الولاء للطائفة ينقض الولاء لله عز وجل
من المسلمات التي جاء بها القرآن الكريم ،والتي لا ينكرها إلا جاحد أو مكابر ضرورة ولاء الناس جميعا على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وفي مختلف العصور لخالقهم جل في علاه الذي قال : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) فبموجب هذه الحقيقة القرآنية لا وجود لتفاضل بين بني البشر وأصلهم واحد ، والتكاثر الناتج عن هذا الأصل الواحد يقتضي التعارف بينهم ، ولا يحصل التفاضل بين المتكاثرين من أصل واحد إلا بقوى الله عز وجل ، وتقوى الله عز وجل يكون بالولاء له وحده . والبشرية عبر تاريخها الطويل غالبا ما ينحرف بها التكاثر عن حقيقة الأصل الواحد ، ويجعل ولاءها لغير خالقها جل في علاه . وكتب التاريخ البشري تضم أخبارا كثيرة عن الولاء للطوائف عبر العصور ، كما أن الكتب المنزلة من عند الله عز وجل ،وهي أصح من كتب التاريخ تؤكد ذلك أيضا . ولقد كان من المفروض بعدما ختم الله عز وجل الرسالات السماوية بآخر رسالة منزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن تزول كل أنواع الولاء الناتجة عن التكاثر ، ويبقى ولاء واحد هو الولاء لله عز وجل إلا أن الرسالة الخاتمة لم تفعل فعلها في الكثير من البشر الذين أنساهم التكاثر ولاءهم لخالقهم . ولئن وقع الولاء للطائفية من غير الذين لا يدينون بدين الإسلام ، فإنه لا مبرر لوقوعه من المسلمين . والمؤسف حقا أن المنتسبين لدين الإسلام هم أكثر الناس ولاء للطائفية التي تعددت بشكل يتعذر معه حصرها . ومعلوم أن الولاء للطائفية ينشأ من خلال الانسياق لأشخاص يوهمون الناس بأنهم يملكون القدرة على قيادتهم ، ويبررون هذه القدرة بمبررات مختلفة يزعمون في الغالب أنها تكتسب شرعيتها من الدين . وزعماء الطوائف يتوارثون الزعامة تاريخيا حيث يحاجج الخلف عن مشروعية زعامته بالاستعانة بمشروعية زعامات سالفة يدعي أنه صاحب الحق في وراثتها والحديث باسمها . ومن الطوائف المحسوبة على الإسلام طوائف تدعي مشايعة أصحاب الحق في الإمامة ،وهي عندهم وارثة النبوة ،وهي طوائف الشيعة المختلفة . ومن الطوائف أيضا طوائف أخرى تدعي وراثة النبوة عن طريق الولاية ،وهي طوائف صوفية أو طرقية . وما بين الطوائف ذات الولاء للإمامة والطوائف ذات الولاء للولاية، تأتي طوائف تدعي أنها وارثة النبوة عن طريق الخلافة ، و تدين بالولاء لها . وتوجد طوائف أخرى بين هؤلاء وأولئك تتنكر للولاء للإمامة والولاية والخلافة، وتصنع ولاءها الخاص بها، وتنسبه للدين أيضا . و ما يميز هذه الولاءات المختلفة للطائفية هو إقامة صرح وجودها على حساب وجود بعضها البعض ،حيث تدعي كل طائفة أنها الطائفة المحقة ،وبتعبيرالحديث النبوي أنها الفرقة الناجية من الفرق الهالكة ، وغيرها ضال مضل . ولا يشفع لهذه الطوائف عند بعضها أنها توحد الله عز وجل ،وتؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، بل يطعن بعضها البعض في فهم الرسالة الخاتمة ، ويزعم كل منها أنه هو من يملك سرها وأنه يصيب في تأويلها ، وأنها مستغلقة على فهم غيره ، وأن هذا الغير إنما يخبط خبط عشواء في التعامل معها . ويثق أصحاب الولاء للطائفية الثقة العمياء في صناعها الذين يزعمون الوصاية عليها ،ويتعاملون معهم وكأنهم على صلة مباشرة بالسماء ، ومن ثمة يضفون عليهم القداسة ، وينعتونهم بنعوت تميزهم عن غيرهم من خلق الله ،فهم آياته العظمى أو أقطابه الربانية إلى غير ذلك من نعوت التعظيم والتقديس .وتسود بين أصحاب الولاء للطائفية عقيدة التكفير والتأثيم والتجريم وهي المسؤولة عن شيوع التقتيل فيما بينهم، واستباحة الأرواح والأعراض والأموال والأوطان إلى درجة اعتبار هذه الاستباحة من صميم التدين بل من صميم التقرب من الخالق تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . فلو كان الولاء والتعصب للطائفية يقف عند حد إثبات الذات بالجدل فقط بين أهل الطوائف المختلفة لهان الأمر، ولكن المصيبة أن هذا الجدل الطائفي يتحول إلى صدام وعنف أعمى يأتي على الأخضر واليابس، ويهلك الحرث والنسل .وبالرغم من قوة أواصر القرابة بين الناس، وهو أمر فطري فيهم ،فإن الولاء للطائفية يقوض حتى هذه الأواصر الفطرية ، ويقطع الأرحام ،فيصير أبناء الرحم الواحدة أعداء يسفك بعضهم دم البعض ، ويزهق بعضهم روح البعض ، ويستبيح بعضهم أعراض وأموال بعضهم البعض إرضاء للنوازع الطائفية لأن الولاء للطائفية يصمهم ويعميهم . وتعرف اليوم الرقع الجغرافية التي يسودها الإسلام أو بعبارة أدق التي من المفروض أن يسودها ،وقد فتحها منذ الفتح الإسلامي صراعات ودموية طاحنة مردها الولاء الأعمى للطائفية . وكلما كان الولاء للطائفية أقوى والتعصب لها أشد، كانت درجة دموية أصحابها أشد وأقوى. ويتفنن الموالون للطائفية في تقتيل بعضهم البعض حتى بلغ الأمر حد ارتكاب فظائع شنيعة لم تعرف إلا في مراحل مظلمة من تاريخ البشرية . وأخف العداوات بين أصحاب الولاء للطائفية أن يجتمع بعضهم حول زعيم لهم سواء كان داعية أو عالما أو شيخا ... فيضفون عليه من القداسة والتنزيه ما يصرف عن أذهانهم أنه بشر يصيب ويخطىء ، فيصير كل ما ينطق به حقا لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ، ويستغل فيهم خضوعهم الكامل له، فيؤلبهم على من يخالفونه في طائفيته أو فيما يراه ويعتقده ،فيصير تأليبه لهم سير النار في الهشيم ،فيشتغل أتباعه تبعية القطعان بالنيل في كل مناسبة من مخالفيه تقربا منه ورغبة في رضاه . فكم من محسوب على العلم يلقن أتباعه تسفيه وتخطئة غيره من المحسوبين على العلم أيضا ،ويعلمهم السخرية منهم والاستهزاء بهم، فيصير هؤلاء الأتباع يرددون مقولاته ، ويعتبرون أنفسهم في مستوى مناظرة خصوم زعيمهم أو شيخهم و يصيرالصواب عندهم ما صوبه هذا الزعيم أو هذا الشيخ . ويدعي هؤلاء الزعماء والشيوخ الوصاية على الدين ، والتحدث الرسمي باسمه من خلال ما يصدر عنهم من آراء ومواقف ، والويل والثبور وعواقب الأمور لمن كفره أو أثمه أو جرمه هؤلاء الشيوخ والزعماء في عيون قطعانهم التابعة لهم تبعية عمياء . وخلاصة القول أن تعطيل الولاء لله عز وجل يتولد عنه الولاء للطوائف ، وهو ولاء لزعامات بشرية تستخف أتباعها ،فتجعلهم عبيدا لها لا يرون إلا ما ترى . ولا مخرج للأمة المحسوبة على دين الإسلام إلا بتحويل الولاء للطائفية إلى الولاء لله تعالى ، ولن يحصل هذا الولاء إلا بنهاية الزعامات البشرية المتاجرة أو المرتزقة بالدين .
وسوم: العدد 663