رسالة عمان في الإسلام، وثيقة تاريخية، ورؤية أكثر من رائعة

د. عبد السلام البسيوني

تجتهد حكومات دول العربية والإسلامية، في كثير من المناسبات – ولو من باب دفع التقولات، وسد الذرائع - التأكيد على هويتها الإسلامية، وانتمائها العقدي، فتقيم الموالد(!) وتحتفل ببعض المناسبات، وتنص في دساتيرها أن الإسلام هو مصدر التشريع، وهي – في جملتها - لا تطيق الإسلام، ولا تريده، وتكرهه بلسان الحال والمقال، بل تقاومه وتحاربه، بل تجتهد بفلوس المسلمين أن تجفف ينابيعه على كل الأصعدة!

وفي رمضان المعظم من عام خمسة وعشرين وأربعمائة وألف الموافق للتاسع من تشرين الثاني عام أربعة وألفين أطلقت وزارة خارجية المملكة الأردنية الهاشمية: رسالة عمان في الإسلام، محددة ملامح انتمائها الإسلامي، ورؤيتها للإسلام في واقعها ومستقبلها.

وفي صياغة أنيقة، وتعبيرات جامعة، وشمولية معجبة، وتحديد ذكي لمواطن الداء، وأنجع الدواء، رسم البيان خطة مستقبلية فذة، لو اجتمع العرب والمسلمون عليها، وتنادوا إلى تحقيقها، وأنفقوا المال والوقت والجهد في سبيلها، لكان لهذه الأمة التعيسة المتشرذمة شأن وأي شأن!

 وها أنا أجدد الدعوة التي حملها هذا البيان، عسى الله أن ينفعنا في رمضان، ألا هل بلغت: اللهم فاشهد، وهذا هو نص الوثيقة التاريخية:

 بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وأصحابه، الغر الميامين، وعلى رسل الله وأنبيائه أجمعين. قال تعالى: (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم) صدق الله العظيم - الحجرات: 13

هذا بيان للناس، لإخوتنا في ديار الإسلام، وفي أرجاء العالم، تعتز عمان – عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية - بأن يصدر منها في شهر رمضان المبارك، الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس، وبينات من الهدى والفرقان، نصارح فيه الأمة، في هذا المنعطف الصعب من مسيرتها، بما يحيق بها من أخطار، مدركين ما تتعرض له من تحديات، تهدد هويتها، وتفرق كلمتها، وتعمل على تشويه دينها، والنيل من مقدساتها؛ ذلك أن رسالة الإسلام السمحة تتعرض اليوم لهجمة شرسة ممن يحاولون أن يصوروها عدواً لهم، بالتشويه والافتراء، ومن بعض الذين يدعون الانتساب للإسلام، ويقومون بأفعال غير مسؤولة باسمه.

هذه الرسالة السمحة التي أوحى بها الباري جلت قدرته للنبي الأمين محمد صلوات الله وسلامه عليه، وحملها خلفاؤه وآل بيته من بعده، عنوان أخوة إنسانية، وديناً يستوعب النشاط الإنساني كله، ويصدع بالحق، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويكرم الإنسان، ويقبل الآخر.

وقد تبنت المملكة الأردنية الهاشمية نهجاً يحرص على إبراز الصورة الحقيقية المشرقة للإسلام، ووقف التجني عليه، ورد الهجمات عنه! بحكم المسؤولية الروحية والتاريخية الموروثة التي تحملها قيادتها الهاشمية! بشرعية موصولة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم!

صاحب الرسالة، ويتمثّل هذا النهج في الجهود الحثيثة! التي بذلها جلالة المغفور له بإذن الله تعالى الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه! على مدى خمسة عقود! وواصلها، من بعده، بعزم وتصميم جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين! منذ أن تسلّم الراية، خدمة للإسلام، وتعزيزاً لتضامن مليار ومائتي مليون مسلم، يشكّلون خمس المجتمع البشري، ودرءاً لتهميشهم أو عزلهم عن حركة المجتمع الإنساني، وتأكيداً لدورهم في بناء الحضارة الإنسانية، والمشاركة في تقدمها في عصرنا الحاضر!

والإسلام الذي يقوم على مبادئ أساسها: توحيد الله، والإيمان برسالة نبيه، والارتباط الدائم بالخالق بالصلاة، وتربية النفس وتقويمها بصوم رمضان، والتكافل بالزكاة، ووحدة الأمة بالحج إلى بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، وبقواعده الناظمة للسلوك الإنساني بكل أبعاده، صنع عبر التاريخ أمة قوية متماسكة، وحضارة عظيمة، وبشر بمبادئ وقيم سامية تحقق خير الإنسانية، قوامها: وحدة الجنس البشري، وأن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، والسلام، والعدل، وتحقيق الأمن الشامل، والتكافل الاجتماعي، وحسن الجوار، والحفاظ على الأموال والممتلكات، والوفاء بالعهود، وغيرها.

وهي مبادئ تؤلف - بمجموعها - قواسم مشتركة بين أتباع الديانات، وفئات البشر؛ ذلك أن أصل الديانات الإلهية واحد، والمسلم يؤمن بجميع الرسل، ولا يفرق بين أحد منهم، وإن إنكار رسالة أي واحد منهم خروج عن الإسلام، مما يؤسس إيجاد قاعدة واسعة للالتقاء مع المؤمنين بالديانات الأخرى على صعد مشتركة في خدمة المجتمع الإنساني؛ دون مساس بالتميز العقدي، والاستقلال الفكري، مستندين في هذا كله إلى قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا: سمعنا، وأطعنا؛ غفرانك ربنا، وإليك المصير) البقرة: 285.

 وكرم الإسلام الإنسان - دون النظر إلى لونه أو جنسه أو دينه - (ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) الإسراء: 70.

وأكّد أن منهج الدعوة إلى الله يقوم على الرفق واللين (ادع إلى سبيل ربك، بالحكمة، والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125، ويرفض الغلظة والعنف في التوجيه والتعبير (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً، غليظ القلب، لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر) آل عمران: 159.

 وقد بين الإسلام أن هدف رسالته هو تحقيق الرحمة والخير للناس أجمعين، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107، وقال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) حديث صحيح.

وفي الوقت الذي دعا فيه الإسلام إلى معاملة الآخرين بالمثل، حث على التسامح والعفو، اللذين يعبران عن سمو النفس: (وجزاء سيئةٍ: سيئةٌ مثلها؛ فمن عفا وأصلح فأجره على الله) الشورى: 40)، (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن؛ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فصلت: 34 ..

وقرر مبدأ العدالة في معاملة الآخرين وصيانة حقوقهم، وعدم بخس الناس أشياءهم (ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة: 8)، (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) النساء: 58.

(فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) الأعراف: 85.

وأوجب الإسلام احترام المواثيق والعهود، والالتزام بما نصت عليه، وحرم الغدر والخيانة: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً) النحل: 91.

وأعطى للحياة منزلتها السامية؛ فلا قتال لغير المقاتلين، ولا اعتداء علـى المـدنيين المسالمين وممتلكاتهم، أطفالاً في أحضان أمهاتهم، وتلاميذ على مقاعد الدراسة، وشـيوخاً، ونساءً؛ فالاعتداء على حياة إنسان - بالقتل، أو الإيذاء، أو التهديد - اعتداء على حـق الحياة في كل إنسان، وهو من أكبر الآثام؛ لأن حياة الإنسان هي أساس العمران البشري: (من قتل نفساً بغير نفس، أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياهـا فكأنما أحيا الناس جميعاً) المائدة: 32.

والدين الإسلامي الحنيف قام على التوازن والاعتدال والتوسط والتيسير: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً؛ لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً) البقرة: 143

وقال صلى الله عليه وسلم:( يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) حديث صحيح.

وقد أسّس للعلم والتدبر والتفكير؛ ما مكن من إيجاد تلك الحضارة الإسلامية الراسخة، التي كانت حلقة مهمة، انتقل بها الغرب إلى أبواب العلم الحديث، والتي شارك في إنجازاتها غير المسلمين؛ باعتبارها حضارة إنسانية شاملة.

وهذا الدين ما كان يوماً إلا حرباً على نزعات الغلو والتطّرف والتشدد، ذلك أنها حجب العقل عن تقدير سوء العواقب، والاندفاع الأعمى خارج الضوابط البشرية - ديناً، وفكراً، وخلقاً – وهي ليست من طباع المسلم الحقيقي المتسامح المنشرح الصدر، والإسلام يرفضها - مثلما ترفضها الديانات السماوية السمحة جميعها - باعتبارها حالات ناشزة، وضروباً من البغي، كما أنها ليست من خواص أمة بعينها، وإنما هي ظاهرة عرفتها كل الأمم والأجناس وأصحاب الأديان، إذا تجمعت لهم أسبابها، ونحن نستنكرها وندينها اليوم، كما استنكرها وتصدى لها أجدادنا - عبر التاريخ الإسلامي - دون هوادة، وهم الذين أكدوا - مثلما نؤكد نحن - الفهم الراسخ الذي لا يتزعزع بأن الإسلام دين أخلاقي الغايات والوسائل، يسعى لخير الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة. والدفاع عنه لا يكون إلا بوسائل أخلاقية، فالغاية لا تبرر الوسيلة في هذا الدين.

والأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هي السلم، فلا قتال حيث لا عدوان، وإنما المودة والعدل والإحسان: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة: 8

(فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) البقرة: 193.

 وإننا نستنكر - دينياً وأخلاقياً - المفهوم المعاصر للإرهاب، والذي يراد به الممارسات الخاطئة - أياً كان مصدرها وشكلها - والمتمثلة في التعدي على الحياة الإنسانية بصورة باغية، متجاوزة لأحكام الله، تروع الآمنين، وتعتدي على المدنيين المسالمين، وتجهز على الجرحى، وتقتل الأسرى، وتستخدم الوسائل غير الأخلاقية، من تهديم العمران واستباحة المدن: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) الأنعام:151، ونشجب هذه الممارسات.

ونرى أن وسائل مقاومة الظلم، وإقرار العدل تكون مشروعة بوسائل مشروعة، وندعو الأمة للأخذ بأسباب المنعة والقوة؛ لبناء الذات، والمحافظة على الحقوق، ونعي أن التطرف تسبب - عبر التاريخ - في تدمير بنىً شامخة في مدنيات كبرى، وأن شجرة الحضارة تذوي عندما يتمكن الحقد وتنغلق الصدور. والتطرف بكل أشكاله غريب عن الإسلام الذي يقوم على الاعتدال والتسامح. ولا يمكن لإنسان أنار الله قلبه أن يكون مغالياً متطرفاً.

وفي الوقت نفسه نستهجن حملة التشويه العاتية، التي تصور الإسلام على أنه دين يشجع العنف، ويؤسس للإرهاب، وندعو المجتمع الدولي، إلى العمل بكل جدية على تطبيق القانون الدولي، واحترام المواثيق والقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، وإلزام كافة الأطراف القبول بها، ووضعها موضع التنفيذ، دون ازدواجية في المعايير، لضمان عودة الحق إلى أصحابه وإنهاء الظلم؛ لأن ذلك من شأنه أن يكون له سهم وافر في القضاء على أسباب العنف والغلو والتطرف.

إن هدي هذا الإسلام العظيم - الذي نتشرف بالانتساب إليه - يدعونا إلى الانخراط، والمشاركة في المجتمع الإنساني المعاصر، والإسهام في رقيه وتقدمه، متعاونين مع كل قوى الخير والتعقّل ومحبي العدل عند الشعوب كافةً، إبرازاً أميناً لحقيقتنا، وتعبيراً صادقاً عن سلامة إيماننا وعقائدنا، المبنية على دعوة الحق سبحانه وتعالى للتآلف والتقوى، وإلى أن نعمل على تجديد مشروعنا الحضاري، القائم على هدي الدين، وفق خطط علمية عملية محكمة يكون من أولوياتها تطوير مناهج إعداد الدعاة؛ بهدف التأكد من إدراكهم لروح الإسلام ومنهجه في بناء الحياة الإنسانية، بالإضافة إلى إطْلاعهم على الثقافات المعاصرة؛ ليكون تعاملهم مع مجتمعاتهم عن وعي وبصيرة: (قـل هذه سبيلي: أدعــو إلى الله - على بصيرة - أنـا ومــن اتبعني) يوسف: 108 والإفادة من ثورة الاتصالات لرد الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام بطريقة علمية سليمة دون ضعف أوانفعال، وبأسلوب يجذب القارئ والمستمع والمشاهد، وترسيخ البناء التربوي للفرد المسلم، القائم على الثوابت المؤسسة للثقة في الذات، والعاملة على تشكيل الشخصية المتكاملة، المحصنة ضد المفاسد، والاهتمام بالبحث العلمي، والتعامل مع العلوم المعاصرة على أساس نظرة الإسلام المتميزة للكون والحياة والإنسان، والاستفادة من إنجازات العصر في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وتبني المنهج الإسلامي في تحقيق التنمية الشاملة، الذي يقوم على العناية المتوازنة بالجوانب الروحية والاقتصادية والاجتماعية، والاهتمام بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتأكيد حقه في الحياة والكرامة والأمن، وضمان حاجاته الأساسية، وإدارة شؤون المجتمعات وفق مبادئ العدل والشورى، والاستفادة مما قدمه المجتمع الإنساني من صيغ وآليات لتطبيق الديمقراطية.

والأمل معقود على علماء أمتنا أن ينيروا - بحقيقة الإسلام وقيمه العظيمة – عقول أجيالنا الشابة، زينة حاضرنا، وعدة مستقبلنا، بحيث تجنبهم مخاطر الانزلاق في مسالك الجهل والفساد والانغلاق والتبعية، وتنير دروبهم بالسماحة والاعتدال والوسطية والخير، وتبعدهم عن مهاوي التطرف والتشنج المدمرة للروح والجسد.

كما نتطلع إلى نهوض علمائنا إلى الإسهام في تفعيل مسيرتنا، وتحقيق أولوياتنا؛ بأن يكونوا القدوة والمثل - في الدين والخلق والسلوك والخطاب الراشد المستنير – يقدمون للأمة دينها السمح الميسر، وقانونها العملي الذي فيه نهضتها وسعادتها، ويبثون بين أفراد الأمة وفي أرجاء العالم الخير والسلام والمحبة، بدقة العلم، وبصيرة الحكمة، ورشد السياسة في الأمور كلها: يجمعون ولا يفرقون، ويؤلفون القلوب ولا ينفرونها، ويستشرفون آفاق التلبية لمتطلبات القرن الحادي والعشرين والتصدي لتحدياته.

ونسأل الله تعالى أن يهيئ لأمتنا الإسلامية سبل النهضة والرفاه والتقدم، ويجنبها شرور الغلو والتطرف والانغلاق، ويحفظ حقوقها، ويديم مجدها، ويرسخ عزتها، إنه نعم المولى ونعم النصير.

قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً، فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفّرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) الأنعام: 153.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

عمان المملكة الأردنية الهاشمية - رمضان المبارك 1425 هجرية

تشرين الثاني 2004 ميلادية

وسوم: العدد 673