لقنص أملٍ وسط سوداوية القصص

لقنص أملٍ وسط سوداوية القصص

"على أنقاض أعياد الطفولة"

د. سماح هدايا

في أزمنة النفاق تفتقر المناسبات إلى المعاني الجليلية، لتصبح مجرد طقوس وشعارات شكليّة. ومردّ ذلك للتردي الأخلاقي والفراغ القيمي. لا يقتصر على الأمر على واقع بلادنا، بل أصبح  جليا أنه حالة عولمة وموقف رسمي عام؛  فتبرير التخاذل والخسّة صناعة سياسية  بامتياز. واحتفال العالم بعيد الطفولة واحد من هذا النفاق المريع.

لأنّ الأطفال بناة المستقبل، وبيدهم قد يكون الخلاص، يجري تحطيمهم في أنظمة الاستبداد...ولكي تتخلص الأمم المتحدة من استحقاق أخلاقي لتقصيرها في حماية حقوق الإنسان وبالتحديد، سوريا،  لجأت إلى الخديعة، فجعلت من أطفال سوريا مجرد ضحايا لطرفي نزاع في صراع أهلي دائر بين قوات ترتكب انتهاكات ونظام يرتكب انتهاكات، وعوضا عن التدخل لمحاسبة نظام  الأسد الذي يمارس حرب إباد . راحت توزّع  البيانات الإنشائيّة الماكرة، التي  تجعل الصراع الأهلي والنزاع بين أطراف متقاتلة في سوريا وراء انتهاكات حقوق الأطفال وضياع جيل سوري كامل.

وحين يحتقل نظام الأسد وتابعوه بعروض مسرحيات الانتخابات، على مرأى العالم، الذي يحتفل بمناسبات متلاحقة من حقوق الإنسان، وتقوم براميل الأسد بدفن الأطفال والأبرياء تحت الأنقاض وفي أقبية التعذيب، لا يتدخّل العالم ليوقف القتل وينقذ الأبرياء وينصر المستضعفين تحت أي خط من خطوط حماية حقوق الإنسان التي يقول بها.

ليس صدفة ولا حدثا عابرا، أن يتحدى نظام الأسد العالم بارتكاب فظائع هائلة، ومجازر مروّعة، مصوّرة وموثّقة، وأن يجري الصمت عليها  عالميّا، أو الاكتفاء بتنديد خجول وإنشائي؛ فهو دليل على الاستهتار بحقوق الإنسان، وعلى تواطؤ الدول مع هذه الأنظمة الطاغية.

صحيح أن نظام الأسد تحدّى العالم  في موضوع الإبادة الجماعية التي يرتكبها في السوريين، وبالتحديد في عموم طائفة معينة من السوريين، لكنه تحايل على العالم لكيلا يحاربه ويحاسبه على ممارسة الإبادة،  التي هي جريمة حرب توجب المحاسبة الدوليّة؛ فلجأ إلى فسح المجال واسعا أمام نشوء داعش وغيرها من عصابات الإرهاب والتشبيح لتمارس قتلها في الشعب السوري، مسوّغا  أمام الرأي العالم حربه على أنها حرب أهلية، وأنه يخوض في بلاده حربا  ضد المتطرفين وضد الإرهاب والظلاميّة. وقد ساعده في ذلك تركيبة من مصالح دولية ومنظمات حقوقية استخباراتية كان همها منع نجاح الثورة ومنع تمدّدها، كيلا تهدد أمن الدول الحليفة لها او المحميات التي أنشأتها في المنطقة.

     وثّقت هيومن رايتس ووتش  انتهاكات المعارضة وقيامها باستغلال الأطفال  السوريين للقتال، وغير ذلك،  وروّجت الأمم المتحدة  أن قوات الحكومة ومقاتلي المعارضة مسؤولان عن عددٍ لا يحصى من أعمال القتل والتعذيب والتشويه بحق الأطفال...وقدّمتا توصيفا مجزوءا من السياق غير غير حيادي. فكلّ الأسلحة الكيماوية والقنابل العنقودية والصواريخ والبراميل والسكاكين والغارات والأسلحة الحارقة وأقبية التعذيب التي استخدمها النظام، أكبر بكثير من توثيقاتهم وممّا يروجّه إعلامهم، ولا يمكن مقارنتها بأي خروق ترتكبها المعارضة السوريّة المسلّحة. وحتى داعش التي هي فيصل تشبيحي إرهابي مشبوه بارتباطه بالنظام وبقوى دولية، جرى تعميم انتهاكاتها على الثورة والكتائب الإسلامية، وتم حسبها على المعارضة، من دون التوسّع في كشف الحقيقة كاملة، وتوخي الدقة في إظهار ضحاياها من الثوار والمعارضين السلميين والعسكريين.

       وللأسف دعمت  أقلام إعلاميين منفعلين أو ساذجين أو متضررين أو انتهازيين ، نظرية الأسد في حربه على الإرهاب والتطرّف.. بدل أن تفضح ما يقوم به نظام الأسد من وحشية وعنف ومجازر متواصلة، خصوصا بحق الأطفال، وتقاعست عن كشف الفظائع الواسعة والانتهاكات الكبيرة التي ترتكبها قوات النظام، وغرقت بمتابعة الانحرافات التي ظهرت في الثورة ولصوصية الثورة، وتركت إعلام النظام يكذب ويكذب، ويتوسّع في التضلليل، من دون أن تتابع القضايا الإنسانية التي يجري انتهاكها بشدّة من قبل النظام  وعصاباته، وراحت  تدور في دائرة ضيقة من أحداث جزئية وهامشية في صفوف الثورة؛ حتى اصبح العدو الحقيقي للشعب هو الثورة لا نظام الأسد وقواته وشبيحته وعصاباته.

    الأطفال هم الأكثر ضررا في الحرب. وأعداد الضحايا هائلة،  عاشوا محنة وعاشوا عنفا فاق التصوّر. هم الأبرياء الذين دفعوا الأثمان الباهظة من دمائهم وارواحهم وعقولهم ووجدانهم. كانوا أهدافا للقناصين من قوات الأسد ودروعا بشريّة. أطفال التصقت دماؤهم وأشلاؤهم بارغفة خبز كانوا يحملونها أو يقفون في طوابير الخبز لتحصيلها. أطفال بلا مدارس أو بمدارس الرشوى والفساد. أطفال  مشردون، بلا مأوى. ينامون في الطرقات ويموتون بردا وجوعا.. أطفال مرضى بلا مستشفيات. أطفال مذبوحون أو اهلهم مذبوحون.. أطفال أحرقوا أو أعدموا شنقا أو رميا بالرصاص... وأطفال معرضون يوميا في الحصار والنزوح والحرب إلى الجوع وسوء التغذية والأمراض الخطيرة.  أطفال حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم أو اهلهم. أطفال بلا آباء. أطفال غرقوا في رحلة التيه في بحر عاصف وعلى يد تاجر حرب. أطفال في أقبية التعذيب، وجثث مشوهة. أطفال مغتصبون ومشوهون... أطفال مرعبون ومصدومون، والضرر النفسي شديد جدا. هؤلاء ضحايا نظام الأسد،  وأيضا ضحايا دواعش الأسد.

     من الصعب ، تجاوز مأساة هؤلاء الأطفال الذين تلقوا عقابا شديدا على ذنوب لم يقترفوها، وذاقوا الويل، لأنهم كانوا ضعفاء، وكانت لهم يد الطغيان بالمرصاد لتقمع وتنتقم وتثأر،  هؤلاء الذين تحولوا بفعل الثورة ومآسيها إلى أقوياء أو قساة، لن يغفروا وسيحاسبون ويبحثون عن الحقيقة. هم جيل الحرية، ولن يكونوا كغيرهم من الأجيال الصامتة البليدة التي تعوّدت الخضوع وتسويغ الصمت والتخاذل وفقأ العيون.سيظلون، أيضاً،   وثيقة إدانة بالإرهاب والوحشيّة، بكل المعاني والمقاييس، لنظام الأسد وعصاباته.

يلزمهم عمل كثير ومكثّف في كل الميادين ومختلف المستويات، من تأهيل نفسي واجتماعي وجسدي وعقلي ومعرفي ودعم مالي للرعاية والتنشئة والتعويض عن الضرر، لكن ما يلزمهم  أولا هو تخليصهم من نظام الأسد وأعوانه حتى يتحرروا ثم ..يلزمهم منهج تربوي جديد ومخطط عمل  لدعم نفسيّ وإعلامٍ خاص بهم يحترم عقلهم وتجربتهم وعمرهم، يحاول تأهيلهم ونقل الأحداث والأخبار والأفكار من دون ترعيب وتخويف، وتعديل سلوكهم بما يناسب احتياجاتهم. لكنّ أكثر ما يحتاجون إليه هو عدالة تقتص لهم وترد حقوقهم وإلا لن يتعافوا؛ فمن سيتابع قضايا ظلمهم؟ وكيف؟ ومتى؟ وماهي آفاق المستقبل؟ وأين خطط الحكومة المؤقتّة وأعمالها في مختلف هذه الميادين؟.