“ إن الحضارة الغربية – بمبادئها المادية – قد انتصرت في هذا الصراع الاجتماعي علي الحضارة الإسلامية، بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معًا في أرض الإسلام نفسه، وفي حرب ضروس ميدانها نفوس المسلمين وأرواحهم وعقائدهم، كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري.
وكما كان لذلك العدوان العسكري أثره في تنبيه المشاعر القومية، كان لهذا الطغيان الاجتماعي أثره كذلك في انتعاش الفكرة الإسلامية.. إن مدنية الغرب، التي زهت بجمالها العلمي حينًا من الدهر، وأخضعت العالم كله بنتائج هذا العلم لدوله وأممه – تفلس الآن وتنتحر !.. فهذه أصولها السياسية تقوضها الدكتاتوريات، وأصولها الاقتصادية تجتاحها الأزمات، وأصولها الاجتماعية تقضي عليها المبادئ الشاذة والثورات المندلعة في كل مكان، وقد حار الناس في علاج شأنها، وضلو السبيل !.
ونحن نريد أن نفكر تفكيرًا استقلاليًا، يعتمد علي أساس الإسلام الحنيف، لا علي أساس الفكرة التقليدية التي جعلتنا نتقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة، تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد.. “.
ولقد كان رفض “ التغريب “ – في مشروع الأستاذ البنا – رفضًا “ للتقليد.. والتبعية “.. ولم يكن رفضًا “ للتفاعل – الصحي – بين الحضارات “.. ولا دعوة “ للعزلة.. والانغلاق.. والاكتفاء الذاتي “.. فهو الذي يقول عن حضارتنا الإسلامية وأمتنا الإسلامية.
“ لقد اتصلت بغيرها من الأمم، ونقلت كثيرًا من الحضارات، ولكنها تغلبت بقوة إيمانها، ومتانة نظامها عليها جميعًا ؛ فعربتها أو كادت، واستطاعت أن تصبغها، وأن تحملها علي لغتها ودينها بما فيها من روعة وحيوية وجمال، ولم يمنعها أن تأخذ النافع من هذه الحضارات جميعه، من غير أن يؤثر ذلك في وحدتها الاجتماعية أو السياسية “.
وهكذا كان الموقف التجديدي – إزاء الحضارات الأخرى – وسطًا يرفض “ الانغلاق، والعزلة “ ويرفض “ التبعية، والتقليد “ ويتخذ الموقف النقدي، الذي يميز ما بين “ المشترك الإنساني العام “ وما بين “ الخصوصيات العقدية والفلسفية والثقافية “ ؛ فهو “ التفاعل “، الذي ينفتح علي الدنيا من موقع الراشد المستقل، الذي لا يفقد هويته، ولا يفرط في روحه الحضارية المتميزة عن الآخرين.
6 – التمييز بين المقدس المعصوم.. وبين التراث الفكري:
وفي مواجهة “ التخلف الموروث “.. وتيار “ التقليد لهذا التخلف “، و “ الجمود علي موروثه “، دعا الأستاذ البنا إلي “ التحديد “، وحدد في صراحة ووضوح أن دعوته هي واحدة من “ الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب “.
وطالَبَ، في النظرة النقدية للتراث والتاريخ، بالتمييز بين “ الدين الثابت “ وبين “ الفكر المتغير “ و “ الممارسات البشرية “.. وهو ما يعني التطبيق لمنهاج التجديد الإسلامي في العودة إلي المنابع الجوهرية والنقية المعصومة – الكتاب وصحيح السنة – أي البلاغ القرآني والبيان النبوي لهذا البلاغ القرآني.. فهو “ المقدس – الملزم “، بينما الفكر الإسلامي، والتراث الحضاري، وتجارب التاريخ، هي كنوز نحييها ونحتضنها، ونستلهم منها، لكن دون تقديس ولا تعصب ولا إلزام..
فالتجديد: هو عودة للمنبع، مع الدراسة للواقع المعيش، والبحث عن إجابات لعلامات استفهام هذا الواقع المعيش والمتجدد في هذه المنابع، مستفيدين الاستفادة الواعية والمرنة من هذا التراث الفكري، والحضاري، والتاريخي.
وعن هذا المنهاج التجديدي يقول الأستاذ البنا:
“ إن أساس التعاليم الإسلامية ومَعِينها هو كتاب الله تبارك وتعالي، وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم.. وإن كثيرًا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه – تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها ؛ ولهذا يجب أن تُستقي النظم الإسلامية، التي تُحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي، معين السهولة الأولي، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح – رضوان الله عليهم – وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية ؛ حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا به الله، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا ينفق معه، والإسلام دين البشرية جمعاء.. “.
فبهذا التجديد – والتجديد – يتحرر العصر من أسر العصور السابقة، ويتحرر العقل المعاصر من قيود العصور الماضية ؛ بل وتتحرر النصوص المؤسَّسة للدين – القرآن والسنة – من حجاب النصوص البشرية والاجتهادات التي أثمرتها ملابسات خاصة ؛ فتعود الفاعلية الأولي لهذه النصوص المعصومة والمقدسة.. وبذلك التحرر يجد الواقع المعاصر والمعيش الإجابات عن علامات استفهام لدي العقل الذي يعايش هذا الواقع ويفقهه، في ضوء كليات الكتاب والسنة، وانطلاقًا منها، فتأتي الإجابات معاصرة حقًّا.. وسلفية أيضًا.
ونحن عندما نتأمل هذا المنهاج في التجديد الإسلامي، عند الأستاذ البنا، ونتأمل العبارات التي أوردناها له هنا، نتذكر – علي الفور – صياغة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده لذات المنهاج – علي الفور – صياغة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده لذات المنهاج، عندما قال: إنه قد دعا إلي “ تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين علي طريقة سلف الأمة، قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلي ينابيعها الأولي.. “ وبهذا المنهاج تتحول السلفية إلي تحرير وتجديد، لا إلي جمود وتقليد، كما فهمها آخرون !.
وهنا – أيضًا – يتميز التجديد الإسلامي عن “ الحداثة “ – بمعناها الغربي – فضلاً عن تميزه من الجمود والتقليد.
فالجمود والتقليد قد حوَّل “ التراث “ إلي مرجعية كادت أن تحجب المنابع الجوهرية والنقية للإسلام، حتى غدت حجابًا بين العصر وبين البلاغ القرآني والبيان النبوي لهذا البلاغ القرآني...
وكادت المذهبية والمذاهب أن تحجب مقلديها عن منهاج النبوة. ثم جاءت “ الحداثة “ – بمعناها الغربي – لتقيم قطيعة معرفية كبرى مع الموروث والتراث، والموروث والتراث، والموروث الديني علي وجه الخصوص، فأحدثت فراغًا كاملاً، فلا “ التراث “ أبقت، ولا هي رجعت إلي “ المنابع “ الأولي.
لكن التجديد الإسلامي – عند الأستاذ البنا.. وعند كل أئمة التجديد في حضارتنا – قد كان دعوةً للعودة إلي المنابع الجوهرية والنقية، المقدسة، والمعصومة، والثابتة، والملزمة للمسلمين – وبعبارة الأستاذ البنا: “ المعين الصافي، معين السهولة الأولي “ – مع الاستفادة من كنوز التراث الفكري، بعد عرضه علي معايير القرآن وصحيح السنة.. ومعه فقه الواقع المعيش ؛ حتى نجيب عن علامات استفهامه هو، بألسنة الأحياء لا يفتاوى الأموات !.
7 – النقد لتاريخ الدولة.. ولمنهاج الفكر في التاريخ الإسلامي:
وانطلاقًا من هذه النزعة التجديدية – التي هي ثورة علي الجمود والتقليد – وقف الإمام البنا هذا الموقف النقدي، وهو يُقيَّم تاريخ الدولة الإسلامية في تاريخنا الحضاري.. فكان حديثه عن العوامل السبعة التي أدت إلي تحلل كيانها ؛ ومن ثم حدوث الفراغ الذي أخذ يتمدد فيه النموذج الغربي للدولة القومية الحديثة.
“ فأهم عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية “ – تاريخيًا – هي:
أ – الخلافات السياسية والعصبية، وتنازع الرياسة والجاه.
ب – والخلافات الدينية والمذهبية.
جـ - والانغماس في ألوان الترف والنعيم.
د – وانتقال السلطة والرياسة إلي غير العرب، من الفرس تارة، والديلم تارة أخري، والمماليك والأتراك وغيرهم، ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن ؛ لصعوبة إدراكهم لمعانيه.
هـ - وإهمال العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرف الأوقات، وتضييع الجهود في فلسفات نظرية عقيمة، وعلوم خيالية سقيمة.
و – وغرور الحكام بسلطانهم، والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم، حتى سبقتهم في الاستعداد والأهبة، وأخذتهم علي غرة.
ز – والانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم، والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع..“.
حتى لنستطيع أن نقول: إن الأستاذ البنا قد أوجز في هذه العوامل السبعة، ليس فقط النقد العبقري لنظم الدول الإسلامية في تاريخنا الحضاري وإنما – أيضًا – النقد لمناهج التفكير لدي كثير من مدارسنا الفلسفية في تراثنا الفكري !.. تلك التي شغلت العقل بالجدل فيما وراء الطبيعة، وعوالم الغيب عن مهمته الأصلية والأولي وهي الإبداع في عالم الشهادة ؛ لتسخير سنن هذا العالم في التقدم والنهوض.
وبهذا النقد العبقري قدم الأستاذ البنا للصحوة الإسلامية ميزانًا تزن به نظم الحكم الإسلامية في تاريخ الإسلام.
8 – الاستقلال الحضاري الشامل.. وسيادة الأمة:
وفي مواجهة الذين اكتفوا من مقاصد “ الاستقلال “ بالاستقلال “ السياسي “ – الذي يقف عند “ القلم “ و “ النشيد “ – دعا الأستاذ البنا إلي الاستقلال الشامل الذي يحقق “ سيادة الأمة “:
“ لأن الإسلام لا يرضي من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال، فضلاً عن السيادة وإعلان الجهاد، ولو كلفهم ذلك الدم والمال.. والاستقلال الاقتصادي للأمة.. وليس لقطر واحد من أقطارها – فالهدف هو تحقيق نظام اقتصادي استقلالي للثروة والمال والدولة والأفراد والنقد ؛ ذلك أن الرابطة بيننا وبين أمم العروبة والإسلام تمهد لنا سبيل الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي، وتنقذنا من التحكم الغربي في التصدير والاستيراد وما إليهما “..
والاستقلال الحضاري، الذي يعيد لأمة الإسلام وحضارته مكانة الإمامة للدنيا، وموقع الشهود علي العالمين..
“ فلقد كانت قيادة الدنيا في وقت ما، شرقية بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها النبوات إلي الشرق مرة ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى، ونهض الغرب نهضته الحديثة ؛ فورث الغرب القيادة العالمية “.
وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغي، ويحار ويتخبط، فلم تبق إلا أن تمتد يد “ شرقية “ قوية، يظللها لواء الله، وتخفق علي رأسها راية القرآن، ويمدها جند الإيمان القوى المتين ؛ فإذا الدنيا مسلمة هانئة، وإذا بالعوالم كلها هاتفة: ( الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ).. الأعراف 43...
إنه استقلال الحضارة “ المتميزة “ – لا “ المتخلفة “، ولا “ التابعة “ – ذلك أن “ الإسلام لا يأبي أن نقتبس النافع، وأن نأخذ الحكمة أنَّي وجدناها، ولكنه يأبي كل الإباء أن نتشبه في كل شيء بمن ليسوا من دين الله علي شيء، وأن نطرح عقائده وفرائضه، وحدوده وأحكامه ؛ لنجري وراء قوم فتنتهم الدنيا، واستهوتهم الشياطين.. “.
9 – تكامل دوائر الانتماء الوطني.. والقومي.. والإسلامي.. والإنساني:
وفي مواجهة المضمون الغربي، ضيق الأفق.. والانعزالي، لكل من: “ الوطنية “، و “ القومية “.. والذي وجد له دعاة وأحزابًا تخندق بعضها عند “ الوطنية الإقليمية “.. وتخندق بعضها الآخر عند “ القومية العنصرية “.. وافتعل آخرون – كرد فعل – المتناقضات بين الإسلام وبين الوطنية والقومية..
في مواجهة هذا الغلو، رأينا الأستاذ البنا يبعث – بالتجديد – المنهج الإسلامي الذي يؤلف بين جميع دوائر الانتماء – الوطني.. والقومي.. والإسلامي.. والإنساني – فيسلكها جميعًا في سُلَّم واحد.. فيعلن:
أ – أن “ الإخوان المسلمين يحبون وطنهم، ويحرصون علي وحدته القومية بهذا الاعتبار، ولا يجدون غضاضة علي أي إنسان أن يخلص لبلده، وأن يفني في سبيل قومه، وأن يتمني لوطنه كل مجد، وكل عز وفخار.
إن الإخوان المسلمين يحترمون قوميتهم الخاصة، باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرون بأسًا أن يعمل كل إنسان لوطنه، وأن يقدمه في العمل علي سواه.
هذا من وجهة القومية الخاصة – [أي: الوطنية]-.
ب – ثم هم، بعد ذلك، يؤيدون الوحدة العربية، باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض.
لقد نشأ الإسلام الحنيف عربيًا، ووصل إلي الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه علي هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين، وقد جاء في الأثر: “ إذا ذلَّ الإسلام “، وقد تحقق هذا المعني حين زال سلطان العرب السياسي، وانتقل الأمر من أيديهم إلي غيرهم من الأعاجم، والديلم ومن إليهم ؛ فالعرب عصبة الإسلام وحراسه.
وأحب أن أنبه إلي أن الإخوان المسلمين يعتبرون العروبة كما عرَّفها النبي صلي الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه:” أَلا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان “
ومن هنا كانت وحدة العرب أمرًا لابد منه ؛ لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه – ومن هنا علي كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة – وتأييدها ومناصرتها.. فالوحدة العربية هي الحلقة الثانية في النهوض. وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية.
جـ - بقي أن الإسلام، كما هو عقيدة وعبادة، هو وطن وجنسية، وأنه قد قضي علي الفوارق النسبية بين الناس ؛ فالله – تبارك وتعالي – يقول: (إنما المؤمنون إخوة ).. الحجرات 10، والنبي صلي الله عليه وسلم يقول: “ المسلم أخو المسلم “، “ المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعي بذمتهم أدناهم، وهم يد علي من سواهم “.
ولذلك ؛ فالإخوان المسلمون يعملون للجامعة الإسلامية، باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام.
د – أما الخلافة الإسلامية، فإن الإخوان المسلمين يعتقدون أنها رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب علي المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها.
والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله ؛ ولهذا قدم الصحابة – رضوان الله عليهم – النظر في شأنها علي النظر في تجهيز النبي صلي الله عليه وسلم ودفنه، حتى فرغوا من تلك المهمة، واطمأنوا إلي إنجازها. والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام، وبيان أحكام الإمامة وتفصيل ما يتعلق بها – لا تدع مجالاً للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حُوَّرت عن مناهجها، ثم ألغيت، إلي الآن.
والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم – مع هذا – يعتقدون أن ذلك يحتاج إلي كثير من التمهيدات التي لابد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات:
1 – لابد من تعاون تام، ثقافي واجتماعي واقتصادي، بين الشعوب الإسلامية كلها.
2 – يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد.
3 – يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية.
4 – حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الإجماع علي “ الإمام “ الذي هو واسطة العقد، ومجمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض.
هـ - ولي أن أقول، بعد هذا: إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله ؛ فهم ينادون بالوحدة العالمية ؛ لأن هذا هو مرمي الإسلام وهدفه، ومعني قول الله – تبارك وتعالي -: ( وما أرسلناك رحمة للعالمين ).. الأنبياء 107.
وانا في غني بعد هذا البيان عن أن أقول: إنه لا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار، وبأن كلاًّ منها تشد أزر الأخرى، وتحقق الغاية منها.. لقد وفق الإسلام بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة.. فإذا أراد أقوام أن يتخذوا من المناداة بالقومية الخاصة – [أي: الوطنية] – سلاحًا يميت الشعور بما عداها ؛ فالإخوان المسلمون ليسوا معهم، ولعل هذا هو الفارق بيننا وبين كثير من الناس.
و – أما مصر، فإنها قطعة من أرض الإسلام، وزعيمة أممه، وفي المقدمة من دول الإسلام وشعوبه، ونحن نرجو أن تقوم في مصر دولة مسلمة تحتضن الإسلام، وتجمع كلمة العرب، وتعمل لخيره، وتحمي المسلمين في أكناف الأرض من عدوان كل ذي عدوان، وتنشر كلمة الله، وتبلغ رسالته.. فالمصرية لها في دعوتنا مكانتها ومنزلتها وحقها في الكفاح والنضال.. ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله.. “.
هكذا صاغ الأستاذ البنا، في هذه العبارات البالغة النفاسة، وبهذا الأسلوب العلمي، أعمق النظريات السياسية والاجتماعية المعاصرة في تعدد وتكامل دوائر الانتماء – الوطنية.. والقومية.. والإسلامية.. والإنسانية – مع الإشارة إلي دور مصر – الرائد والفائد – في تحقيق هذه الوحدة المنشودة لأمة الإسلام.
الأمر الذي يستوجب علي أهل الغلو – أكانوا وطنيين يديرون الظهر لما وراء الوطن – الإقليم – أو قوميين – يهملون الوطنية، ويديرون الظهر لما وراء القومية – أو إسلاميين افتعلوا تناقضًا مزعومًا بين الإسلامية وبين الوطنيات والقوميات.. الأمر الذي يستوجب علي سائر هؤلاء الغلاة أن يمنعوا النظر في هذا كتب الأستاذ البنا في هذا الموضوع.
فكل هذه الدوائر للانتماء هي درجات في سُلَّم الانتماء الواحد، يصعد عليها الإنسان المسلم – عقيدة أو حضارةً – دونما تناقضات.. وبعبارة الأستاذ البنا: “ فكل منها تشد أزر الأخرى، وتحقق الغاية منها، دونما تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار.. “.
10 – رفض التكفير لمن يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله:
وفي مواجهة الغلاة الذين لا يردون في المجتمعات الإسلامية، وفي عقائد المسلمين المعاصرين إلا شوائب الكفر والجاهلية.. فيحكمون بهما علي الأمة.. أو علي النظم والحكومات والمجتمعات.. في مواجهة هؤلاء الغلاة يقدم المشروع التجديدي للأستاذ البنا الموقف الإسلامي الأصيل والمتوازن.
“ فنحن لا نكفَّر مسلمًا أقر الشهادتين، وعمل بمقتضاهما، وأدي الفرائض – برأي أو معصية – إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذَّب صريح القرآن أو فسره علي وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر.
ولقد اندمجت مصر بكليتها في الإسلام بكليته ؛ عقيدته ولغته وحضارته، ودافعت عنه، وزادت عن حياضه، وردَّت عنه عادية المعتدين.. ومن هنا بدت مظاهر الإسلام قوية فياضة زاهرة دفاقة في كثير من جوانب الحياة المصرية ؛ فأسماؤها إسلامية، ولغتها عربية، وهذه المساجد العظيمة، يذكر فيها اسم الله، ويعلو منها نداء الحق صباحَ مساء، وهذه مشاعر لا تهتز لشيء اهتزازها للإسلام، وما يتصل بالإسلام “.
والمعرفة قائمة بيننا وبين الشوائب التي وفدت إلينا من الحضارة الغربية، تلك الحضارة التي غزتنا غزوًا قويًا.. فانحسر ظل الإسلامية عن الحياة المصرية في كثير من شئونها الهامة، واندفعنا نغير أوضاعنا الحيوية، ونصبغ معظمها بالصبغة الأوروبية، وحصرنا سلطان الإسلام في حياتنا علي القلوب والمحاريب، وفصلنا عن شئون الحياة العملية، وباعدنا بينه وبينها مباعدة شديدة ؛ وبهذا أصبحنا نحيا حياة ثنائية متذبذبة أو متناقضة.. “.
فالمعركة معركة تنقية المجتمعات الإسلامية من الدخيل، الذي أقام فيها الثنائية والتذبذب بين روح الإسلام وبين الروح الإلحادية ؛ روح اللذة والشهوة، الذي تميزت به الحضارة الغربية.. وليست معركة الإسلام مع مجتمعات ارتدت عن الإسلام ونوره إلي جاهلية جديدة، هي أشد ظلامًا من الجاهلية الأولي.. كما زعم ويزعم الغلاة الذين انحرفوا عن منهاج الإسلام الذي تبناه الأستاذ البنا.
11 – في العدل الاجتماعي فقه الواقع.. وبرنامج الإصلاح:
وفي مواجهة المظالم الاجتماعية التي تطحن سواد الأمة – من قِبَل النهب الاستعماري، ومن قبل الاستغلال الطبقي المحلي – قدم الأستاذ البنا صفحة من أروع صفحات العدالة الاجتماعية مطبقة علي واقعنا المعاصر والمعيش..
فانطلاقًا من فلسفة الاستخلاف الإلهي للإنسان في الثروات والأموال، البريئة من غلو الرأسمالية المتوحشة.. وغلو الشيوعية المصادمة لفطرة الإنسان.. تحدث الأستاذ البنا عن الواقع الاجتماعي البائس للشعب وسواد الأمة.. وقدَّم الحلول المدروسة والناجعة لهذا الداء الاجتماعي، الذي يشل طاقات البناء والانتماء لدي الملايين.
لقد جعل النهب الاستعماري لثروات بلادنا الفنان الشعبي سيد درويس (1309 – 1342هـ / 1892 – 1923م) يغني فيقول: يا مصر خيرك فـ “ إيد غيرك “ طلع برَّه
وجاء الإمام حسن البنا لينبه علي دور هذا النهب الاستعماري لخيرات البلاد في “ انتشار “ الجماعة.. وفي دعوتها لإقامة العدل الاجتماعي بين الناس.. فقال:
“ إن الدعوة نشأت بالإسماعيلية.. يغذيها وينميها ما نري كل صباح ومساء من مظاهر الاحتلال الأجنبي والاستئثار الأوروبي بخير هذا البلد. فهذه قناة السويس علة الداء، وأصل البلاء.
وفي الغرب: المعسكر الإنجليزي بأدوائه ومعداته. وفي الشرق: المكتب العام لإدارة شركة القناة بأثاثه ورياشه ومرتباته.
والمصري غريب بين كل هذه الأجواء في بلده محروم، وغيره ينعم بخير وطنه ؛ ذليل، والأجنبي يعتز بما يغتصبه من موارد رزقه. كان هذا الشعور غذاءً ومددًا لدعوة الإخوان ؛ فبسطت رواقها في منطقة القناة، ثم تخطتها.. إن المرافق العامة وكل المنافع الهامة في جميع أنحاء البلاد، ودولاب التجارة والصناعة، والمنشآت الاقتصادية كلها في أيدي الأجانب المرابين.. تسيطر عليها أكثر من 320 شركة أجنبية. والثروة العقارية تنتقل بسرعة البرق من أيدي الوطنيين إلي أيدي هؤلاء الأجانب ؛ فالبلد ليس فقيرًا، ولكن النهب الاقتصادي الأجنبي جعل “ الأجانب الذين احتلوه أسعد حالاً من أهله وبنيه “،
وهذا الغني الذي يحققه الأجانب من نهب وثروات مصر المسلمة، يقابله فقر مدقع يطحن المواطنين المصريين.
“ فأكثر من 60% من المصريين يعيشون أقل من معيشة الحيوان، ولا يحصلون علي القوت إلا بشق النفس.. والبلاد مهددة بمجاعة قاتلة، ومعرضة لكثير من المشكلات الاقتصادية.. وهي من أكثر بلاد العالم المتمدن أمراضًا وأوبئة وعاهات.. وأكثر من 90% من الشعب المصري مهدد بضعف البنية، وفقد الحواس، ومختلف العلل والأمراض.. وهي – [مصر] – لازالت جاهلة لم يصل عدد المتعلمين فيها إلي الخمس.. والجرائم تتضاعف، حتى إن السجون لتخرج أكثر مما تخرج المدارس !.. ومصر هذه لم تستطع إلي الآن أن تجهز فرقة واحدة في الجيش كاملة المعدات !. وكذلك حال كل بلد من بلدان العالم الإسلامي.. “.
وبعد فقه هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي، الذي تألق فيه الأستاذ البنا كإمام في فقه الواقع، كما هو حاله في فقه الأحكام.. أخذ في تنزيل الأحكام الإسلامية علي هذا الواقع المعاصر والمعيش ؛ فدعا إلي:
أ – “ نظام اقتصادي استقلالي للثروة والمال والدولة والأفراد، أساسه قول الله تعالي: ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ).. النساء 5.
ب – واستقلال نقدنا عن فلك الاستعمار.
جـ- “ وتمصير الشركات، وإحلال رؤوس الأموال الوطنية محل رؤوس الأموال الأجنبية كلما أمكن ذلك “.
د – “ وتخليص المرافق العامة – وهي أهم شيء للأمة – من يد غير أبنائها، فلا يصح بحال أن تكون هذه المرافق بيد شركات أجنبية، تبلغ رؤوس أموالها، وأرباحها الملايين من الجنيهات، ولا يصيب الجمهور الوطني ولا العامل الوطني منها إلا البؤس والشقاء والحرمان“.
هـ - “ والعناية بالمشروعات الوطنية الكبرى، المهملة، التي طال عليها الأمد !.. ويجب التحول إلي الصناعة فورًا.. فهذا التحول هو روح الإسلام !..
مع تشجيع الصناعات اليدوية المنزلية.. وإرشاد الشعب إلي التقليل من الكماليات، والاكتفاء بالضروريات، وأن يكون الكبار في ذلك قدوة للصغار “.
و – ويجب تكامل التنمية بين بلاد الإسلام ؛ ذلك “ أن الرابطة بيننا وبين أمم العروبة والإسلام.. تمهد لنا سبيل الاكتفاء الغربي في التصدير والاستيراد وما إليهما.. “
“ فالجهاد الاقتصادي يجب أن يتوجه إلي خدمة الثروة الإسلامية، بتشجيع المصنوعات والمنشآت الاقتصادية الإسلامية.. والقرش الإسلامي يجب أن لا يقع في يد غير إسلامية مهما كانت الأحوال، فلا نلبس ولا نأكل إلا ما صنع في وطننا الإسلامي “.
ز – كذلك يجب إصلاح الخلل المتمثل “ في التفاوت العظيم، والبون الشاسع، والفرق العظيم بين الطبقات المختلفة في هذا الشعب “، والذي أدي إلي وجود “ ثراء فاحش وفقر مدقع، والطبقة المتوسطة تكاد تكون معدومة.. وذلك بتقريب الشقة بين مختلف الطبقات، تقريبًا يقضي علي الثراء الفاحش، والفقر المدقع “.
حـ - “ ومحاربة الربا، وجمع الزكاة.. وفرض ضرائب اجتماعية علي النظام التصاعدي – بحسب المال لا بحسب الربح – يعفي منها الفقراء طبعًا وتجني من الأغنياء الموسرين، وتنفق في رفع مستوي المعيشة بكل الوسائل المستطاعة والتوسط بين الأغنياء الغافلين والفقراء المعوزين، بتنظيم الإحسان وجمع الصدقات ؛ لتوزع في المواسم والأعياد.
ط – وإصلاح الخلل المتمثل في التفاوت الفاحش بين الملكيات الزراعية في الريف ؛ ذلك أن “ روح الإسلام الحنيف، وقواعده الأساسية في الاقتصاد القومي – توجب علينا أن نعيد النظر في الملكيات في مصر، فنختصر الملكيات الكبيرة، ونعوض أصحابها عن حقهم بما هوأجدى عليهم وعلي المجتمع، وتشجع الملكيات الصغيرة.. وأن نوزع أملاك الحكومة علي هؤلاء الصغار ؛ حتى يشعر الفقراء المعدمون بأنه قد أصبح في هذا الوطن ما يعنيهم أمره ويهمهم شأنه “.
هكذا كان فقه الواقع الاقتصادي والاجتماعي.. وفقه الأحكام الإسلامية في الثروات والأموال.. وتنزيل الأحكام علي الواقع.. كما تجلي في المشروع الحضاري للإمام الشهيد حسن البنا – ابن كلية دار العلوم – الذي تفوق في هذا الميدان علي كل الأحزاب والجماعات والجمعيات التي عاصرته، وسبق كل علماء الاجتماع، بل وحتى تيارات الشيوعية والاشتراكية، في معالجة معضلات الفقر والتنمية والثروات والأموال.. ومآسي النهب والاستغلال سواء منه الاستعماري الأجنبي، أو الذي يمارسه “ المستغلون الوطنيون “ !.
12 – سنة التدرج في الإصلاح:
ولأن الإسلام دين الوسطية ؛ فلقد اعتمد سنة التدرج في الإصلاح، وهذا التدرج هو وسط بين “ الجمود والثبات “ و بين “ الطفرة والانقلاب “ !
وهذه السنة في التدرج هي سنة عامة في كل عوالم الخلق، وفي سائر ميادين الاجتماع، وكذلك في عوالم الأفكار.
لقد نزلت الشرائع بالتدريج.. ونزلت أحكامها علي الواقع بالتدريج، وتكونت الثقافات – التي مثلت عمران النفوس الإنسانية – بالتدريج، وقامت المدنيات – التي مثلت عمران الواقع المادي – أي أن كل ألوان الإصلاح قد حدثت، وتحدث بالتدريج، وكذلك الحال في التراجع والتخلف عن معالم الإصلاح ومنظومات قيمه وتشريعاته، حدث، ويحدث – هو الآخر – بالتدريج..
والناظر في منهاج النبوة وتطبيقاته، وفي التراجع النسبي الذي تم بعد عصر الراشدين عن جوانب من هذا المنهاج – وخاصة في الشورى والعدل الاجتماعي من قِبَل الدولة – ثم في مشاريع الإصلاح والتجديد التي بدأت – علي مستوي الدولة – بالراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (61 – 101هـ / 681 – 720م)،
الناظر في كل ذلك يجد المنهاج الإسلامي، الذي يؤكد وينحاز إلي سنة التدرج في الإصلاح واضحًا كل الوضوح.
وانطلاقًا من هذه السنة – الكونية، والاجتماعية – الحاكمة للإصلاح الحقيقي – وليس الهبات العفوية، والانقلابات العنيفة – واجه الأستاذ البنا “ المتعجلين “، الذين يريدون الوصول السريع إلي “ المقاصد “ دون المرور “ بدرجات السلم “ الموصلة إلي هذه “ المقاصد “..
ونبَّه علي خطورة التطلع إلي تحقيق “ الغايات “، دون التأسيس لمقومات هذه الغايات.. وسلوك طريق “ المراحل “ التي تفضي إلي هذه الغايات.
ذلك أن المنهاج الإسلامي في الإصلاح ليس منهاج القفز المباشر علي “ الدولة “، وإنما هو منهاج التربية “ للأمة “ أولاً ؛ لتأتي “ الدولة “ بعد ذلك ثمرة ناضجة نضوجًا طبيعيًّا، ولتجد هذه “ الدولة “ “ أمة “ مهيأة ومتقبلة للمنهاج الإصلاحي لهذه الدولة الجديدة..
فضلاً عن رجالات هذه الدولة الجديدة وإطارات مؤسساتها. فإصلاح الأصول أولا، وإعادة صياغة الإنسان هي نقطة البدء، وتكوين الجيل “ الواعي “، و “ القادر “ علي حمل الرسالة الإصلاحية، هو المهمة الأولي لأي رائد من رواد الإصلاح الحقيقي في منهاج الإسلام.. وما تجربة النبوة، وصناعة “ الجيل الفريد “ في المرحلة المكية، لتأتي بعد ذلك “ الدولة، و “ القانون “ و “ المؤسسات “ و “ الفتوحات “ و “ السياسات “ – داخلية وخارجية – إلا الشهادة الصادقة علي أن هذا هو منهاج الإسلام في الإصلاح.
وفي حالة الأستاذ البنا ودعوته وحركته، فإننا نلمح وعيه بهذه الحقيقة، حتى وهو لا يزال في مرحلة التفكير بمشروعه الإصلاحي – قبل تكوين الجماعة (سنة 1928م) ؛ فهو يتحدث عن الزلازل التي أصابت الإسلام وأمنه ودولته، ويقول: “ إنها ألهبت نفسي، وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلي وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس “ فبالجد والعمل نقطع مراحل:
1 – التنبيه.
2 – والتكوين.
3 – والتدريس.
4 – والتأسيس !!.
نعم ؛ كان الرجل واعيًا بحقيقة سنة التدرج والمرحلية في هذا المشروع الإصلاحي..
وانطلاقاً من هذا الوعي ؛ تحدث إلي “ المتعجلين “ الذين يريدون “ حرق المراحل “ ! ... فقال:
“ أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم: اسمعوها مني كلمة داوية..
إن طريقكم هذا مرسومة خطواته، موضوعة حدوده، ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول. أجل !
قد تكون طريقًا طويلة، ولكن ليس هناك غيرها، إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة، والجد والعمل الدائب فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها، أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات، ومن صبر معي حتى تنمو هذه البذرة، وثبتت الشجرة، وتصلح الثمرة، ويحين القطاف، فأجره في ذلك علي الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين:
إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة.
ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول.. ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحوَّلوها تيارها، واستعينوا ببعضها علي بعض، وترقبوا ساعة النصر، وما هو منكم ببعيد !
أريد أن أكون صريحًا معكم للغاية ؛ فلم تعد تنفعنا إلا المصارحة..
أعدوا أنفسكم..
وفي الوقت الذي يكون فيه منكم ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كلَّ منها نفسها، روحيًّا بالإيمان والعقيدة، وفكريًّا بالعلم والثقافة، وجسميًّا بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لُجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزوا بكم كل جبار عنيد، فإني فاعل إن شاء الله “ !.
13 – القوة.. والثورة:
وانطلاقَا من هذا المنهج في التدرج بالإصلاح، ورفض القفز علي المراحل، وخرق تسلسلها..
عرض الأستاذ البنا للموقف من“الثورة“..
فتحدث عن أن الإسلام إنما جاء ثورة كبرى بكل ما تحمل هذه الكلمة من مضامين، وفي كل ميادين الإصلاح والتغيير.. فهو الذي نقل وينقل الناس والمجتمعات من الجاهلية إلي الإيمان.. ومن الظلمات إلي النور..
وهو الذي يحيي موات النفوس والمجتمعات بما يحدثه فيها ولها من تغيير جذري وعميق وشامل في كل الميادين..
وعن هذه الحقيقة قال الأستاذ البنا:
“ إن الإسلام ثورة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني، يزلزل الأوضاع الفاسدة، ويحطم صروح البغي والعدوان الشامخة، ويحدد معالم الحياة وأوضاعها، ويقيمها علي أثبت الدعائم. إنه ثورة علي الجهل.. وثورة علي الظلم بكل معانيه:
ظلم الحاكم للمحكوم، وظلم الغني للفقير، وظلم القوي للضعيف. وثورة علي الضعف بكل مظاهره، ونواحيه: ضعف النفوس بالشح والإثم، وضعف الرؤوس بالغباء والعقم، وضعف الأبدان بالشهوات والسقم “.
لكن الأستاذ البنا ينبه علي أن [الجماعة] ليس في نيتها استخدام “ العنف الثوري “ الذي تخشاع الحكومات؛ لأن منهج الجماعة هو الإصلاح بالإسلام، وفق منهاج التدرج، وعبر الإعداد المرحلي.. اللَّهم إلا إذا فرض الآخرون علي [الجماعة] هذا العنف الثوري، باستخدامه ضدها، وعندئذٍ تكون مكرهة علي رد العدوان بمثله !
وفي صياغة هذه “ المعادلة الصعبة “، ميز بين “ إعداد القوة “ – التي هي طريق الإصلاح والتغيير – وبين “ الثورة “ – التي هي “ أعنف مظاهر القوة “ – والتي لن يلجأ إليها [الإخوان] ابتداءً، ولن يسلكوا سبيلها إلا إذا فُرض عليهم، كما يُفْرَض القتال علي المؤمنين – وهم له كارهون - !.
وفي تحديد هذا المسار – الدقيق، والشائك – قال الأستاذ البنا:
“ يتساءل كثيرٌ من الناس هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم، والوصول إلي غايتهم ؟
وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة علي النظام السياسي، أو النظام الاجتماعي في مصر ؟..
أما القوة، فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته !..
فالإخوان لابد أن يكونوا أقوياء، ولابد أن يعملوا في قوة..
وأول درجة من درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان،
ويلي ذلك: قوة الوحدة والارتباط،
ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح.
والثورة أعنف مظاهر القوة.
إن الإخوان سيستخدمون القوة العملية؛ حيث لا يجدي غيرها، وحيث أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة.
أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها.. وإن كانوا يصارحون.. بأن الحال إذا دامت علي هذا المنوال – فسيؤدي حتمًا إلي ثورة.. إني أري الوميض خلال الرماد، ويوشك أن يكون له ضرام.
أيها الإخوان: إن قيل لكم: أنتم دعاة ثورة،
فقولوا: نحن دعاة حق وسلام نعتقده ونعتز به، فإن ثرتم علينا،، ووقفتم في طريق دعوتنا ؛ فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا، وكنتم الثائرين الظالمين “ !.
هكذا حدد الرجل أن التدرج في الإصلاح..
والمرحلية هي سبيل الإصلاح والتغيير..
وأن القوة هي السبيل لقطع هذه المراحل، والوصول إلي المقاصد والغايات:
الإصلاح بالإسلام.
وتحرير الوطن الإسلامي.
وإقامة الدولة الإسلامية.
وإعادة الأمة كلها إلي كامل شريعة الإسلام.
وهكذا تألق التجديد الإسلامي في هذا المشروع الحضاري لهذا المجدد العظيم، الإمام الشهيد: الشيخ حسن البنا.. الرجل الملهم والمبارك والرباني.
والذي لا نغالي إذا قلنا: إنه – ودعوته وجماعته – قد مثلوا أبرز معالم التجديد – علي مستوي جمهور الأمة – في القرن الرابع عشر الهجري – العشرين الميلادي.
والذي بارك الله في “ البذرة “ التي بذرها كما لم يبارك في بذرة أخري – علي كثرة “ البذور “ التي بذرت في ذلك التاريخ – حتى وصلت آثارها إلي كل قارات الأرض، وجميع مدن هذا العالم الذي نعيش فيه.
وإذا كانت سطور هذه الصفحات قد قدمت إشارات إلي بعض معالم هذا المشروع الحضاري، الذي صاغه هذا الإمام الشهيد ؛ فإن هناك حقائق كثيرة يمكن الإشارة إليها في هذا الختام ؛ ومنها:
أن الدراسة الوافية لهذا المشروع الإصلاحي لن تتأتي إلا بعد الجمع والتحقيق والدراسة والنشر للأعمال الفكرية الكاملة للأستاذ البنا.. وتبويبها تبويبًا موضوعيًا وتاريخيًا.
وأن الناظر في معالم مشروعه الحضاري يتمني أن ترتفع الصحوة الإسلامية إلي الآفاق التي حلق فيها هذا الإمام العظيم !.
رحمه الله رحمة واسعة.. وبارك في العطاء الذي قدمه، وفي الجهاد الذي جاهده..
وسدد الخطا علي هذا الدرب ؛ لتجديد دنيا المسلمين بتجديد دين الإسلام.
وسوم: العدد 661