تكفير

الخضر سالم بن حليس

▪حكم يبحث عن التروي.

▪على ضواحي الجهل وفي أروقة شوارعه تنتشر ظاهرة (التكفير) وتتجلى، تصطاد المسلمين وتلقي بهم خارج مدينته، وتنفذ عمليات ترحيل قسرية لهم تطردهم خارج الإسلام وتذبحهم بسكين حار.

▪إشهار سيف التكفير بدون مقدمات، ظاهرة قتالية مرعبة.

▪من الذي منح هؤلاء صلاحية سلب الإسلام من آخرين وتجريدهم ثوبه، بلا ضابط ولا معيار حاكم. 

▪عملية خطرة يتولى كبرها أقوام لا يملكون الرصيد الكافي من أسرار الفقه ودقائق العقيدة فجعلوا مهمتهم الرئيسية الوقوف على بوابات الإسلام يدخلون إليها من يريدون ويخرجون من يريدون.

▪نحتاج ابتداء إلى تقديم الفاء (تفكير) على الكاف (تكفير)، فالفاء: (فهم) و(فحوى) و(فقه) وتقديم الكاف (كراهة) و (كرب) و (كآبة) وتحت هذا العصف الذهني يكون البحث.

▪حين تتردى الفتوى من على هذه المناطق يجب على حملتها التريث والوقوف مليا فإنهم على شاهق ومنحدر خطير والسرعة العالية فوق تلك المنحدرات يعرض للموت الشنيع. 

▪للأسف بعضهم يخلط شرع الله بحالته النفسية فيعبر عن حالته النفسية برداء شرعي وتظهر حالته النفسية بمثل هكذا فتاوى وأحكام.

▪ولو صدقوا مع أنفسهم وتورعوا لما استعجلوا بإطلاق رصاصات الكفر ورموها شرقا وغربا لكل من خالف رأيهم. بل ويدعون غيرهم لدعم مهامهم تلك، فيحشرونه في زاوية حادة إما أن تكفّر من نكفره وإلا فأنت عدو لله ورسوله.

▪تاه هؤلاء في طرقات وعرة وقاسية ويحسبون أنهم على شيء، حتى شروط تكفير المعين لم يلتفتوا إليها ويفحصوها بمجهر الورع والتأني المدرك لصعوبة تلك التهمة المرعبة على أهل الإسلام، وتقدموا غير آبهين بآثار هذه الجريمة.

▪وتحت مجهر الورع وفي ساحاته كانت تحركات الشيخ ابن تيمية فذهب يحذر من ممارسة تلك المهنة وقيادة زمامها بدون تفكير ولا رويّة فقال: "فلا يُشهد على مُعيّن من أهل القبلة بأنه من أهل النار، لجواز ألا يلحقه، لفوات شرط أو لثبوت مانع" مجموع الفتاوى 35/165.

▪"لفوات شرط أو لثبوت مانع" هذا هو العازل الصلب الذي منعه من تكفيره وأوقفه عند حدوده؛ فمن يقنع أولئك الصغار الواقفين على أبواب الإسلام يلتقطون أفراده بلا شرط ولا مانع ويطردونهم في الخارج، وكأن الطرقات أمامهم شاراتٌ خُضْر وليس ما يمنع الوقوف. 

▪وهاهم يتقدمون الجبهة ويقذفون أحجار التكفير بمجرد القول الظاهر دون التحقق من شرط أو مانع فلا عذروهم بالجهل ولا بالتأول ولا بغيره من تلك الشروط الدقيقة التي حجر بها الشرع المقدس على هؤلاء اللعب بتلك الكرة المليئة بالشوك، وأبعدهم عن مناطق الألغام شديدة الانفجار.

▪ولعل تلك الحواجز الإسمنتية الصلبة المتينة هي من جعل ابن أبي العز الحنفي يصرح بأنه لن يشهد على كفر معين وأن الشهادة على كفره حفرة سحيقة يُخشى من فتحها تلتهم أهل الإسلام وتلقيهم في قعرها. قال "وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار" وذهب يحتمل له المعاذير ويعلل "لأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله" [شرح العقيدة الطحاوية 357-358]. 

▪وتحت تلك المبررات ذهب ابن أبي العز يتأول ويسرد الاحتماليات، ويبتعد عن انتهاك تلك المحميات الشرعية ويضع على أبوابها لوحة مكتوب عليها "خطر ممنوع الاقتراب".

▪وراح يسرد لنا قصة ذلك الرجل الذي قال لزميله: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الجنة! فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار". 

▪ويقسم أبو هريرة على تلك الحادثة: والذي نفسي بيده، لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته "[رواه أبو داود كتاب الأدب باب في النهي عن البغي رقم 4901، وحسنه الألباني كما في شرح الطحاوية.]

▪هي عاقبة من يحلو له منح الناس تلك الألقاب ويرميهم بها على قوارع الطرقات هلكى.

▪لقد كانت رؤية الشيخ ابن تيمية ثاقبة فرأى أن ذلك المخالف معذور بجهله وتحت هذا العذر نفى عنه تلك التهمة الخطرة وأبعد نفسه عنها مئات الأقدام فحكى عن نفسه شخصياً فقال: " كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم" [الرد على البكري 46].

▪وكأنه لاحظ هذا المبرر من قول بني إسرائيل ﴿يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ {الأعراف/138} فقال لهم ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ ولم يقل: إنكم قوم تكفرون.

▪فهل ذهب أساتذة التكفير يومنا هذا مذهب ابن تيمية في سعة الاحتمال ورحابة التأويل والإعذار؟ لم يفعلوا ولن يفعلوا؛ فقد جنى عليهم السياج الفكري الضيق الذي وضعوا أنفسهم بداخله ووقفوا على تلك البقاع المطلة يرجمون الناس بشهب التكفير الشنيعة مغادرين تلال الاحتمال، وكان كبرياؤهم يأبى عليهم الرجوع والفحص الفقهي الثاقب.

▪إنهم بمجرد أن يسمعوا من شخص قولا منافيا للإسلام يبادرون إلى تصويب سهم الكفر عليه وعلى صفحات "فيس بوك" وتغريدات "تويتر" ورسائل "الوتس" تصدر الأحكام وتُصدّر كمياتها بالمجان. وتأتي ردودهم عليه أشد صلابة من عباراته ويقعون فيما منه يحذرون، وكل عناد يجر إلى أخيه. ولو أبصروا بنظارات العقل الواعي لأدركوا أن التكفير حكم قضائي يحتاج إلى أثبات وإثبات.

▪ليتهم تتلمذوا عند الشيخ ابن تيمية على هذه القضية واستمعوا نصائحه واكتسبوا أسلوبه في تعاطي تلك الأقوال وراحوا يسردون أنواع المبررات التي كان ابن تيمية يصدرها ويحتمل بها المعاذير. حين يقول"… وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها: قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان…) [مجموع الفتاوي 23/346].

▪وذهب فيلسوف الفقهاء ومنظّر الشافعية أبو حامد الغزالي مذهبا رحراحا فسيحا داعيا إلى الاحتراز من ذبح الناس على أبواب الإسلام وسحبهم ضحايا خارجه لإهدار دمائهم وتمزيق أشلائهم وأخذ أموالهم. قال "والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم. [الاقتصاد في الاعتقاد ص 157].

▪لقد كانوا يقرأون ما بين السطور وينظرون لتلك الآثار البعيدة التي تقف وراء تلك التهمة الجهنمية عندما تتجرد من شروطها وموانعها، تلك الأثار التي لم يقرأها بعض المعاصرين ولم يلفت إليها، كانتفاء ولايته العامة على المسلمين، وانتفاء ولايته على ذريته، وتحريم زوجته عليه، وسقوط إرثه، وعدم حل ذبيحته، وعدم جواز تغسيله، وعدم الصلاة عليه إذا مات، وأنه لا يدفن في مقابر المسلمين، وعدم جواز الاستغفار له، وسلسلة من الأحكام المختفية وراء تلك التهمة ما إن يتم إطلاقها حتى تظهر النتائج سافرة إلى السطح.

وسوم: العدد 664