حرقونا بمناكفاتهم
لعلَّ من المشاهد التي يندى لها جبين الإنسانية مشهد احتراق الأطفال الأبرياء من عائلة أبو هندي في مخيم الشاطئ بقطاع غزة تراها ولا تصدقها، تراها فلا تحدها قدرتك على الرؤية، ولا تعيها طاقتك على الوعي والتحمل من هول المشهد
اشتدت حدة أزمة الكهرباء، وثقلت وطأتها، وبلغت ذروتها، وزاد من خطورة هذه الأزمة فشل جميع الأطراف سواء الرئيس أو حكومة الوفاق الوطني أو فصائل العمل الوطني والإسلامي وعلى رأسهم حركتي فتح وحماس في الاهتداء إلى حل سليم لها، حيث قاموا بتمثيل دور الضحية تحت ستار الحصار والعدوان الإسرائيلي، لاستشعار عطف العالم، وإلهاء الناس عن مسؤوليتهم الأدبية تجاه هذه الأزمة الخانقة، وقد أساءت هذه السياسة، التي غلب عليها التخبط والحيرة، فضلاً عن روح الاستعلاء والتعصب، إلى أهالي قطاع غزة إساءة بالغة فاقت كل الحدود، فعاملوا رعاياهم معاملة أشبه بقطعان الماشية، وأضحى الناس رهائن هذه السياسة الصماء، دون رعاية لمصالحهم.
وأصبح الناس الذين عاشوا ويعيشون سنوات الانقسام ناقمين على هذه السياسة واستبدادها وحكمها الجائر يشاهدون في تلك المرحلة من تاريخهم لوناً جديداً من الاستعباد، يعانون المتاعب منه، ويذوقون المرارة، ويدخلون في ظل هذه الأزمات في دور خطير من الركود، ثم الجمود، بسبب ما ران عليهم من مظاهر العزلة والانطواء على أنفسهم، ولسان حالهم يقول: إن القائمين بالحكم أصبحوا غير قادرين على القيام بواجبهم خير قيام.
ومن الخطأ، أن ندعي أن الفلسطينيين قد قعد بهم اليأس بعد فشل الزعامات الفلسطينية في السير بقطار المصالحة الفلسطينية في الطريق الصحيح، بل إن غياب قادة حقيقيين يهدون الجماهير إلى سواء السبيل في تحقيق أمانيهم في الحرية والاستقلال، ويقودون نضالهم لتحقيق أمانيهم وآمالهم وتحقق أحلامهم، حال بينهم وبين ما تجيش به نفوسهم من رغبة في تجاوز الأزمات وتحدي الاحتلال ومقاومته، وهو جانب هام من تاريخنا الوطني علينا أن نعيه أشد الوعي، حتى يصبح حكمنا عليه حكماً قائماً على الأصالة والحق، متجنباً الميل والهوى والجهل بواقع المجتمع الفلسطيني في مسيرة تحرره وانطلاقه، وتطور هذا الواقع وفقاً لتطور الأحداث والعوامل.
فالعامة من الناس مغلولة الأيدي والأعناق، لا يملكون من الأمر شيئاً، ولسان حالهم يقول: إنه خروج على المألوف، وشذوذ عن المنطق، ومجافاة للصالح العام، فما كانت العصبية الحزبية وعنجهيتها وقيود الانقسام لتسمح لمتكلم أو صاحب فكر أن يسمع رأيه، والجميع ينتظرون على مضض الساعة المناسبة، ليقولوا كلمتهم في هذا الوضع الذي يفرضه قادتهم عليهم، وليس لهم رأي فيه.
ولم تعد الحكومات الفلسطينية المتتالية التي ولدت من رحم الانقسام، سواء في قطاع غزة أو الضفة الفلسطينية، قادرة على الوفاء بكل ما يتطلبه الحكم، إذ أن مرحلة الحكم (السلطة) تقتضي المسؤولية الكاملة عن الشعب الفلسطيني وتوفير مستلزمات الحياة الكريمة، والدفاع عن مصالحه، وهذا أمر يتعذر القيام به بنجاح في ظل انقسام جغرافي بين قطاع غزة والضفة الفلسطينية وسيطرة إسرائيل على المعابر والحدود والاقتصاد؛ وهو ما ينذر بسوء العاقبة.
لقد أضحت فلسطين فريسة الاختلاف، واختزلت قضيتها العادلة التي تهدف إلى التحرير والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إلى عدة قضايا ثانوية تشغل بال الناس، وأبعدتهم عن قضيتهم المركزية: كأزمة الكهرباء وتفاقمها، وإغلاق المعابر وتداعياتها، وتفشي ظاهرة البطالة، وهبوط مستوى المعيشة هبوطاً ملحوظاً، وازدياد الفقر، واشتداد الغلاء، وانشغال الشرائح الفقيرة في تأمين لقمة العيش ومستلزمات الحياة الضرورية، وانتشار ظاهرة التسول، وتراجع دور منظمات حقوق الإنسان، وتركت هذه الظواهر طابعها في تعزيز ضعف الانتماء الوطني واللامبالاة، وتعاظم الشعور بالإحباط، واليأس من القادة وعدم الثقة بالتنظيمات والفصائل، وكان لامتداد هذه الظواهر السلبية آثارها العميقة في نفوس أبناء الجيل، وفي انحراف البوصلة عن القضية الأساسية (فلسطين) التي يجب أن يبقى السجال في الميدان محكوماً بها.
ونتمنى في النهاية من هؤلاء القادة والفصائل التحرك على مستوى عالٍ، واجتراح حل لهذه المأساة التي لا يعلم إلا الله متى سينقطع دابرها، ويخمد أوارها، ويرتكس فيها الشعب الفلسطيني إلى أحط مستويات الحياة الإنسانية .
وسوم: العدد 668