دعوة القرآن الكريم والعقول الغرائبية
الإسلام لا يبني عقلا غرائبياً ، بل يحاربه ويقاومه . القرآن الكريم أقام دعوته على قاعدتين أساسيتين، الأولى : نبذ التقليد . واستنكر القول (( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ )) وحاربه وندد به وبأصحابه وضرب الأمثلة لهدمه بما فعل الرسل الكرام بدأ من أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ....
الثانية : دعوة إلى التفكير والتعقل والتدبير والتأمل والنظر وطالب بذلك بكل الألفاظ التي تدل عليه في اللغة العربية . عاب على الذين يمتلكون المعارف ولا يستفيدون منها ، شبههم في موضع بالـ (( الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا )) وفي موضع ضرب لهم مثلا (( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث )) . وهي من أبلغ الصور التي وردت في القرآن الكريم .
الرسول الكريم ظل خلال ثلاثة وعشرين عاما يؤكد للمسلمين أنه بشر رسول . حامل لأمانة ، ومبلغ لرسالة . ليس له من الأمر شيء ، لا يعلم الغيب . وكان يجيب كل الذين يطالبونه بالغرائب ( المعجزات ) بقوله (( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً )) ...
ومع ذلك ظل العقل البشري لدى بعض المسلمين يتقمص القمص الغرائبية في حكاية تاريخ الدعوة والداعية . وما زال المسلمون بل كثيرا منهم ونحن في القرن الحادي والعشرين مرحلة بلوغ العقل الإنساني أشده يعيشون مرحلة طفولة هذا العقل بالنزوع غير المسوغ إلى البحث عن شواهد غرائبية لتأييد الدعوة حينا والداعية أحيانا ...
الرسول الكريم أغلق على المسلمين منهجية المطالبة بالمعجزة . القرآن الكريم رغم حديثه عن معجزات الرسل الكريم ندد باليهود بشكل خاص لولعهم بطلب المعجزات (( أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً )) إلا أن بعض المسلمين وطبقة القصاص منهم بشكل خاص ظلوا مولعين أولا بالدوران حول بعض المعجزات الثابتة التي وقعت في سياقات ربانية تقتضيها . وتضخيم هذه الوقائع وإيرادها في صيغ قصصية ذات طابع درامي . والأخطر من هذا - ثانيا -أن هؤلاء القصاص وأضرابهم أولعوا بالكذب والاختلاق والوضع على تاريخ الداعية الأول وسيرة حياته وسير أجيال السلف أجمعين . حتى بدا الأمر وكأن العقل الإنساني أو العقل المسلم هنا بشكل أدق عاد للعيش في أجواء الطفولة التفسيرية نفسها ولكن بمعطيات مختلفة ، هذه الطفولة الاسترسالية التي كان من أهداف دعوة الإسلام الأولى إخراج الإنسانية منها .
وعززت مدرسة الفقه الإسلامي هذا الاتجاه بفتح باب ما سمي بكرامة الولي مقابل معجزة النبي . نحن هنا لا نناقش أصل الفكرة وأصل الحكم ، ولا ننكر قدرة الله القدير على خرق العوائد بما يسترسل الكثير منا في روايته والركون إليه .
ولكن الذي نريد إلى الصيروة في رفضه واستنكاره أن تجعل أمة الإسلام تعويلها في منهجها العقلي أو العملي ، فيما تكسب أو تحقق أو حين تفكر أو تقدر أو تحارب الاعتماد على هذه العقلية المسترسلة التي جاء الإسلام ليقاومها ، ويصادرها ويقر معها مبدأين ،الأول التوكل على الله بما يحييه في النفوس من ثقة والثاني الاعتماد على الجهد المحكم في استيفاء أسباب النجاح أو النصر ...
بالجهد البشري المتوكل على الله انتصر محمد صلى الله عليه وسلم هذه هي الحقيقة الجوهرية التي يجب أن نلح عليها ، ونتمسك بها ، ونربي أجيالنا عليها ، ونبرأ من غيرها . وبالجهد البشري المرتبط دائما بالله انتصرت هذه الأمة على مر العصور ، وبهذا الجهد نفسه مرتبطا بالله تبارك وتعالى يجب أن نخوض كل معاركنا ...
كثيرا ما أتساءل أي خطر شكله سيد قطب رحمه الله تعالى على القوى التي تواطأت على إعدامه، وهو المفكر الأديب الذي لم يحمل سلاحا غير القلم. ودائما تقفز هذه الفكرة التي سطرها المسلم الشهيد في الفصل الأول من كتابه أو كتيبه الصغير ( هذا الدين ) التي تؤكد : أنه بالجهد البشري انتصر الرسول وانتصر الإسلام وكان هذا العنوان بعض رسالته التي قتل من أجلها حين خاطب أجيال المسلمين في القرن العشرين : بالجهد البشري ، المقترن بالتوكل على الله ، يجب أن تنتصروا ...
أيها المسلمون رسولكم نبيكم عذب وأوذي في سبيل دعوته سجد في الحرم فوضع أبو جهل على رأسه سلا البعير ، حوصر في شعب أبي طالب فجاع مع الجائعين ، خرج للطائف فلاحقه السفهاء بالحجارة ينادون عليه يا مجنون ، خرج إلى الهجرة فاختبأ في الغار إعمالا للأسباب العقلية ، ويوم بدر وأحد والأحزاب وحنين ..
ومع ذلك ما تزال أجيال من هذه الأمة يحلمون ، ويسترسلون في الأحلام ، ويتصرفون على أساسها وينتظرون أن ينتصر الإسلام دعويا وعقليا وميدانيا بالحلم أو بالمعجزة ..
يضع إنسان مريب على وسائل التواصل صورة أو حكاية غرائبية فيسرع إلى تناقلها من يظنون فيها المعجزة والكرامة والدلالة حتى بتنا نرى وسائل التواصل الاجتماعي قد ضجت بها ، وكل واحد فيهم لديه خلطته من البهارات ليضيف ...
حكايات بل ضغابيث ما هي من أمر الإسلام ، يخرف بها مخرف أو يعبث بها بالمسلمين عابث وسرعان ما ينسى جمهور من أمة (( لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ... لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )) أن قد أتم الله الدين ، وأقام الحجة . وأن وإثبات أن الله حق لا يحتاج أن نشق حبة بندورة فنقرأ في جوفها مرتسما لفظ (الله ) ..
تنهال علينا في مطلع رمضان حكايات مقلقة ليس في ذاتها ، وليس في كونها صحيحة أو غير صحيحة ، وإنما في دلالتها على أن العقل الغرائبي ما زال يعمل في مهنة آزر والد سيدنا إبراهيم صلى الله وسلم على إبراهيم ...
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
وسوم: العدد 671