موشيه ديان والفلسطينيون
اليهود الذين يعيشون في فلسطين مختلفو المَواطن والأعراق ، ويشكل اختلاف مواطنهم وأعراقهم نظرتهم إلى الفلسطينيين خاصة والعرب عامة . وتتباين هذه النظرة في عنف كراهيتها ولينها أو توسطها بين العنف واللين . مثلا ، يبدو اليهود الأوروبيون الغربيون أكثر تسامحا نحو الحقوق الإنسانية للفلسطينيين بحكم ثقافتهم الأوروبية الغربية ، ورغبتهم في أن يبينوا للبلاد التي هاجروا منهم أنهم مازالوا امتدادا لثقافتها ، ويأتي الكاتب اليساري أوري أفنيري وأبراهام بورج رئيس الكنيست الأسبق ذوا الأصل الألماني أقوى ممثلين لهذا الاتجاه ، ويضاف إليهما جدعون ليفي وإن كان أوروبيا شرقيا تشيكي الأصل . ويبدي اليهود القادمون من الاتحاد السوفيتي السابق كراهية عنيفة للفلسطينيين وللعرب ، وتفسر كراهيتهم عادة بأنها تعبير عن رغبة دفينة لإظهار انتمائهم للمجتمع الذي هاجروا إليه متأخرين مخافة الشك في قوة هذا الانتماء لحداثته قياسا بانتماء من هاجر قبلهم ، ويمثل هذا الاتجاه بقوة فظة أفيجدور ليبرمان وزير الخارجية السابق ورئيس حزب " إسرائيل بيتنا " الذي هاجر إلى إسرائيل من مولدافيا السوفيتية في 1978. وينقسم اليهود العرب قسمين : الأول ما يمكن أن يسمى بشيء من التجاوز " القسم الفلسطيني " ، وهو الذي كان موجودا في فلسطين قبل قيام إسرائيل في 1948 ، وحتى قبل الانتداب البريطاني ؛ فهذا القسم تكون على مراحل منذ القرن التاسع عشر ، وأخذ عددهم يتزايد بالهجرة إلى فلسطين التي يلاحظ أنها زامنت الاحتلال البريطاني لمصر في 1882 . والقسم الثاني هو الذي يؤلفه يهود الدول العربية الذين قدموا إلى فلسطين بكثافة بعد إقامة إسرائيل وإن قدم إليها عدد قليل منهم قبل قيامها . وهؤلاء في جملتهم يكرهون الفلسطينيين والعرب كرها حادا لما أوقعته الحركة الصهيونية في عقولهم بأن العرب طردوهم من مواطنهم الأصلية ليستولوا على أملاكهم ، فانقلب بعضهم من الغنى الواسع إلى ضيق الفقر والحاجة . ولاشك أن بعضهم خاصة من الطبقة المستنيرة فهم أن ما زعمته الصهيونية ودولتها إسرائيل كان كذبا ، وفي نفوس هؤلاء حزن وندم على مفارقة أوطانهم العربية ، ومنهم قلة ما زالت تصر على بقائها في الدول العربية . وكره اليهود العرب للفلسطينيين لا موجب منطقيا له ؛ لأن الفلسطينيين هم الضحية الحقيقية لهجرتهم ، ولكنهم نفسيا عموا الفلسطينيين بكراهيتهم للعرب . ونأتي لليهود الذين نسميهم فلسطينيين بشيء من التجاوز . تشهد دلائل ووقائع على أن هؤلاء أقرب إلى الفلسطينيين ، وأوضح تفهما لمأساوية ما أصابهم به طردهم من وطنهم . ومن هؤلاء موشيه ديان الذي وزِر لدفاع إسرائيل سنين طويله ، وقاد ثلاث حروب ضد العرب ، الأولى في 1956( كان رئيسا للأركان ) ضد مصر في العدوان الثلاثي مع بريطانيا وفرنسا ، والثانية في 1967 ، والثالثة في 1973 . عبارات كثيرة ومواقف كثيرة لديان كشفت عن تفهمه لما نكب به الفلسطينيون على يد الحركة الصهيونية ومهاجريها ودولتها . بعد حرب 1967 قال إنه من الطبيعي أن يمقت الفلسطينيون إسرائيل ويعادوها بعد أن استولت على وطنهم . وعند سؤاله عن إمكانية الانسحاب من الضفة قال إن المشكلة ليست في الضفة ، ولكن في تطلع الفلسطينيين إلى يافا وحيفا . وعندما تظاهر طلاب الثانويات في نابلس في 1968 ، وكان تظاهرهم مفاجئا ومتجرئا بالنظر إلى تشدد الحكم العسكري الإسرائيلي مع أي تحرك معارض له يومئذ ؛ واجه ديان المتظاهرين ، وقال لهم : تظاهروا ما شئتم ، ولكن لا ترموا الحجارة على الجيش !
وكان وراء سياسة الجسور المفتوحة التي مكنت الفلسطينيين في الضفة وغزة من السفر إلى الخارج ، والعمل في إسرائيل . في خلفية هذه العبارات والمواقف التي تبدو لينة قياسا بسواها من عبارات ومواقف بعض مكونات المجتمع الإسرائيلي العرقية ؛ أن ديان عاشر الفلسطينيين من صغره ، وحمل شارة الشرطة الفلسطينية زمن الانتداب ، وسجن مع الفلسطينيين المناوئين للانتداب ؛ لحيازته قطعة سلاح ، وشاركه أصدقاؤه وجيرانه من الفلسطينيين الاحتفال بزواجه الأول ، فرقصوا في الاحتفال وغنوا . يا لطيبتهم وحسن نيتهم ! وسارت ابنته الروائية ياعيل على نهجه ، ربما تأثرا به، فأبدت استياءها من مظاهر شدة الحكم العسكري للاحتلال في الضفة وغزة أثناء زيارة الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان مع خالها لبيت ديان بدعوة منه ، وفي الزيارة قال لها إن قصيدة من شعرها أخطر على إسرائيل من عشرة فدائيين ، ولام عبد الناصر فدوى لوما قاسيا على تلك الزيارة حين التقته بعدها وحدثته بها . ومن طرائف صلة ديان بالفلسطينيين أنه جال في صغره على حصان بين غنم راعٍ فلسطيني ، فجفلت وتفرقت ، ومُغضبٌ لراع أن يفعل أحد ذلك بغنمه . ويبدو أن ديان زاد جرأة ، فاقترب من الراعي الذي كان يتقنص لحظة تمكنه من معاقبته ، وسنحت اللحظة المأمولة في جولة ، فشده من رجله وأسقطه ، وانقض عليه يجلده بعصاه ، ومن مثل الرعاة قسوة وبراعة إذا جلدوا بالعصا ذودا عن غنمهم حبهم ورأسمالهم في حياتهم ؟! وراء هذه السطور ما نشرته " يديعوت أحرونوت " منذ أسبوع من رثاء ديان لجندي إسرائيلي يدعى روعي روتنبرج قتله الفدائيون الفلسطينيون في 1956 في مستوطنة ناحل عوز التي أنشئت في خربة الوحيدي شرقي غزة . يعترف ديان في ذلك الرثاء بأن دولته هي التي هجرت الفلسطينيين الذين يتكدسون في مخيمات غزة بعد أن كانوا أهل مزارع وبيوت فسيحة ، وصاروا بعد طردهم من وطنهم عيونا وأيدي تبتهل إلى الله _ سبحانه _ بأن يضعف إسرائيل حتى يمزقوا غاصبي مزارعهم وبيوتهم ، ويتساءل في نغمة حزن تومىء إلى شعور غائر في نفسه بخطأ ، بل بخطيئة بناء وطن على أرض شعب آخر : " كيف أغمضنا عيوننا ، ولم نحدق مواجهة بمصيرنا لنرى وعد زماننا بكل قسوته ؟! " لكنه على نهج المغتصبين في كل زمان ومكان الذين لا يصدر عنهم إقرار خالص بجرمهم الكبير في جنب ضحايا اغتصابهم ، نراه يتحدث بأسى وإعجاب عن الجندي القتيل ، فيقول إنه غادر تل أبيب ليبني منزلا على أبواب غزة يكون سورا لإسرائيل ! وإن النور في قلبه أعمى عينيه عن رؤية بريق حراب غزة الثقيلة التي قتلته ! ديان لا يسأل نفسه : على أرض من بني روعي بيته ؟! وعلى أرض من أقيمت تل أبيب التي قدم منها ؟! وأي نور في قلب مهاجر مغتصب ؟! النور خرافة ينسبها اليهود لأنفسهم زاعمين أنهم نور للأغيار حتى ولو سرقوا أرضهم وقتلوهم . اليهود في فلسطين بكل مواطنهم وأعراقهم ، وبكل نظرتهم إلى الفلسطينيين خاصة والعرب عامة ؛ يلزمهم لزوما قويا أن يعيدوا النظر في مجمل كيانهم الذي صنعوه في أرض ليست لهم ، ولن تحل المشكلة التي صنعوها باعتراف صغير أو كبير من بعضهم بالظلم الذي أنزلوه بالفلسطينيين . الظلم الكبير ، والخطأ الكبير ، لا تزيلهما إلا مواقف نزاهة وعدالة كبيرة مثلهما ، وهذه المواقف يتحتم أن تأتي منهم ، وهم الآن بعيدون جدا عنها .
وسوم: العدد 667