إيران وخلافات الزعامة، وثنائية الموقف في العلاقات مع دول الخليج العربي
عندما بدأت عاصفة الحزم بتحالف عربي وبقيادة المملكة العربية السعودية، خرجت أول إشارة عربية من أن مركز استقطاب عربي نشأ بعد أن وصل العرب إلى قناعة مؤكدة من أن لا أحد إطلاقا على استعداد ليخوض معركة الدفاع عن غيره وخاصة عن العرب إن لم يحسنوا الدفاع عن أنفسهم، وأن التعهدات الأمريكية كانت في واقعها رسائل تخدير للعرب ومنعهم من مباشرة دورهم في رسم مسار أمنهم القومي، الذي في حقيقته يتصادم في أكثر من بؤرة وأكثر من ساحة إقليمية، من أوضحها وأكثرها إثارة للجدل ساحة الصراع العربي الإسرائيلي لأن الولايات المتحدة خصوصا والغرب عموما يريان في الأمن الإسرائيلي باعتباره جزء من أمنهما.
ولوقت طويل أوشكت التزامات الولايات المتحدة عن ضمان أمن دول مجلس التعاون الخليجي بوجه ما تخطط له إيران للهيمنة على منطقة الخليج العربي بعد أن أحكمت سيطرتها على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية في العراق بتنسيق كامل مع الحكومة الأمريكية، أوشكت هذه الالتزامات أن تعطل أي جهد عربي ذاتي فاعل للاستعداد لمواجهة التطورات والمفاجآت، ولكن النصائح الأمريكية بخصوص التعامل مع الدور الإيراني المتزايد في لبنان وسوريا بعد العراق كانت تهدف إلى تعطيل العرب عن الاضطلاع بدورهم الحضاري في الدفاع عن وجودهم لاسيما بعد الدور التخريبي الذي مارسته واشنطن في تعطيل دور المعارضة السورية ومنعها من تحقيق النصر في ثورتها على نظام بشار.
لقد راح بصر إيران يذهب إلى منطقة الحلم الإيراني الحقيقي القديم المتجدد في السيطرة والهيمنة وهي منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية، عندها أخذ الدور الأمريكي منحى تخديريا بهدف تعطيل مدراك العرب عن أي رد فعل يدرأ الخطر المحدق ليس بنظامهم السياسي فقط وإنما بسيادة بلدانهم واستقلالها بل واستمرار في الوجود، وكأن واشنطن التي تريد التخاطب مع طرف واحد يملك رؤيا وإرادة واحدة وجدت في طهران ضالتها المنشودة بعد أن سئمت التعامل مع 22 دولة عربية لها مواقف أكثر من عددها، بل ربما وجدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن إيران القوية تشكل البديل القوي والأمثل عن المراهنة على حلفاء منقسمين على أنفسهم، خاصة أنها رأت أن التكتل العربي الذي يضم أكثر المجتمعات العربية تقاربا في التقاليد والعادات والمستوى الاقتصادي والمعاشي أي مجلس التعاون الخليجي، لا يخلو هو الآخر من أسباب للنزاع والتنافس على أكثر من رؤية.
وعبّر الرئيس الأمريكي أوباما في حديثه "الصريح أكثر مما ينبغي" لصحيفة أتلانتيك عن أن الموطن الحقيقي للإرهاب هو الجزيرة العربية وليس إيران، وإن دول منطقة الخليج العربي تريد من أمريكا خوض الحروب نيابة عنها.
لا بد أن تكون المملكة العربية السعودية بعد ارتقاء الملك سلمان العرش فيها، قد وصلت إلى معرفة دقيقة بحقيقة التفكير الأمريكي الآخذ بالنمو ويريد التنصل عن "أعباء" الالتزامات القديمة، وذلك عندما اتخذت قرارها الشجاع ببدء عاصفة الحزم لمواجهة التمدد الإيراني الذي أراد تطويق المملكة من جهاتها الأربع، وسط صمت أمريكي كناية عن تأييدٍ لانقلاب الحوثيين على الشرعية الوطنية في اليمن، وبقدر ما أنعشت عاصفة الحزم الآمال العربية بأن تتولى المملكة قيادة العمل العربي المشترك من خلال هذه الرافعة التاريخية التي أوقفت التداعي في الموقف العربي الذي وصل حدا لم يعد تحمل المزيد من الانكسارات فيه، وبقدر ما تركت عاصفة الحزم من تأثيرات إيجابية على العرب، فإنها أحدثت صدمة ومفاجأة في دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة التي بوغتت بها، ولكنها وفي أهم جوانبها أشعرت الأمريكيين بأن زمن استشارتهم في القرار العربي أو أخذ الموافقة الأمريكية عليه قد ولى إلى غير رجعة.
جاء القرار العربي المستقل الذي لم يعد يقبل بمنطق الوصاية عليه من أي طرف خارجي، ليبعث برسالة عملية لإيران بأن محاولاتها التمدد على الأراضي العربية في ظل تردد في الموقف والاكتفاء باستنكارات لا تقدم ولا تؤخر بل تغري بمزيد من الصلف الفارسي المعهود، ولهذا فقد كان من الطبيعي أن تبحث إيران عن مداخل لتجاوز المأزق الذي لم تكن لتتوقع وصولها إليه، ولهذا أعادت إنتاج مسرحية "نزاع القيادة" في البلاد.
لا شك أن هناك اختلافا وصراعا على من يقود إيران وهذا أمر يتناسب مع فكرة إقامة نظام الولاية المطلقة للزعيم الديني، ولكن هذا الصراع يدور في نطاق لا يمكن لأحد تجاوز خطوطه الحمر بسبب حصر مسؤولية القرارات العليا بالولي الفقيه استنادا إلى الدستور الإيراني المستند على نظرية اخترعها الخميني وفرضها على المذهب الجعفري الاثني عشري والتي تستمد معظم أصولها مما ساد أوربا في القرون الوسطى وفق نظرية "التفويض الإلهي"، ولكن الحقيقة الأوضح هي أن ما يجري في إيران هو مجرد توزيع أدوار بين تيارين مختلفين من حيث الشكل متطابقين من حيث المضمون يعملان لمصلحة إيران، ولا يتعدى الاختلاف بينهما ما تشهده الولايات المتحدة من مهرجانات سياسية كل أربع سنوات لانتخابات الرئاسة إذ يتبادل المترشحون أقسى الاتهامات، ولكنهم بعد انتخاب الرئيس يتبادلون التهاني ويسلم الخاسر بفوز خصمه وتستعيد الحياة رتابتها.
لقد وجدت إيران في لعبة تبادل الأدوار بين مسؤوليها فرصة لتمرير كثير من أهدافها السياسية، إذ تعرض السلطة التنفيذية نفسها كقوة تتعامل مع دول العالم الأخرى بموجب قواعد القانون الدولي، وتمد يدها لمزيد من التنسيق والتعاون في مختلف المجالات مع دول تنظر لها سلطة الولي الفقيه على أنها دول معادية أو دول غير مستوفية لشروط الدول المستقلة، ولعل نظرة السلطة الإيرانية بكل تفرعاتها إلى موضوع البحرين ما يجسد هذه النظرة، ويعتبر دليلا على حقيقة الموقف الإيراني من هذه القضية المصيرية ليس بالنسبة للبحرين فقط وإنما للأمة العربية كلها، فما تطرحه رئاسة الجمهورية أو وزارة الخارجية لا يمكن النظر إليه كموقف رسمي لإيران، وإنما موقف للعلاقات العامة وامتصاص النقمة من الموقف الحقيقي لإيران والذي تجسده تصريحات علي خامنئي وبقية الزعامات الدينية التي يطلق عليها وصف "المتشددين" وهم الذين يعبّرون بأمانة عن الموقف الإيراني.
قال وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة إن إيران بعثت برسالة إلى دول مجلس التعاون الخليجي عن طريق أمير الكويت صباح الأحمد الجابر الصباح تعرض فيها فتح حوار مع دول المجلس وأردف الوزير البحريني أن المرشد الإيراني الأعلى نسف الحوار قبل أن يبدأ وذلك بمطالبته بإعادة البحرين إلى إيران.
لم يحدد حسن روحاني رئيس الجمهورية الإيرانية في عرضه بواسطة أمير الكويت مفردات الحوار المنشود مع دول الخليج العربي وعما إذا أراد للحوار أن يكون مع كل دولة على انفراد أم معها مجتمعة ككيان يجمعه مجلس التعاون الخليجي؟ ولم يحدد أهداف هذا الحوار؟ ولا السقف الزمني الذي رسمته إيران له.
ولكن من حقنا أن نسأل لماذا الحوار وما هي أهدافه؟
لقد اختصرت المملكة العربية السعودية الموقف العربي وقالت على لسان كثير من مسؤوليها، إن العلاقات مع إيران لن تعود إلى حالتها الطبيعية ما لم تتوقف إيران عن التدخل في الشؤون العربية وتنسحب من سوريا ولبنان والعراق واليمن.
إيران تريد للحوار أن يطول لزمن غير منظور كما حصل في مفاوضاتها مع مجموعة 5+1 بشأن برنامجها النووي، وتظن أن المماطلة والتسويف وممارسة لعبتها المفضلة في إضاعة الوقت بما لا طائل تحته، غير أن لإيران هدفين لا ثالث لهما من حيث الأهمية:
الأول أن تحشر نفسها في قضايا لا تخصها وتمنحها حق التدخل في الشأن العربي والخليجي خاصة عن طريق فرض نفسها كشريك في مناقشة القضايا الخليجية المحلية وأقلمتها أو تدويلها، من دون أن تسمح بملف إيراني واحد سواء كان هذا الملف يتصل بالتدخل الإيراني الساخن في لبنان وسوريا والعراق واليمن أو بالاضطهاد الذي يتعرض له عرب الأحواز أو مجموع السنّة في إيران.
فهل إيران بحث ملف الشيعة في دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة في المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية أو في البحرين؟ أو قرار مجلس التعاون الخليجي بضم حزب الله اللبناني على لائحة الإرهاب، أم هو حديث يتعلق بموضوع الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة في إطار المطالبات الإيرانية الوقحة بتدويل الإشراف عليهما؟
الثاني خطة إيرانية تهدف إلى إثارة الانقسام داخل مجلس التعاون الخليجي بين موافق على الحوار ومن هو متحفظ عليه ومن هو موقف بين موقفين؟ إيران لا تستطيع تحقيق هدف واحد من أهدافها في حال واجهت ردا صلبا من الطرف المستهدف بعدوانها، وفي ظل ظروف علاقات إقليمية ودولية متوازنة، فتطرح بين آونة وآخري أفكارا الهدف منها رمي الكرة في ملعب خصومها وإشغالهم في حوارات ربما تفضي في مرحلة من مراحلها إلى نشوب أزمات حقيقية ما كان لها أن تبرز لولا المقترحات الهدامة التي تطرحها الدبلوماسية الإيرانية وهي تعي جيدا أنها قادرة على التنصل من كل مخرجاتها تحت لافتة موقف الولي الفقيه الممسك بكل مفاتيح السلطة الفعلية في إيران.
إن إدخال المنطقة في دوامة المقترحات المليئة بألغام الفتنة ومحاولة إيران تصدير الأزمات السياسية التي تواجهها هي أو تواجهها المنطقة، سياسة درجت عليها الدبلوماسية الإيرانية منذ زمن بعيد وانتقلت بحذافيرها إلى دولة الولي الفقيه اعتقادا منها أن هذا الضرب من السياسة الخارجية جزء مما تحمله من شطارة وبراعة لا يجيدها الآخرون، ولا تريد الاعتراف أن الآخرين يأنفون عن هذه الأساليب التي يمكن تمريرها مرة واحدة مع كل طرف ولكن من غير المعقول أن يتكرر النجاح فيها إلى ما لا نهاية.
لا يظن أحد أن هذه الحقائق غائبة عن ذهن صانع القرار في المملكة العربية السعودية أو في أذهان قادة مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي فإن معرفتهم بأساليب إيران الماكرة ونواياها الشريرة ستكون جدارا شاهقا من الحصانة السياسية والمبدئية التي تحول دون السقوط في الحبائل الفارسية.
مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية