الإنسان ، هذا المخلوق

إنه المفسد في الأرض الذي أحال " أرض السواد" إلى "حقل من اليورانيوم" ، يثمر أجيالا نصفها مشوه ، ونصفها الآخر يفتك به المرض العضال.

 إنه من أحال "سعادة اليمن" إلى بؤس وفاقة وشقاء ، و " لبنان الأخضر" إلى  حاوية قمامة نتنة .

إنه من يسفك الدماء و يمعن في القتل والإجرام ، في كل طرفة عين ، من سواد الليل أوبياض النهار.

هو باختصار الذي جعل من كوكبه مربطا موقوتا للأسلحة الفتاكة ، حتى إذا انطلقت من عقالها ، فإنها  لن تبقي و لن تذر.

إنه الظلوم الجهول الذي قبل أن يحمل الأمانة ، رغم  ثقلها ، حين أبت السموات والارض والجبال أن يحملنها ، وشهدن  مشفقات عبء الاختيار أمام هذا المخلوق...ترى أي "النجدين" سيختار ، الخير أم الشر ؟

" نجد" نثرت فوق سفوحه  ، الحبوب كي تقتات منه الطير ، بعد أن خلت البلاد من الجوعى  والمشردين والمحتاجين ، وباتت الرعية ترفل بحلل من السلام والأمان والوئام .

أم" نجد" بلغت ذروته عنان السماء من الأشلاء البشرية ، التي قضت جوعا وغرقا وقنصا وخنقا وتعذيبا وحرقا ؟

إنه ذات المخلوق "الإنسان"، الذي اختار أن يكون عمر بن عبد العزيز ، أو أن يكون بشار بن حافظ !...من يصدق؟

 ورغم وضوح الرؤية لكلا النجدين فقد آثرت معظم قوى الأرض أن تقف في صف بشار بن حافظ ، وأن تشاطره الجلوس على عرش الجماجم ، وتتبادل  معه الأنخاب وهو يحتسي دماء شعبه المباد، على مدى خمس سنوات ... أما  على النجد الأول ، فلم يقف سوى الطير، وذكريات أسلافها مع الخليفة العادل.

وبعد انقضاء الحروب العالمية التي أبادت نصف البشرية ، شعر الإنسان أنه ليطغى ، وأن كفة الشر رجحت حتى كاد الخير أن يتلاشى ، فرأى أنه عليه أن يعمل جاهدا لتحقيق التوازن بين النجدين .

وهكذا وكغاية لتحقيق التوازن بين كتلتي الشر المتعاظم ، والخير المندثر . بين قوى الفساد ، وقوى الإصلاح . أجمعت الأمم على أن تتحد في ما يسمى " الأمم المتحدة " ، لحماية حقوق هذا المخلوق "الإنسان" ، فأنشأت الصروح  ، وأنفقت الأموال ، وهرع كبار القوم ليتباحثوا ويتدارسوا طويلا ،  قبل أن يعلنوا " حالة القلق" أمام سفاح العصر ، يصدون بها براميله المتفجرة، وأسلحته المحرمة دوليا ، وأفانين التعذيب في أقبية معتقلاته.

و القرآن  يذكر أيضا أن أهل الخير قلة، وأن درب الصلاح والرشاد ، ندر من يطرقه . وهكذا ولتبديد وحشة السالكين في هذا الدرب ، اجتبى بعضا من خلقه ، لتعديل التوازن الضائع بين القوتين .

و القرآن قدم النبي إبراهيم على أنه" أمة" .

  والوزن القيادي لأبي الانبياء ودعوة -خاتم الأنبياء نبينا محمد ومن تبعه- لاقتفاء أثره يكمن في كونه

 "قانتا لله" ، لا للملوك، ولالأهل السلطة، ولا لأصحاب الأموال .

"حنيفا" ، لايميل إلى الباطل ، ولايتنكر للحق مستطيبا العيش الرغد ، ولا يؤثرالمال والتجارة وتنمية الأرصدة في البنوك ، على إعلاء كلمة الحق عند سلطان جائر .

"ولم يكن من المشركين "،وما أكثرهم في عالمنا هذا من المفتونين الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

شاكرا لأنعمه"، مخلصا في شكره لله مهما صغرت النعمة أو قلت ، فلايشرك في الشكر، ولا ينافق على المنابر ، ولايتمسح بأصحاب النعم.

والنبي إبراهيم قدمه السياق القرآني " محاورا فذا" ، فقد تحاور مع

1 الملك النمرود فأبلسه ، والتحدي القائم بين إبراهيم وبين الملك كان من يستطيع أن يهب الحياة ، ومن يملك أن يسبب الموت. والملك كأي حاكم مستبد كان يملك القوة لاعتقال من يشاء من الرعية لينفذ فيه حكم الموت ، أو أن يعف عنه ليهب له الحياة . ولو أن إبراهيم قد أصر في حواره على أن الله وحده هو المحيي والمميت ، لربما قضى الملك على نصف شعبه "كأي سفاح " ، ولكن إبراهيم بحلمه قد " أدار دفة الحوار" إلى شأن علمي بحت بأن الله يأت بالشمس من المشرق ، فليأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر .

2وإبراهيم تحاور أيضا مع قومه ، فاتخذ معهم استراتيجية عجيبة ، عندما أوهمهم أنه موافق على مزاعمهم  وأن كوكبا يمكن أن يكون إلها ، واستدرجهم في الحوار،  حتى إذا شهدوا بذات أنفسهم أن كل كوكب وكل نجم مهما علا شأنه ، وسطع ضوؤه لامحالة آفل ،  كرّ عليهم بالنقض بانيا حجته على الحس والعقل ، وأعلن بقوة "إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا "

3"قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون " إنه الحوار الأكثر اختزالا ، والأقوى حجة ، نطق به إبراهيم عندما حسم الأمر على أرض الواقع ، وحطم  الأصنام- إلا أكبرها-  وفرض رأيه بقبضة اليد وقوة الفاس.

4وإبراهيم الذي اتبع عدة استراتيجيات لاثبات حجته بين العلم حينا ، والحيلة حينا ،والقوة حينا آخر، نجده في موقع بعيد عن تلك المواقع وفي حوار عجيب مع أبيه بلغ فيه الأدب غايته ، وبينما كان أبوه يتوعده بالرجم والقتل ، كان إبراهيم يدعوه للإيمان، ويعده بالاستغفار .

5وإبراهيم الأب تحاورأيضا مع ابنه قبل أن ينفذ فيه أمر الله بالذبح  مسائلا إياه برفق" فانظر ماذا ترى".

وعبقرية الحوار التي امتلكها النبي ابراهيم هي ماوصفه القرآن ب "البيان" وهو أول ما كرم به الله هذا المخلوق ، الإنسان

"خلق الإنسان ، علمه البيان".

 إنه المفسد ، الظلوم ، الجهول ، الكنود ...وهوأيضا الخليفة ، الذي سجدت له الملائكة تكريما ، والذي علم بمسميات الأشياء ونطق بها "وعلم آدم الأسماء كلها" .

ومن يدخل قاعات الحوار اليوم فليقتف خطوات إبراهيم في حواره الذي جمع الحلم والأناة ، و الحيلة والدهاء ، و العلم والمعرفة ، والقوة والبأس ، والرفق والأدب عسى أن يكون أمة عندما عجزت الأمم ، وحجة ليبهت الذي كفر.

"قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه"4الممتحنة

أيها الإنسان أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر.

وسوم: العدد 664