حق الجار والضيف وفضل الصمت
الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى ،وعلى الآل والصحب أولي الود والوفا ، وعلى من اتبعهم واهتدى بهديهم وسار على دربهم واكتفى . . .
قال الله تعالى : (( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخوراً )) النساء36
وعن أبي شريح العدوي قال : سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ، قيل وما جائزته يا رسول الله ؟ قال : يوم وليلة ، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) . رواه البخاري ومسلم خ (6018) 6019،6135،6136،6138،6476،6137 ، وفي م 74- (47) . في روايات مختلفة فيها تقديم وتأخير والمعنى واحد.
لقد خصّ الرسول صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، والمراد به الإيمان الكامل وخصّه بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ والمعاد : أي من آمن بالله الذي خلقه ، وآمن بأنه سيجازيه بعمله فليفعل هذه الخصال المذكورة .
اهتمام الإسلام بالجار :
الجار في الأصل : هو المجاور في الدار وقد يطلق على الصاحب في السفر ، أو العمل أو نحو ذلك ، وهو أقرب الناس التصاقاً بالإنسان
{ 2 }
ومعرفة أحواله ، وقد اهتم الشرع الحنيف بالجار كما في آية النساء السابقة وأكّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه ) . رواه البخاري ومسلم . أي أن يكون له حق في الميراث .
ولعل من حِكَم اهتمام الشرع بالجار :
أ- أن تسود وتنتشر المحبة والألفة بين المسلمين ، وأحق الناس بذلك الجيران .
ب-
ب- أن الجار أولى الناس بمساعدة جاره وإعانته لقربه منه ومعرفته بمشاكله وأحواله .
ج- أن يأمن الجار لجاره فيحصل للمسلم الأمان من جاره على نفسه وولده وماله .
حدود الجيران :
اختلف العلماء في تحديد الجار الذي جاءت النصوص بالاهتمام به ، فقيل حدّ الجيران أربعين داراً من كل جانب ، وقيل عشرة من كل جانب ، وقيل من صلّى معك الفجر فهو جار وقيل غير ذلك ، ولعل أحسن الأقوال : أن الجار من قاربت داره دارك ، ومرجع ذلك إلى العُرف واختار هذا القول الإمام ابن قدامة صاحب المغني ، والإمام المرداوي صاحب الإنصاف . فتح الباري (10/461-462) .
مراتب الجيران :
تختلف مراتب الجيران بحسب قربهم وبعدهم ، فالأقرب أولى بالبر والإكرام من الأبعد ، ويدل عليه ما روته أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لي جارتين فإلى أيهما أُهدي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إلى
{ 3 }
أقربهما منك باباً ) . رواه البخاري .
وتختلف مراتبهم باختلاف أنواعهم :
_ 1 _ فنوع له ثلاثة حقوق :وهو الجار ، المسلم ، القريب . له حق الجوار والإسلام والقرابة .
- 2 – ونوع آخر له حقان : وهو الجار ، المسلم . له حق الجوار وحق الإسلام .
- 3- ونوع له حق واحد وهو الجار الكافر . له حق الجوار .
قال الإمام القرطبي : أحاديث إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة ، حتى الكافر ، قالوا يا رسول الله : أنطعمهم من لحوم النُسُك ؟ يعني الكفار. قال : ( لا تطعم المشركين من نسك المسلمين ) ، فنهيه هذا عليه الصلاة والسلام يحتمل النسك الواجب الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ، ولا أن يطعمه الأغنياء ، فأما غير الواجب الذي يُجْزيه إطعام الأغنياء فيجوز أن يطعمه أهل الذمة.
قال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها عند تفريق لحم الأضحية : ( أهدي جارنا اليهودي ) . تفسير اللباب لابن عادل (5/66) .
قال مجاهد وابن عباس وعكرمة وقتادة : ( والصاحب بالجنب ) هو الرفيق في السفر . وقال عليّ والنخعي وغيرهما : هو المرأة تكون إلى جنبه . وقال ابن جريج وابن زيد : هو الذي يصحبك رجاء نفعك ، وقيل هو الذي صحبك إما رفيقاً في سفر ، وإما جاراً ملاصقاً ، وإما مشاركاً في تعلم حرفة ، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس واحد أو مسجد ، أو غير ذلك .
وعن أبي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما آمن من أمسى شبعان وأمسى جاره جائعاً ) . أحكام القرآن للجصاص (4/401) .
{ 4 }
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أشراط الساعة سوء الجوار،وقطيعة الرحم وتعطيل الجهاد)المرجع السابق.
ومن حديث معاذ بن جبل قالوا يا رسول الله : ما حق الجار على الجار؟ قال: ( إن استقرضك أقرضته ، وإن استعانك أعنته ، وإن مرض عدته ، وإن احتاج أعطيته ، وإن افتقرت عدت إليه ، وإن أصابه خيراً هنأته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، وإن مات اتبعت جنازته ، ولا تستطيل عليه البناء فتحجب عه الريح إلا بإذنه ، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له ، وإن اشتريت فاكهة أهديته ، وإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ) . أخرجه الطبراني عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والخرائطي في مكارم الأخلاق ، وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ بألفاظ متقاربة ، وأسانيدهم واهية ، ولكن اختلاف مخارجها يشعر بأن للحديث أصلاً . فتح الباري (10/460) .
ثم الأمر بإكرام الجار يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فقد يكون فرض عين ، وقد يكون فرض كفاية ، وقد يكون مستحباً ، ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق .
وذكر الإمام مالك عن أبي حازم بن دينار أنه قال : كان أهل الجاهلية أبرّ بالجار منكم وهذا قائلهم يقول :
ناري ونار الجار واحدة : وإليه قبلي ينزل القدر
ما ضرّ جاراً لي ألاّ أجاوره : ألاّ يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي برزت : حتى يواري جارتي الخدر
وكان عبد الله بن أبي بكرة ينفق على أربعين داراً من جيرانه من سائر الجهات الأربع ، في كل سنة أربعين ألف دينار ، وكان يبعث إليهم الأضاحي ، والكسوة في الأعياد والمواسم ، وأعطى أبو جهم العدوي في داره بالبصرة مئة ألف درهم ، فقال لهم : وبكم تشترون مني جوار
{ 5 }
سعيد بن العاص ؟ قالوا : وهل رأيت جواراً يُشترى قط ؟ قال : والله لا بعت داراً تجاور رجلاً إن غبت سأل عني ، وحفظني في أهلي ،وإن رآني رحّب بي وقربني ، وإن سألته قضى حاجتي وحيّاني ، وإن لم أسأل عنه عطف عليّ وبدأني ، والله بملئها ذهب ما اخترته عليه ، ولا نظرت إليه ، فبلغ سعيداً فبعث إليه بمئة ألف درهم .
وقال جعفر بن أبي طالب لأبيه : يا أبةِ إني لأستحي أن أطعم طعاماً وجيراني لايقدرون على مثله ، فقال له أبوه : إني لأرجو أن يكون منك خلف من عبد المطلب.
وقال الحسن البصري : ليس حسن الجوار كفّ الأذى ، ولكنه الصبر على الأذى .
وقالوا : الإحسان إلى الجار يعمر الديار ويزيد في الأعمار .
وقال الشاعر :
إني لأحسد جاركم بجواركم : طوبى لمن أضحى لدارك جارا
يا ليت جارك باعني من داره : شبراً فأعطيه بشبره دارا
وكان الإمام الزهري إذا لم يأكل أحد من أصحابه من طعامه حلف لا يحدثه أياماً . وقالوا : المائدة مرزوقة .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره ، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره ) . رواه أحمد والطبراني والبخاري في الأدب المفرد وهو صحيح .
وقد كان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون الذمار ، ويتفاخرون بحسن الجوار ، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار ، والإسلام يأمر بحسن المجاورة ولو مع الكفار وشر الناس من تركه الناس اتقاء لشره،
{ 6 }
وتباعد عنه من يعرفه تجنباً لضرره ، وأخبث الجيران من يتتبع العثرات ، ويتطلع على العورات في سره وجهره ، وليس بمأمون على دين ولا نفس ولا أهل ولا مال .
ومن حقوق الجار : احتمال أذاه ، وذلك بان يغضي عن هفواته ، ويتلقى بالصفح كثيراً من زلاته ، ولا سيما إساءة صدرت من دون قصد ، أو إساءة ندم عليها ، وجاء معتذراً منها ، فاحتمال أذى الجار ومقابلة إساءته بالإحسان من أرفع الأخلاق وأعلى الشيم .
ومن حقوق الجار المهمة عدم أذيته سواء كانت الأذية بالقول كسبّه وشتمه والتكلم عليه بالكلام البذيء والفاحش ، وغيبته وغير ذلك .
وعدم أذى الجار بالفعل : كإلقاء الأوساخ أمام منزله ، أو مضايقته بوضع السيارة أمام باب بيته ، أو رمي الأولاد الكرة على بيته ، أو ترك الأغنام والماعز تؤذي أشجاره وأقفاص الورود أمام بيته ، أو بركض الأولاد وخبطهم على سطحه إذا كان يسكن أعلى منه .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ) قيل : ومن يا رسول الله ؟ قال : ( الذي لا يأمن جاره بوائقه). رواه البخاري _ كتاب الأدب _ .
وقال : ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) . رواه مسلم .
وقال:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)رواه البخاري ومسلم
ومن أشد أنواع الأذى للجار : أذيته في عرضه ، وخيانته في محارمه ، بالتعرض لهم بالنظر ، أو الكلام الفاحش المباشر ، أو عن طريق الهاتف والجوال .
وعليك أخي المسلم بالحرص على الجار الصالح الذي يؤدي لك حقوقك ولا يؤذيك ، ويحفظك ويعاونك ، والناس يقولون : الجار قبل الدار .
{ 7 }
وهذا معنى صحيح يشهد له القرآن الكريم في قول امرأة فرعون : ((رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة )) . التحريم 11 .
وتتضح أهمية اختيار الجار بمعرفة أن الجار يؤثر في جاره وأولاده وذلك بسبب المخالطة ، فإن كان صالحاً أمّنه على أهله وبيته وماله ، والجار الصالح يحفظ ما قد يطلع عليه من أسرار جاره وأحواله الخاصة ، والجار الفاسد قد يشيع ذلك ويظهره ويعلنه للناس ، والجار الصالح يعين جاره على فعل الخير ويناصحه ويرشده ، والجار الفاسد قد يثبطه عن فعل الخير ، ويغويه ويجرّه على الشر والفساد .
نسأله تعالى أن يرزقنا الجيران الصالحين في الدنيا والآخرة.
* إذا ما انتقلنا إلى الشق الثاني من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) .فالضيافة من مكارم الأخلاق ومن آداب الإسلام ، ومن خلق النبيين والصالحين ، وإبراهيم عليه السلام أول من أضاف ، والضيافة ليست بواجبة عند عامة أهل العلم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الضيافة ثلاثة أيام ، وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة ) . أخرجه الشيخان وأبو داوود .
والجائزة : العطيّة والصلة التي أصلها على الندب .
ومن حسن الضيافة تعجيل قِرى الضيف ، كما فعل إبراهيم عليه السلام ، ولا بأس أ ن يقدم لضيفه ما تيسر من الموجود في الحال ، ثم يتبعه بغيره ، إن كان له جَدَة ، ولا يتكلف ما يضره ،
وفي الضيافة الواجبة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ليلة الضيف حق ) . رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني .
وقيل إن الضيافة كانت واجبة في صدر الإسلام ثم نُسِخت ، واختلفوا في المخاطب بالضيافة ، فذهب الإمام الشافعي ومحمد بن عبد الحكم
{ 8 }
إلى أن المخاطب بها أهل الحضر وأهل البادية . وقال الإمام مالك بن أنس : ليس على أهل الحضر ضيافة ، وقال سحنون من المالكية : إنما عليه وسلم : ( الضيافة الضيافة لأهل القرى ، وأما أهل الحضر ، فالفندق ينزل به المسافر .
وقال ابن العربي : الضيافة حقيقة فرض على الكفاية ، والإمام أحمد والليث يقولان : الضيافة فرض يوم وليلة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أكرموا الضيف ولو كان كافراً ) .
وقيل إكرام الضيف : تلقيه بطلاقة وجه ، وتعجيل قِراه ، والقيام بنفسه في خدمته ، وقد ورد أن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام : أكرم أضيافك فأعدّ لكل منهما شاة مشوية ، فأوحى إليه أكرم أضيافك فجعله ثوراً ، فأوحى إليه أكرم أضيافك فجعله جملاً ، فأوحى إليه أكرم أضيافك ؛ فتحيّر فعلم أن إكرام الضيف ليس في كثرة الطعام ، فخدمهم بنفسه فأوحى إليه الآن أكرمت الضيف .
قال بعض الحكماء : لا عار على الرجل ولو كان سلطاناً أن يخدم ضيفه وأباه ومعلمه ، ولا تعتبر الخدمة بالإطعام فقط . وقيل إكرام الضيف : تلقيه بطلاقة الوجه ، وتعجيل قِراه ، والقيام بنفسه في خدمته. قال شاعرهم :
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله : ويخصب عندي والمحل جديب فما الخصب للأضياف أن يكثر القرى : ولكنما وجه الكريم خصيب
ويُروى عن حاتم الطائي :
إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي : له مركب فضل فلا حملت رجلي
ولم يك من زادي له نصف مزودي : فلا كنت ذا زاد ولاكنت ذا رحل
شريكين فيما نحن فيه وقد أرى : عليّ له فضل بما نال من فضلي
{ 9 }
وقال حاتم أيضاً ويروى لغيره :
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك : ويا ابنة ذي البردين والفرس الوردي
إذا ما عملت الزاد فاتخذي له : أكيلاً فإني لست آكله وحدي
بعيداً قصياً أو قريباً فإنني : أخاف مذمات الأحاديث بعدي
وكيف يُسيغ المرء زاده وجاره : خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد
وقال مسكين الدارمي :
طعامي طعام الضيف والرحل رحله : ولم يُلهني عنه غزال مقنّع
أحدّثه إن الحديث من القِرى : وتعلم نفسي أنه سوف يهجع
وقال العلوي صاحب الزنج :
يستأنس الضيف في أبياتنا أبداً : فليس يعلم خلْق أيّنا الضيف
وقال آخر :
يا ضيفنا لو زرتنا لرأيتنا : نحن الضيوف وأنت رب المنزل
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سنة الضيف أن يُشيّع إلى باب الدار ) . إحياء علوم الدين (1/374) .
وقال أبو قتادة رضي الله عنه : قدِم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يخدمهم بنفسه فقال له أصحابه : نحن نكفيك يا رسول الله ، فقال : ( كلا إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وأنا أحب أن أكافئهم ) . إحياء علوم الدين ( 1/374) .
وتمام الإكرام طلاقة الوجه ، وطيب الحديث عند الدخول وعند الخروج وعلى المائدة .
{ 10 }
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يتكلفن أحد لضيفه ما لا يقدر عليه ) . أخرجه البيهقي والحاكم وابن عساكر .
ورُوي أن ضيفاً دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ، فقدّم له نصف رغيف ونصف خيارة ، وقال له : كل فإن الحلال في هذا الزمان لا يحتمل السرف .
وإذا ما انتقلنا إلى الشق الثالث من الحديث النبوي : ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله امرءاً تكلم فغنم ، أو سكت فسلم) . رواه البيهقي في شعب الإيمان ، كما رواه ابن حبان ، وهو حسن .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( عليك بحسن الخلق ، وطول الصمت ، فو الذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثليهما )رواه الطبراني والبيهقي وهو حسن.
وقال صلى الله عليه وسلم : ( أمسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابكِ على خطيئتك ) . رواه الترمذي وحسنه .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كفّ غضبه ، كفّ الله عنه عذابه ، ومن خزن لسانه ستر الله عورته ، ومن اعتذر إلى الله قبل عذره ) . رواه أبو يعلى والضياء وهو حسن .
قال الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى : هذا الحديث من جوامع الكلم ، لأن القول كلّه إما خير وإما شر ، وإما آيل إلى أحدهما ، فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها ، فأُذن فيه على اختلاف أنواعه ، ودخل فيه ما يؤول إليه ، وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر ، فأُمِر عند إرادة الخوض فيه بالصمت ، واشتمل الحديث على أمور ثلاثة تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية : فأما الأولان
فمن الفعلية ، وأولهما يرجع إلى الأمر بالتخلي عن الرذيلة ، والثاني إلى التحلي بالفضيلة .
{ 11 }
وحاصله من كان يحمل الإيمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله قولاً بالخير وسكوتاً عن الشر ، وفعلاً لما ينفع أو تركاً لما يضر . فتح الباري ( 10 / 461 ) .
وفي معنى الأمر بالصمت عند الطبراني رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قلت : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ فذكر فيها : ( أن يسلم المسلمون من لسانك ) ، ولأحمد رحمه الله وصححه ابن حبان : من حديث البراء رفعه في ذكر أنواع البر قال : ( فإن لم تُطق ذلك فكفّ لسانك إلا من خير ) . وللترمذي من حديث ابن عمر : ( من صمت نجا ) . وله من حديثه : ( كثرة الكلام بغير ذكر الله تُقسي القلب ) . وله من حديث سفيان الثقفي : ( قلت يا رسول الله : ما أكثر ما تخاف عليّ ؟ قال : ( هذا وأشار على لسانه ) . وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عند أحمد والترمذي والنسائي : وفي آخره قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ ) قلت: بلى يا رسول الله . ( فأخذ بلسانه وقال : كفّ عليك هذا ) قلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ( ثكلتك أمك يا معاذ . وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال : على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) . والحديث حسن ، فتح الباري (10 / 461 ) .
وقد استشكل التخيير البعض في قوله صلى الله عليه وسلم ( فليقل خيراً أو ليصمت ) . لأن المباح إذا كان في أحد الشّقين لزم أن يكون مأموراً به فيكون واجباً أو حراماً ، والجواب عن ذلك أن صيغه أفعل في قوله ( فليقل ) وفي قوله ( ليصمت ) لمطلق الإذن الذي هو أعم من المباح وغيره .
نعم يلزم من ذلك أن يكون المباح حسناً لدخوله في الخير . ومعنى الحديث : أن المرء إذا أراد أن يتكلم فليفكر قبل كلامه ، فإن علم أنه لا
{ 12 }
يترتب عليه مفسدة ولا يجر إلى محرم ولا مكروه فليتكلم ، وإن كان مباحاً فالسلامة في السكوت لئلا يجر المباح إلى المحرم والمكروه . وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل الذي صححه ابن حيان : (ومن حَسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه ) . قال الحافظ ابن حجر هذا حديث صحيح وأخرجه الشيخان .
قال الله تعالى : (( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا )) . الإسراء 36 . وقال تعالى : (( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )) . ق 18 .
وآفات اللسان كثيرة ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل كلام ابن آدم عليه إلا ذكر الله تعالى وأمر بالمعروف ونهي عن منكر ) . أخرجه الترمذي وابن ماجه ، وإسناده حسن .
والسكوت في وقته : صفة الرجال ، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال .
قال أبو علي الدقاق : من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس . والصمت من آداب الحضرة . قال تعالى : (( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون )) . الأعراف 204 .
وقال تعالى خبراً عن الجن في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم : (( فلما حضروه قالوا أنصتوا )) الأحقاف 29 ، وقال تعالى : (( وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً )) طه 108 .
وكم بَيْن عبد يسكت تصاوناً عن الكذب والغيبة ، وبين عبد يسكت لاستيلاء سلطان الهيبة عليه ، وفي معناه قيل :
أفكر ما أقول إذا افترقنا : وأُحْكِم دائباً حجج المقال
فأنساها إذا نحن التقينا : فأنطق حين أنطق بالمحال
{ 13 }
وقال آخر :
رأيتك الكلام يزين الفتى : والصمت خير لمن قد صمت
فكم من حروف تجر الحتوف : ومن ناطق ودّ لو سكت
وآثر بعض الصالحين السكوت : لعلمهم ما في الكلام من الآفات ثم ما فيه من حظ النفس ، وإظهار صفات المدح ، والميل إلى أن يتميز بين جلسائه بحسن النطق . وغير ذلك من الآفات .
قال ممشاد الدنيوري : الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت والتفكر . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فادنوا منه فإنه يلقن الحكمة ) .
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : أنصف أذنيك من فيك ، فإنما جُعلت لك أذنان وفم واحد ،لتسمع أكثر مما تتكلم.
وقد قيل : إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب .
كما قيل : لسانك حصانك إن صنته صانك ، وإن خنته خانك .
وقد قيل :
إن كان يُعجبك السكوت فإنه : قد كان يعجب قبلك الأخيارا ولئن ندمت على سكوت مرة : فقد ندمت على الكلام مرارا إن السكوت سلامة ولربما : زرع الكلام عداوة وضرارا
وقيل :
إن المكارم أبواب مصنفة : فالعقل أولها والصمت ثانيها وقيل :
يموت الفتى من عثرة بلسانه : ولا يموت المرأ من عثرة الرجل
14 {
وقيل :
إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزاً
فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز
يخوض أناس في المقال ليوجزوا
وللصمت عن بعض المقالات أوجز
وخلاصة القول : أن المؤمن بالله وبرسوله وباليوم الآخر ينبغي أن تكون هذه أخلاقه من قول الخير أو الصمت ، وإكرام الضيف والبر بالجار والإحسان إليه ودفع الأذى عنه ، فهذه الصفات والأخلاق هي حلية المؤمن وشيمته وخلقه .
نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه ، وأن يرزقنا حسن الكلام والقول ، وحسن الصمت ، وأن يجعلنا مكرمين ومحسنين إلى جيراننا وأضيافنا . وأستميحكم عذرا عن الإطالة . وشكر الله سعيكم .
اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعا مرحوما وتفرقنا من بعده تفرقا معصوما ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيا ولا محروما . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العلمين ) .
إعداد الدكتور : صلاح الدين عباس شكر
ألقيت هذه المحاضرة في منتدى حي بئر عثمان رضي الله عنه ، مجلس الشيخ : عبد الغني حسين . في المدينة المنورة .
في يوم الإثنين 7 / 11 / 1430ه . الموافق 26 /10 /2009 م .
وسوم: العدد 679