مجتمع الشريعة

المجتمع المسلم الذي يبنيه الإسلام مجتمع متفرد لا يشبه المجتمعات التي عرفتها البشرية على مدار التاريخ ، ذلك أنه مجتمع أحكمت صياغته شريعة الإسلام الخالدة التي أنزلها الله كاملة من أول يوم ، إذ قال في محكم كتابه : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة :3) .

هذه الشريعة التي وضعها الله لعباده كاملة منذ نشأتها ، هي التي أقامت هذا المجتمع على أسس أرادها الله لعباده ، لا على أسس أرادها بعض العباد للعباد ، وفي ظل هذه الشريعة قام هذا المجتمع ، على النقيض مما حدث في الغرب من نشوء المجتمعات الغربية ، نتيجة صراع بين الطبقات ، واحتكاك بين علاقات الإنتاج وطرقه المتجددة ، وصدام بين المصالح المتعارضة ، أو الأفكار المتناقضة .

إن الشريعة الإسلامية هي التي صنعت المجتمع المسلم ، وليس المجتمع المسلم هو الذي صنع الشريعة الإسلامية ، وهي التي وضعت أسسه وسماته ومقوماته وقيمه وأعرافه ، ولم تكن الشريعة مجرد استجابة للحاجات البشرية المطلوبة ، كما هو الشأن في التشريعات الأرضية ، وإنما كانت منهاجاً إلهياً للبشرية كلها ، تناولت كل شيء في حياة الإنسان والمجتمع ، وحددت علاقة الإنسان بربه وبنفسه ، وبأسرته ، وبإخوانه ، وأصدقائه ، وبأفراد مجتمعه قاطبة ، ونظمت علاقة الدولة الإسلامية بغيرها في حالة السلم وحالة الحرب .

ومن هنا جاء الفقه الإسلامي مشتملاً على العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجهاد والمعاهدات والحلال والحرام والسنن والآداب ، لم يدع شيئاً في حياة الإنسان والمجتمع إلا نظمه بدأً من أدب قضاء الحاجة للفرد وانتهاء بإقامة الخلافة والإمامة العظمى .

ومن هنا جاء تفرد المجتمع المسلم وتميزه عن غيره من المجتمعات ؛ ذلك أن صانعه ومنشئه وبانيه أدرى بما يصلح للبشر ، من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع الذين يتصدون لوضع أسس المجتمعات البشرية .

وكلما تقادم الزمن ، وارتفعت درجة المعرفة البشرية ، اقترب الناس من تحقيق جوهر المثل والقيم والنظم التي سبق إليها المجتمع المسلم في ظل الشريعة الإسلامية .

فمهما جد في الحياة من حاجات ، ودعت دواعي النمو والتطور إلى الاجتهاد في سن القوانين وإصدار التشريعات اللازمة لمواكبة الحياة المتجددة ، فإن ذلك الاجتهاد يبقى مشدوداً إلى أصل ثابت ، ومبادئ أساسية ، أراد الله لها الدوام في المجتمع المسلم ، ليبقى متفرداً متميزاً عن غيره من المجتمعات .

وبذلك تقوم الشريعة مقام السياج الواقي الذي يسمح لعوامل النمو والتجدد والتطور أن تفعل فعلها في المجتمع المسلم ، ولكن داخل هذا السياج الواقي الذي يحفظ الأصالة ، ويصون التفرد ، ويحمي التميز ، ويقي من الذوبان .

قد يسأل سائل : هل من الخير أن يظل نمو المجتمع وتطوره مشدوداً إلى أصل ثابت ، في حين تتجدد الحياة ، وتتنوع مطالبها وعلاقاتها ، وتحتاج إلى أنظمة وقوانين جديدة ، تلبي حاجة الحياة المتجددة المتطورة ؟

الإجابة عن هذا السؤال تقتضي معرفة عميقة لذلك الأصل الثابت ، ومدى شموله لأصول الحياة الكبرى ، كما تقتضي موازنات موضوعية دقيقة بين مبادئ ذلك الأصل الثابت التي أنشأت المجتمع المسلم ، والمبادئ الأخرى التي أنشأت المجتمعات البشرية حتى اليوم ، فإذا تبين أن مبادئ الإسلام الثابتة موضوعة في أصلها للاستمرار وقابلية التجدد ، وأنها لا تزال بعد خمسة عشر قرناً أفضل من سائر النظم التي عرفتها البشرية ، فإن الثبات عندئذ يكون ميزة وضماناً للتقدم المستمر ، وعدم الانتكاس مع الأهواء ، والجري وراء الشهوات ، وعصمة من الانسياق وراء النزوات والانحرافات والضلالات ، بحجة التطوير والتجديد .

إن هذه الموازنات الموضوعية الدقيقة المحكومة بالمنطق العلمي بين النظام الاجتماعي في المجتمع المسلم الحق وسائر النظم الاجتماعية الأخرى تضعنا أمام الحقيقة الكبرى ، وهي أن ذلك الأصل الثابت للشريعة الإسلامية أكثر مرونة وطواعية لتلبية حاجات التطور الجديد في حياة البشرية في كل النظم الجديدة التي وضعها البشر ، والتي حين تقاس إلى مبادئ الإسلام الكلية تبدو مختلفة في عمومها ، فيها كثير من التناقض والنقص والتعسف ومجافاة الفطرة السليمة .

إن الشريعة الإسلامية التي أنشأت المجتمع المسلم لترتكز على خصائص عدة تجعل المجتمع المسلم قابلاً للنمو والتطور والتجدد ، وقادراً على تلبية مطالب البشرية المتجددة .

ومن أهم هذه الخصائص أنها جاءت :

ـ موافقة لأصول الفطرة البشرية ومقوماتها : لأنها من صنع الإله العارف بطبيعة خلقه وما يناسب هذه الطبيعة .

ـ جاءت في صورة مبادئ كلية عامة ، تقبل التفريع والتطبيق في الجزئيات المتجددة والأحوال المتغيرة ، فالزكاة ـ على سبيل المثال ـ فريضة ثابتة محددة ، ولكن وسائل جبايتها ، وضبط حساباتها ، وتوزيعها على مستحقيها ، أمر قابل للتطوير والتجديد بما يلائم العصر الذي تجبى فيه ويحقق مصلحة الفقير .

وسوم: العدد 668