القناع السياسي والاستبداد.. وجهان لعملة واحدة
د
. حمزة رستناوي*الأصل في الحياة الشفافية و المعرفة , و ليس التستّر و التخفّي.
*قال تعالى في سورة الاسراء " ولقد كرمنا بني آدم " و يتجلّى هذا التكريم في تَفَرُّدِ كل واحد منا بِشكل جسمهِ و ملامح وجه ..و يتجلّى كذلك أن لكل واحد منّا اسما صريحا يَعْرِفنا الناس به , و نتعرّف به عليهم.
*كل انسان يخفي شخصيّته و يتستّر خلف قناع أو أسم مستعار – سواء كان رجلا أو امرأة - هو على المستوى اللاشعورية يشكو من عقدة نقص , و على المستوى الشعوري يحسّ في قراره نفسه بالخطأ و الإثم .. لو أنكر ذلك...إنّه يقوم بفعل مريب , و يخشى أن يتعرّف عليه الناس.
فالإنسان الذي يقوم بفعل الخيرات لا يتستّر...و الانسان الذي يقوم بواجبه تجاه مجتمعه و وبلده لا يتستر..بل يفتخر بذلك
التستّر دليل خوف..و لو أنكر صاحبه ذلك , المقنّع جبان يتستّر على هويّته ..ليرهب الناس , يلغي وجودهم , يحوّلهم الى كائن هلامي مجهول مثله.
المُقنّع كائن بلا ملامح..بلا تفرّد ..بلا شخصية..هو أداة بيد زعيم العصابة أو القائد أو الأمير ..الخ يلغي وجوده لصالح المال أو السلطة أو لصالح مذهبٍ و عقيدة يظنُّ صوابها.
*سأثبت مثالا من صلب مهنتي ..فقوانين العمل في البلاد المتقدمة و في المشفى الذي اعمل فيه , تُلزم الاطباء و العاملين بتعليق لوحة اسمية على صدرهم فيها اسم الطبيب و مسمّاه الوظيفيِّ أي اختصاصه... لا بل و أكثر من ذلك , فكطبيب و قبل معاينتك للمريض عليك تقديم نفسك له, ليعرف المريض اسم طبيبه و مع من يتعامل , و تعتبر هذا من حقوق المريض على الطبيب .
و في الكثير من بلدان العالم المتقدّم.... عندما يقوم الشرطي باعتقال شخص أو تفتيش بيته تُلزمه القوانين النافذة بالتعريف عن نفسه و عن الجهة التي يعمل لديها , و تلزمه بعرض الأمر القضائي بإذن التفتيش أو أمر الاعتقال على الشخص...الخ.
*إن الشفافية التي تتحلى بها العلاقات بين الافراد , أو بين الجهات الحكومية و الافراد , هي احدى معايير التفوق الحضاري و الأخلاقي للأمم ..و تعكس احتراما لحقوق الانسان و تقديرا لكرامته.
*قبل أن أتطرق الى الوضع السوري الراهن سأعرض لقصة طريفة في التراث العربي الاسلامي ذات صلة.
في أواخر حكم الأمويين و ضعف دولتهم ..كان أعدائهم السياسيين من العلويين (نسبة للإمام علي ) و العباسيين (نسبة للعباس بن عبد المطلب) يسعون بين الناس في بيعة أمير متخفّي مجهول الاسم ..و كانوا يطلقون عليه (أمير من آل محمد)..و قد بايع الآلاف من الناس هذا الامير..و قتلوا في المعارك دفاعا عنه..و قد استفاد العباسيين من ذلك لاحقا للإطاحة بالعلويين ...طالما أن الأمير مجهول للناس و العامة...ماذا لو أعاد الله تعالى الحياة لهؤلاء القتلى و هم بالآلاف ..و عرفوا أنهم كانوا يبايعون وهما ..و لم يكونوا أكثر من مطية لاستبدال ملك عضود مكان ملك عضود .
*من عادة النظام الاسدي ان يعتقل المعارضين له في ساعات الليل المتأخر , ليرهب الشخص و عائلته و أبناء حارته..يأخذونه بطريقة مُهينة ...لا يعرفون عن انفسهم هل هم امن عسكري سياسي ام شبيحة..الخ و في المعتقل يلغون وجودك الانساني يطلقون عليكَ رقم يصبح بمثابة الاسم .
و كذلك من عادة الشبيحة تشويه ملامح وجه الضحية لكي يصبح مجهولا عبر الحرق و التمثيل..ربما لزيادة الالم لدى أهله .. و تلك بعض عاداته الذميمة.
*مع اندلاع الثورة السورية , و تحرير مناطق عديدة من السلطة الاسدية انتشرت ظاهرة المليشيات المسلحة المتسلّقة على ظهر الشعب السوري و الثورة السورية .. و انتشرت معها ظاهرة المسلحين المقنّعين...كثير من النشطاء المدنيين و العسكريين قام باختطافهم مقنّعين من بيوتهم أو من الشارع أو الحواجز .
ميليشيات لا نعرف منها سوى الاسم , و بضع شعارات للتسويق و الدعاية ..الكثير من الناشطين و السوريين يختطفهم مجهولون ينتمون الى جهة مجهولة ..يحتجزونهم في مكان مجهول ..و مصيرهم مجهول كذلك.
أيها المقنّع من أنت؟
و الى أي جهة تنتمي؟
و لماذا تعتقلتني ؟
كلها أسئلة بديهية..تناسيناها بحكم العادة و ألفة المرض..أسئلة من حق كل انسان أن يسألها للمسلحين المقنّعين و غير المقنّعين
المسلّح الذي يدافع عن السوريين و يحميهم و يقاتل عدوهم , من حقهم أن يعرفوا من هو ؟ و الى أي جهة ينتمي و ما هي مرجعيّته ؟!
كيف نميز بين مسلحي النظام و مسلّحي الثورة ؟!
كيف لنا أن نعرف الجهة التي اعتقلت او قتلت او اختطفت او سرقت او اغتصبت..الخ ؟
هذا حق للناس , و حق من حقوق الله على كل انسان يحمل السلاح , و خاصة ألئك الذين يقاتلون تحت شعارات دينية
*الحرب خدعة , و لكن في التعامل مع المجتمع المحلي و اهل البلد لا مجال للخدعة؟
*كمثال قريب يحضرني الآن : أحد الأصدقاء خلف الجربوع ناشط من الرقة جرى اختطافه من الشارع كان يُظَنْ بأنه معتقل لدى داعش و لكن عقب الافراج عنه تبين أنه معتقل عند حركة أحرار الشام ؟!
المرجعية الاسلامية للحركتين : تلزمهما بالشفافية , لماذا جرى اعتقاله ؟ و من اعتقله ؟ و من هي الجهة التي اعتقلته ؟ و هل جرى احالته الى محكمة عادلة ؟ و ما هي معايير هذه المحاكمة ؟ و لماذا لا تكون المحاكمة علنية ؟ و هل جرى الحكم عليه ؟ .و ما لماذا يكون الاعتقال سابق للأمر القضائي..الخ
و هنا أعود الى الفكرة الاساسية التي طرحتها , ضرورة اعتماد معايير الشفافية و الوضوح , فقناع الوجه المادي الذي يرتديه مسلّحي المليشيات و القناع السياسي من جذر واحد : عقدة النقص ..و الشعور الضمني بارتكاب شيء معيب و آثم..يستدعي التستّر عليه.
*تفتخر الدول بارتقائها على مقياس الشفافية عالميا..و كذلك الأحزاب و كذلك الجمعيات و كذلك و الأفراد
مثال عملي : عندما يعقد مؤتمر للمعارضة السورية ..من المهم للمشاركين تبيان مصادر التمويل للمؤتمر و هذا ليس عيبا....خاصة أن الكثير من السوريين يعانون من وطأة واقع مادي بائس و هم يرون المعارضين السياسيين على الموائد الفاخرة و في كواليس فنادق الخمس نجوم.
*كيف أبايع شخصا لا أعرف اسمه الحقيقي ؟ لماذا لا يكون عميل مخابراتي مثلا؟
كيف أتَّبع انسانا لا أعرف ملامح وجهه ؟ قد يكون وهما ؟ أي غير موجود أصلا؟
ما دام أبو بكر البغدادي غير معروف الوجه و الاسم عدا تخمينات ما الذي يمنع انه قتل منذ شهرين أو يومين مثلا ؟! و ان شخصا آخر يتقمص شخصيته..الخ
كيف أقاتل و قد أموت تحت راية لجماعات لا أعرف قياداتها ؟
كيف أقاتل أو ابايع شخص او جماعة لا يحق لي ابداء رأيي في سلوكهم ..و غالبا ما يستغلون قضية الطاعة بطريقة ترسخ لدكتاتورية جديدة.
لماذا يسترخص أبنائنا أنفسهم و يُقتلون في سبيل المجهول ؟! يقولون في سبيل الله و لإقامة دولة شرع الله ؟!
كيف لمجهول و مجاهيل مطاردين في كل أصقاع الأرض مخترقين من قبل كل مخابرات أهل الأرض ان يقيموا شرع الله ؟! و هل اصطفى الله جماعة دون غيرها و أوكلها بإقامة شرعه ؟!
أهو شرع الله أم هو فهمهم هم دون غيرهم لشرع الله ؟! و هل شرع الله غير اقامة دولة العدل و احترام حقوق و كرامة الانسان ؟!
*الحديث الذي يقف في سلسلته عند مجهول يُطعن فيه فكيف بهؤلاء يزعمون انهم الوكلاء الحصيريين لشرع الله و هم مجاهيل أو من في حكمهم
فشلوا في اقناع الناس و كسب قلوبهم ...فاستعاضوا عن ذلك بالإكراه و قوة السلاح..فشلوا في كسب قلوب الناس و احترامهم ..فسعوا للانتقام منهم و استعبادهم..على سيرة الأسدين.
*إنّ التقنع و التخفّي هو عرف و ممارسة شائعة في التاريخ المعاصر لجماعات الاسلام السياسي , هذه الجماعات خاصة المسلحة منها التي أثبتت فشلها
الاخوان المسلمون كانوا يبايعون على القران و المسدس في غرفة مظلمة ؟
الجولاني لا احد يعرف وجهه و لا حتى المخابرات الأمريكية , و أمير المؤمنين المزعوم البغدادي و أمراء داعش المحليين كذلك لا نعرف عنهم سوى هذا أبو فلان المصري و ذلك ابو فلان الشيشاني و ذلك البلجيكي...و زعماء العشائر الذين بايعوا داعش ..لا يعرفون هم أنفسهم هوّيته الحقيقية ...و هلم جرة.
*يستخدم أعضاء تنظيم القاعدة على نطاق واسع النقاب و تقمص شخصية المرأة لإخفاء هوية عناصره و تهريب المتفجرات , ففي بعض البلاد العربية يستخدم الشباب في مغامراتهم النسائية النقاب للتخفي ..و تستخدمه الفتاة كذلك لإخفاء هويتها في بعض المواضع المشبوهة..و القاسم المشترك هو الشُبهة و الاخفاء.