تهافت أكذوبة الغرانيق!
تسربلتْ عبر الكتب التراثية قصة مكذوبة؛ تُعرف بـــ"قصة الغرانيق" رواها غير واحد من كتَّاب السيرة، وأشار إليها غير واحد من المفسرين، وهو قصة ظاهرة التهافت ينقصها قليل من التمحيص ليفضح كذبها، فهي –لوْ صحَّتْ- لنقضتْ عصمة النبيّe في تبليغ رسالات ربه، لذلك لم يتردد ابن اسحاق -رضي الله عنه- حين سئل عنها؟ فقال: إنها من وضع الزنادقة.
من أسف؛ فقد صدَّق القصة الغرنوقية الجاهلون بالإسلام الحنيف، والغافلون عن مقام النبوة، وقد تلقَّفها المستشرقون من ألسنتهم وكتاباتهم بحفاوةٍ بالغة، واعتمدوها، فتاجر بها المستشرق الدنماركي/ بوهل، والمستشرق الهولندي/ شاخت، والمستشرق موير، وبروكلمن، ومنتجمري وات، وغيرهم؛ دون حجةٍ بيِّنة، ولا دليلٍ قاطع؛ سوى استنادهم إلى آراء متهافتة وردت عند بعض المفسرين قليلي الفهم، مع أن القصة واضحة البطلان، وقد تعرض الأئمة الثقاة لها بالنقد من قديم الزمان وحتى عصرنا الحاضر، لِما فيها من القدح في عصمة النبيe لا سيما في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بأمور الوحي والتبليغ والاعتقاد، وجواز أن يجري الكفر على لسانه، وأن يزيد في القرآن ما ليس منه، وأن يكون للشيطان عليه سبيل، وحينئذ ترتفع الثقة بالوحي جملة، وينتقض الاعتماد عليه بالكلية، وينهدم أعظم ركن من أركان الشريعة، وهو ما يريده أعداء الدين.
خلاصة قصة الغرانيق المكذوبة: أنَّ النبيّe لمَّا رأى تجنُّب قريش إياه، وأذاهم لأصحابه؛ تمنَّى ألاَّ ينزِل عليه شئ ينفِّرهم منه، فدنا من قومه ودنوا منه، فجلس يوماً في نادِ من تلك الأندية حول الكعبة، فقرأ سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى: "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى"(النجم 19,20) فقرأ بعد ذلك: "تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى" ثم مضى وقرأ السورة كلها وسجد في آخرها وهنالك سجد القوم جميعاً، وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبيّe وقالوا: قد عرفنا أن الله يحي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، أما إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك، وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم، وفشا الأمر في الناس حتى بلغ الحبشة، فعاد المهاجرون وقالوا: عشائرنا أحب الينا، فلما كانوا دون مكة؛ لقوا ركباً من كنانة، فسألوهم فقالوا: ذكر آلهتهم بخير فتابعه الملأ، ثم ارتدَّ عنها، فعاد لشتم آلهتهم فعادوا له بالشر".
وتقول القصة الغرنوقية المفتراة: إنما ارتدَّ محمَّدe عن ذِكر آلهة قريش بالخير لأنه كبر عليه قول قريش: أمَا إذ جعلتَ لآلهتنا نصيباً فنحن معك، ولمَّا أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض النبيe سورة النجم فقال جبريل: أوجئتك بهاتين الكلمتين؟ مشيراً إلى "تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى" فقال النبيe: قلتُ على الله ما لمْ يقل، ثم أوحى الله إليه: وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً {لإسراء 73– 75) فعاد يذكر آلهة قريش بالشر ويسبهم، وعادت قريش لمناوأته وإيذاء أصحابه".
حجج مؤيدي القصــة
الذين حاولوا تسويغ هذه القصة الغرنوقية؛ استندوا إلى الآيات: وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ (الإسراء 73) وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ" (الحج 52، 53).
وفسَّروا كلمة "تمنَّى" في الآية بمعنى قرأ، وفسرها آخرون بمعنى الأمنية، وذهب هؤلاء وأولئك، وتابعهم المستشرقون إلى أنَّ النبيe بلغ منه أذى المشركين لأصحابه، حتى اضطر إلى الإذن لهم في الهجرة الى الحبشة. ولمَّا كان حريصاً على إسلامهم ونجاتهم من عبادة الأصنام؛ تقرب إليهم وتلا عليهم سورة النجم، وأضاف إليها حكاية الغرانيق، فلما سجد؛ سجدوا معه وأظهروا له الميْل لاتباعه؛ مادام قد جعل لآلهتهم نصيباً مع الله!
دفع هذه الحجج
أولاً: أسباب عودة المهاجرين من الحبشة
- السبب الأول: إسلام عمر بن الخطاب، فالمهاجرون إلى الحبشة عادوا إلى مكة، لإسلام عمر بن الخطاب؛ الذي أسلم بعد هجرتهم بقليل، ولم يخفِ إسلامه، ولم يرضَ عن استخفاء المسلمين بشعاب مكة يقيمون الصلاة بعيدين عن أذى قريش، بلْ واجه قريش، وصلى عند الكعبة، وصلى المسلمون معه.
- السبب الثاني: ثورة الحبشة؛ فقد اشتعلتْ ثورة بالحبشة على النجاشي بعدما أبدى تعاطفه مع المسلمين في مواجهة قريش.
ثانياً: الاحتجاج بالآيات مقلوب
احتجاج المحتجين من كتَّاب السيرة والمفسرين بالآيات: وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ (الإسراء الآيه 73) وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ" (الحج 52، 53) هو احتجاج متهافت، يكفي أن نذكر من الآيات الأولى قوله تعالى: وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً" (الإسراء 74) لنرى أنَّ الله ثبَّت رسوله e، فلمْ يركن إلى المشركين، ولمْ يفعل، ولو أنه فعل لأذاقه الله ضعف الحياة وضعف الممات.
إذاً؛ فالاحتجاج بهذه الآيات احتجاج مقلوب، فقصة الغرانيق تجري بأنَّ النبيّe ركن إلى قريش بالفعل، وأن قريش قتنته بالفعل، فقال على الله ما لم يقل، بينما الآيات هنا تفيد أن الله تعالى ثبته فلم يفعل، فإذا ذكرت كذلك ان كتب التفسير وأسباب النزول جعلت لهذه الآيات موضعاً غير مسألة الغرانيق، رأيت ان الاحتجاج بها في مسألة تتنافى مع عصمة الرسل عليهم السلام في تبليغ رسالاتهم، وتتنافى مع تاريخ مُحمَّدe كله احتجاج متهافت وسقيم.
ثالثاً: تهافت القصة علمياً
إنَّ تمحيص القصة تمحيصاً علميا؛ يثبت عدم صحتها، وأول ما يدل على ذلك تعدد الروايات فيها، فقد رويت على أنها: تلك الغرانيق العلا وان شفاعتهن لترتجى. ورواها بعضهم: الغرانقة العلا إن شفاعتهم ترتجى. وروى آخرون: إن شفاعتهم ترتجى دون ذكر الغرانقة أو الغرانيق. وفي رواية رابعة: وانها لهي الغرانيق العلا. وفي رواية خامسة: وانهن لهن الغرانيق العلا وان شفاعتهم لهي التي ترتجى. وقد وردت في بعض كتب الحديث روايات أخرى غير هذه الروايات الخمس، وهذا التعدد في الروايات يدل على أن الحديث موضوع، وأنه من وضع الزنادقة كما قال ابن اسحاق، وأن الغرض منه التشكيك في صدق تبليغ النبيّe رسالات ربه.
رابعاً: سياق سورة النجم يأباها
دليل أقوى وأقطع؛ أنَّ سياق سورة النجم، لا يحتمل مسألة الغرانيق، فالسياق يجري بقوله تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى. أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى. إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى" (النجم 18- 23).
هذا السياق صريح في أن اللات والعزى أسماء سمَّاها المشركون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، فكيف يحتمل أنْ يجري السياق بما يأتي: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلا ان شفاعتهن لترتجى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى إنْ هي إلاَّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.
إنَّ في هذا السياق مِن الفساد والاضطراب والتناقض، ومِن مدح اللات والعزى ومناة الثالثة الآخرى وذمها في أربع آيات متعاقبة ما لا يسلِّم به عقل، ولا يقول به من له أدنى تأمل في الكلام، فضلاً عن فصحاء العرب وبلغائهم الذين كانت الكلمة بضاعتهم، وحديث مجالسهم وأسواقهم، فهل كان يخفى عليهم مثل هذا الكلام التناقض؟!
خامساً: الحجة اللغوية
حجة لغوية؛ ساقها الإمام/ محمد عبده- حين فنَّد قصة الغرانيق تلك؛ أنَّ وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق لمْ يرِد في نظمهم ولا في خطبهم، ولمْ ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جارياً على ألسنتهم، وإنما ورد الغرنوق والغرنيق على أنه إسم لطائر مائي أسود أو أبيض والشاب الأبيض الجميل ولا شئ من ذلك يلائم معنى الآلهة أو وصفهم عند العرب.
سادساً: صدق رسول اللهe يعارض القصة
استحالة قصة الغرانيق هذه من حياة الرسولدe نفسه؛ فهو منذ طفولته وشبابه لم يُجرَّب عليه الكذب قط؛ حتى سمِّيَ الأمين، وكان صِدقه أمراً مسلَّماً به عند الناس جميعاً حتى إنَّ قريشاً كانت تقول له: أنتَ عندنا غير متهم، وما جربنا عليك كذباً قط.
فالرجل الذي عرف بالصدق في صلاته بالناس منذ طفولته؛ كيف يُصدَّق أنه يقول على ربه ما لمْ يقل، هذا أمر مستحيل، يدرك استحالته الذين درسوا تلك النفوس المؤمنة المطمئنة التي تعرف الصلابة في الحق، وكيف ترى يقول مُحمَّدe: لوْ وضعتْ قريش الشمس في يمينه والقمر في شماله على أنْ يترك هذا الأمر أوْ يموت دونه ما فعل، ثم يقول على الله ما لمْ يوح إليه، ويقوله لينقض به أساس الدين الذي بعثه الله به هدى وبشرى للعالمين!!
ومتى رجع إلى قريش ليمدح آلهتهم؟ بعد عشر سنين من بعثته! وبعد أنْ احتمل هو وأصحابه في سبيل الرسالة من ألوان الأذى وصنوف التضحية ما احتمل، وبعد أنْ أعزَّ الله تعالى الإسلام بحمزة وعمر، وبعد أنْ أصبح المسلمون قوة بمكة، وامتدَّتْ الرسالة إلى مختلف أرجاء بلاد العرب وإلى الحبشة وغيرها. إذاً؛ فلا أصل لمسألة الغرانيق سوى الوضع والاختراع، قامت بهما طائفة الذين أخذوا بالكيد للإسلام بعد إنقضاء الصدر الأول.
سابعاً: إفتراء على التوحيد
أعجب ما في جرأة هؤلاء المفترين؛ أنهم عرضوا للإفتراء في أمّ مسائل الإسلام جميعاً: في التوحيد، أيْ في المسألة التي بُعث الرسولe لتبليغها للناس منذ اللحظة الأولى، والتي لم يقبل فيها منذ تلك اللحظة هوادة، ولا أماله عنها ما عرضت عليه قريش أنْ يعطوه ما يشاء من مال أوْ جاه أوْ سلطان، وعرضوا ذلك عليه حين لم يكن قد اتبعه من أهل مكة إلاَّ عدد يسير.
وما كان أذى قريش لأصحابه ليجعله يرجع عن تبليغ رسالة ربه، فاختيار المفترين لهذه القضية التي كانت صلابة الرسولe فيها غاية ما عُرِف عنه من الصلابة يدل على جرأة غير معقولة، ويدل في الوقت ذاته على أن الذين صدَّقوا ذلك قد خُدعوا فيما لا يجوز أن يُخدع فيه أحد.
ثامنــاً: مصادمة القصة لصريح القرآن، لأنَّ ما تفيده هذه القصة مخالف مخالفة صريحة لآيات كثيرة في القرآن، تنص على أنَّ الله جل وعلا لم يجعل للشيطان سلطاناً على النبيe وإخوانه من الرسل وأتباعهم المخلصين، مثل قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الإسراء 65)، وقوله سبحانه: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} (النحل 99) وأيّ سلطان أعظم من أن يلقي الشيطان على لسان رسولهe هذه العبارة الشركية الصريحة.
هذا عدا عن مصادمتها للآيات الصريحة التي تفيد حفظ الذِّكر الحكيم وصيانته من التحريف والتبديل، والزيادة والنقص، كقوله سبحانه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر 9)، وقوله: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}( فصلت 42)، وقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى}(النجم 3- 4)، ومن المعلوم أنَّ من الأسباب التي يُرد بها الخبر مناقضته الصريحة والواضحة للقرآن.
تاسعاً: أنه قد قام الدليل القطعي، وانعقد الإجماع على عصمة الرسولe مِن جَرَيان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمداً ولا سهواً، أو أن يتقوَّل على الله ما لمْ ينزل عليه، قال تعالى: {قل ما يكونُ لي أنْ أبدله من تلقاء نفسي إنْ أتبع إلا ما يوحى إليَّ} (يونس 15) وقال جلَّ وعلا: {ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين* فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين}(الحاقة 44- 46) والرويات الغرنوقية تناقض تماماً دليل العصمة.
عاشراً: من المعلوم أن مشركي قريش كانوا أحرص الناس على دفع نبوة مُحمَّدe ودحض حجته، والتشكيك في رسالته، والبحث عن أيّ مدخل ينفذوا من خلاله، ولوْ صحت هذه القصة لكانت من الشهرة والذيوع واستمساك المشركين بها ما يغنيهم عن تكلف المشاق، وبذل المهج والأرواح، ولوجدوا بها الصولة على المسلمين، ولتسببت في إحداث فتنة لكثير ممن أسلم، ومع ذلك لم يروَ عن معاندٍ فيها كلمة، ولم يحكِ أحد في هذه القصة شيئًا؛ مما يدل على بطلانها.
حادي عشر: أن الحديث المروي من طرق متعددة في: (أنَّ النبيe سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) ليس في هذه الطرق أيّ ذكر لقصة الغرانيق، ولو كانت صحيحة لنقلت عبر هذه الأسانيد.
ثاني عشر: أنه مع ضعف هذه الروايات وانقطاع أسانيدها، فإنَّ الاضطراب الحاصل في متنها واختلاف كلماتها أمر بيِّن ظاهر، فقائل يقول: إن ذلك حصل منه -عليه الصلاة والسلام- وهو في الصلاة، وآخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سِنةٌ من نوم، وآخر يقول: بل حَدَّثَ نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه وإن النبيe لمَّا عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبيe قرأها، فلما بلغ النبيe ذلك، قال: والله ما هكذا أنزلت، إلى غير ذلك من اختلاف الرواة الذي يضعف به الحديث لاضطرابه وإنْ صح سنده، فكيف إذا اجتمع مع اضطراب المتن ضعف السند؟!
ثالث عشر: القصة ليس لها سند، وقد ضعَّف الحفَّاظُ سندها ومتنها، وقالوا: إنها لا تصح شرعاً ولا عقلاً بهذه الكيفية، وقد انتفض القاضي عياض حين رأى هذا الركام الإلحادي في أكذوبة الغرانيق يخدع بعض من سلَّمتْ قلوبهم، وبالغوا في إحسان الظن بكل رواية لاسيما رواية مَن لهم رنين أسماء في سِجل العلم الإسلامي، فقبلوا هذه الروايات، أوْ أُلصِقتْ بأسمائهم فقبلها من بعدهم ممن يرى فيهم أسوة الاقتداء بهم، وبين من يتعالى بالتحديث، فيجعل همه في تلقي العالي والنازل من الأسانيد، ولا ينظر إلى المتون والنصوص وموافقتها لأصول الإيمان ودعائم العقيدة أوْ عدم موافقتها لذلك. كما انتشرت على ألسنة المفسرين الجمَّاعين للغث والسمين، والغثاء والزبد، والخالص والمشوب، والصحيح والسقيم، والإسرائيليات الكاذبة التي وردت على ألسنة المؤرخين اللمَّامين من حاطبي الظلام الذين لا يبالي أحدهم أقبضتْ أيدهم على صل وعقرب أوْ على لؤلؤوة وعقد من ذهب!! لكن عياض أخذ يفتش ويبحث ويناقش ويقيس ويزن، وينظر ويبرهن حتى أتى على جميع روايات الأكذوبة البلهاء فأمطرها وابلاً من سهام نقده، وأنزل عليها صيِّباً مِن سماء رسوخه في معرفة علوم النقد رواية ودراية حتى زيفها وبهرجها. وقد ردها عياض واستدلَّ على بطلانها بأنَّ ذلك لو وقع لارتدَّ كثير من المسلمين، وأن الشيطان لا سبيل له ولا سلطان على عباد الله المخلصين، وأن النبيe معصوم من الزيادة والنقص في الوحي". بلْ قال ابن خزيمة: إنها من وضع الزنادقة. وقال البيهقي: "هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل". وقال أبو بكر ابن العربي: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، وكذا قول عياض هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لمْ يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك كمال واهية، كما أنَّ القرآن حق من عند الله تعالى لا يلتبس مع غيره. قال وقد بيَّن البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذِكره إلاَّ طريق سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله، وقوله: "فيما أحسب"! فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه، ثم رده من طريق النظر بأنَّ ذلك لوْ وقع لارتدَّ كثير ممن أسلم، قال ولم ينقل ذلك" انتهى. وقال الرازى: "أهل التحقيق قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، ونقل عن الحافظ ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة". وقال ابن حزم في كتاب "الفصل في الأهواء والنحل " (2/311): "وأمَّا الحديث الذي فيه: (وأنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى) فكذب بحت موضوع، لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذْ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد" اهـ. قال: وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه ولا ذِكره لقوة ضعفه وكذبه. وقال ابن كثير في تفسيره: "قد ذكر المفسرون قصة الغرانيق، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح". اهـ.
قال أثير الدين أبي حيان في تفسيره (البحر): هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، وإن رواتها مطعون عليهم، وليس في الصحاح ولا في التصانيف الحديثة شيء مما ذكروه، فوجب إطراحه، ولذلك نزَّهتُ كتابي عن ذكره فيه. والعجب من نقل هذا، وهم يتلون في كتاب الله تعالى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم 1: 4). وقال تعالى (ولوْ تقوَّل علينا بعض الأقاويل). وقال تعالى (سنقرؤك فلا تنسى). وهذه نصوص تشهد بعصمته صلوات الله عليه. وأمَّا من جهة المعقول؛ فلا يمكن ذلك لأنَّ تجويزه يؤدي إلى تجويزه في جميع الأحكام والشريعة، فلا يؤمَن فيها التبديل والتغيير، واستحالة ذلك معلومة. قلنا: وهذا الذي ندين اللهَ به ونعتقده، ونرجو من كرم الله تعالى أن يثبِّتنا عليه حتى نلقاه، وهو وليُّ التوفيق". وقال الشوكاني: "ولم يصح شيء من هذا، ولا يثبت بوجه من الوجوه". وقال المطيعي: "هذه الرواية أدخلها على الاسلام يهودي، وذكرها ابن سعد في الطبقات عن رجل يُدعى ابن حنطب ليس له صحبة، والطبري يرويها عن كعب القرظي كان أبوه من بني قريظة ... قال المطيعي: ومن هنا ندرك أن هذه الرواية لم يجرؤ واحد على إسنادها لأحد الصحابة رضوان الله عليهم، وربما تكون قد دُسَّتْ من طريق بني قريظة، وكان إرسالهم إياها عن طريق ابن حنطب، وابن كعب". وقال الشنقيطي: "اعلم: أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعاً، ودلالة القرآن على بطلانها لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج، وصرَّح بعدم ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب". وهذا هو مذهب أكثر المفسرين والمحدثين الأكابر؛ كالجصاص، وابن عطية، وأبو حيان، والسهيلي، والفخر الرازي، والقرطبي، وابن العربي، والآلوسي، وأبو السعود، والبيضاوي، والقاسمي، والشنقيطي، والمنذري، والطيبي، والكرماني والعيني، وغيرهم.
ولولا الرغبة في الاختصار؛ لاستعرضنا هذه الروايات وعِللها، وكلام أهل العلم عليها على وجه التفصيل، ومن أراد الاستزادة حول الروايات والطرق؛ فليرجع إلى كتابنا "أزمة الخطاب السلفي"، وأيضاً: كتاب الشيخ الألباني: "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق"، وكتاب "التحقيق في قصة الغرانيق" لأحمد بن عبد العزيز القصير.
ابن تيمية يدافع عن قصــة الغرانيق!
عرض ابن تيمية لقصة الغرانيق في مجموع الفتاوى(10/290) في صورة استطرادية يعوزها التحقيق المتأني، والمستوعِب للأدلة والبراهين والأسانيد وتسمية القائلين، ومصادر أقوالهم وآرائهم. وهذا ما قاله ابن تيمية بنصه: (فإنَّ النبي هو المنبأ عن الله، والرسول هو الذى أرسله الله تعالى، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر فى ذلك خطأ باتفاق المسلمين. ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقى الشيطان ويحكم الله آياته؟
هذا فيه قولان، والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك، والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة فى سورة النجم بقوله (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى) وقالوا إن هذا لم يثبت، ومن علم أنه ثبت قال: هذا القاه الشيطان فى مسامعهم ولم يلفظ به الرسول، ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا.
وقالوا فى قوله (إلا اذا تمنى القى الشيطان فى أمنيته) هو حديث النفس!! وأمَّا الذين قرروا ما نقل عن السلف، فقالوا هذا منقول نقلاً ثابتاً لا يمكن القدح فيه، والقرآن يدل عليه بقوله (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى امنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادى الذين امنوا إلى صراط مستقيم). فقالوا: الاثار فى تفسير هذه الآية معروفة ثابتة فى كتب التفسير والحديث والقرآن، فإن نسخ الله لما يلقى الشيطان وأحكامه آياته إنما يكون لرفع ما وقع فى آياته وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها، وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم إنما يكون اذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا فى النفس". انتهى.
كذلك؛ اعتمدها مؤسس الوهابية الغبي، وأكدَّ وقوع الحادثة، وردَّ عليه الشيخ/ محمد الغزالي في كتابه (تراثنا الفكري) وألجم ابن عبد الوهاب بلجام من نار!!
ردود العلماء على ابن تيمية
الغريب في الأمر؛ أنه بعد مرور القرون الطوال على تفنيد قصة الغرانيق، ودحض العلماء لها بالحجج الناصعة، والبراهين الساطعة؛ جاء (ابن تيمية الحراني) في القرن السابع ليؤكدها، ويدافع عن وجودها بأسلوبٍ ملتو، ومنطق فاسد!
ترى؛ أين الحماس الذي يدَّعيه ابن تيمية في الدفاع عن العقيدة، وحمايتها من شوائب الفلسفات؟ وأين الشعارات الكبيرة والعناوين الفضفاضة التي تغنَّى بها طويلاً، وصدَّعنا بها كثيراً في كتبه ورسائله، عن السلف والسلفية، ومنهج السلف، ومذهب السلف، واعتقاد السلف ... إلخ!
هل غابتْ عنه آراء السلف في قصة الغرانيق؟ أمْ أنَّ السلف عنده ليسوا سوى رصاصة يطلقها على مَن يخالفه في الوقت الذي يريد؟!
المضحك أيضاً؛ أن ابن تيمية عندما أراد أنْ يبرهن على صحة رأيه؛ لجأ إلى التأويل، والقول بالمجاز؛ مع أنه عاش طوال حياته ينكِر المجاز، وينفي وقوعه، ويصف القائلين به بالجهل وعدم الفهم ... ويلٌ ثمَّ ويلٌ للمطفِّفين!
وهذا يدل على أن الطامة الكبرى في دفع ابن تيمية وأمثاله إلى التأويلات في قصة الغرانيق؛ تكمن في الروايات الباطلة، تلك الروايات التي فرضت نفسها، ثمَّ فرضت وقوع القصة بمفاسدها وأخطارها على أصل أصول الايمان في العقيدة من جميع جوانبها.
الحــق أقـــول: لقد فنَّد العلماءُ المحققون كلامَ ابن تيمية، واتهموه بالخلط المكشوف، والتخبط الشديد، نكتفي هنا برأي العلاَّمة/ محمد جمال الدين القاسمي- الذي أوضح في تفسيره (محاسن التأويل): في قوله (إلا إذا تمنَّى) أيْ رغب في انتشار دعوته، وسرعة علوّ شريعته، ثم قال في قوله (ألقى الشيطان في أمنيته) أيْ بما يصد عنها ويصرف المدعوين عن إجابتها، ثم قال: هذا هو الصواب في تفسير الآية، وهي غنية عن التطويل في التأويل، لولا ما أحوج المحققين إلى رد ما دسه بعض الرواة هنا من الأباطيل.
ثم ساق القاسمي كلام ابن تيمية من فتاويه، ثم اعترض على رأي ابن تيمية، ونقده، فقال: وفي كلام ابن تيمية نظر من وجوه:
أولاً: دعواه أن المأثور يوافق القرآن؛ فإنه ذهاب إلى أن الإلقاء إلقاء في الآيات، ولا تدل عليه الآية، لا مطابقة ولا إلتزاماً، بلْ القول بذلك ينافي التنزيل منافاة النار للماء.
ثانيا: دعواه أن تلك الرواية نقلها ثابت لا يمكن القدح فيه، فقد قدح فيها مَن لا يحصى مِن المتقدمين والمتأخرين، ويكفي أنَّ تلميذه ابن كثير قال: قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، وتعداد طرقها بعد ضعف أصلها لا يفيد، وهذه شبهة يعتمدها كثير من الواقفين مع الروايات يظنون أن الضعيف بكثرة طرقه يقوى، والحال أن الضعيف ضعيف كيفما جاء.
ثالثاً: اعتراف ابن تيمية أن السؤال وارد على تقدير ثبوتها وإلقاء الشيطان ذلك في مسامعهم؛ مما يبرهن أن فيها مغامز تنبذها العقول كما نبذتها صحة النقول.
ومن الذين فنَّدوا مزاعم ابن تيمية؛ الشيخ/ أحمد شاكر، الذي أوضح أنَّها "قصة باطلة مردودة، كما قال القاضي عياض والنووي -رحمهما اللهـ وقد جاءت بأسانيد باطلة، ضعيفة، أومرسلة، ليس لها إسناد متصل صحيح، وقد أشار الحافظ في الفتح إلى أسانيدها، ولكنه حاول أن يدَّعي أن للقصة أصلاً لتعدد طرقها، وإنْ كانت مرسلة أو واهية، وقد أخطأ في ذلك خطأ لا نرضاه له، ولكل عالم زلة، عفا الله عنه".
ومن الذين فنَّدوا كلام ابن تيمية -أيضاً- الشيخ/ محمد الصادق عرجون- في كتابه (مُحمَّد منهج ورسالة) حيث قال: ابن تيمية يأبى إلاَّ الإمعان في إثبات هذه الأكذوبة، وإسناد إثباتها إلى السلف، فعندما يقول ابن تيمية: "والمأثور عن السلف يوافق القرآن"، دون أن يذكر مَن مِن السلف أُثِر عنهم قصة الغرانيق الكاذبة؟ وما طريق ثبوت ما نقلوه؟ والسلف هم أصحاب النبيّ وهم عشرات الألوف والتابعون وهو ألوف الألوف وتابعوهم من أهل القرون الثلاثة الذين شهد بخيرتهم الرسول على سائر الأمة، دون أنْ يعيِّن ابن تيمية موضع الموافقة من القرآن، ويبيِّن وجهها.
إن روايات القصة كلها مراسيل، وليس فيها حديث قط مُسند إسناداً متصلاً إلى رسول الله أنه أخبر بذلك عن نفسه، وجميع مراسيل الرواية واهية واهنة، كما قرر ذلك علماء الأمة، بلْ ثبت في بعض أسانيدها أكذب الكذابين.
وأمَّا رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، فقد دخلها الشك بقول سعيد: (فيما أحسبُ عن ابن عباس) وهذا الشك ألحق هذا المرسل بأخواته وهناً وضعفاً، فلمْ تبقَ له قوة الاحتجاج به عند من يقول بالاحتجاج بالمرسل، ولا عند من لا يقول بالاحتجاج به.
فيا ضيعة الإسناد الذي هو من أفخر مفاخر الأمة الاسلامية، ويا ضيعة ثبوت النقل، ويا ضيعة السنَّة النبوية؛ إنْ كان نقل هذه الأقصوصة الخبيثة في مراسيلها الواهية، هو النقل الثابت الذي لا يمكن القدح فيه.
أمَّا قول ابن تيمية: والقرآن يدل على النقل الثابت الذي لا يمكن القدح فيه بقوله (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاَّ إذا تمنى). فلا توجد في هذه الآيات الدلالة على النقل الثابت ثبوتاً لا يمكن القدح فيه كما يزعم ابن تيمية، فالآيات ليس فيها رائحة دلالة على شيء من قصة الغرانيق من قريب أو بعيد، ولولا ما افتراه الزنادقة، وقبِله البلَّه المغرورون من روايات أسباب النزول، ورووه في مراسيل كسيحة ألصقوها إلصاقاً بهذه الآيات، وحملوها على أسماء بعض أهل العلم؛ ما كان للآيات الكريمات صلة بهذه الأقصوصة، فضلاً عن أن تدل عليها.
وقد فسَّر الآيات الكريمات كثير من جهابذة علماء الاسلام في تفاسيرهم المتداولة بين الأمة، ولم يظهر لهم حاجة قط إلى إلصاق القصة بتفسير الآيات، ومن هؤلاء المفسرين الجهابذة: أبو حيان في تفسيره (البحر) وهو معاصر لابن تيمية، والإمام الشوكاني في تفسيره (فتح القدير)، ومنهم الإمام/ أبو بكر بن العربي في (أحكامه).
قال البغوي في تفسير الآية: (إلا إذا تمنى) يعني أحبَّ شيئاً واشتهاه، وحدَّث به نفسه مما لم يؤمر به ألقى الشيطان في أمنيته –يعني مراده- وهذا التفسير يردّ على ابن القيِّم زعمه أنَّ السلف كلهم على تفسير (تمنى): تلا وقرأ، ثمَّ قال البغوي، وعن ابن عباس قال: وما من نبيّ إلاَّ تمنى أنْ يؤمن قومه.
نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق
هذا؛ وقد ردَّ الشيخ الألباني على ابن تيمية ردوداً مفحمة في هذه المسألة، وكتب رسالة في إبطال هذه القصة بعنوان: "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق"، وقال في مقدمته لها: إنه سئل عن رأيه في حديث الغرانيق الذي اختلف فيه قول حافظين كبيرين، هما: ابن كثير الدمشقي، وابن حجر المصري، فقد أنكره الأول وقواه الآخر، وطُلِبَ منه الجواب عليه، فقال: "فأجبتُ السائل بأنه لا يصح، بلْ هو باطل موضوع، ثم قال: "فشرعتُ متوكلاً على الله الغفور ـفي جمع طرق تلك القصة من كتب التفسير والحديث، وبينتُ عللها متناً وسنداً، ثم ذكرتُ قول الحافظ ابن حجر في تقويتها، وتعقبته بما يبين وَهْيَ ما ذهب إليه، ثم عقّبتُ على ذلك بذكر بعض البحوث والنقول عن بعض الأئمة الفحول ذوي التحقيق في الفروع والأصول، تؤيد ما ذهبنا إليه من نكارة القصة وبطلانها، ووجوب رفضها، وعدم قبولها، تصديقاً لقوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(الفتح الآية: 9) فجاءت رسالة فريدة في بابها، قوية في موضوعها، ترفع حيرة الأخ المؤمن، وتطيح بشبهة الملحد الأرعن، وقد سميتها: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق".
وقال الألباني: "قد يقال: إن ما ذهبتَ إليه من تضعيف القصة سنداً وإبطالها متناً يخالف ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر من تقويتها كما سبق الإشارة إليه آنفا، فالجواب: أنه لا ضير علينا منه، ولئن كنا خالفناه فقد وافقنا جماعة من أئمة الحديث والعلم" .
أمَّا الحديث المروي من طرق صحيحة في البخاري وغيره عن عدد من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة: (أن النبيَّ e سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) فقد اقتصروا في روايتهم على هذا الجزء الصحيح من القصة، وليس فيه أي ذكر لقصة الغرانيق، فأين هذا مما يزعمه بعض المفترين من إيهام الناس أن قصة الغرانيق بما فيها من فرية وكذب ذكرها الإمام البخارى فى صحيحه؟!
الخلاصــــة؛ أن قصة الغرانيق باطلة، وأنها مما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية الصحيحة، وهي تخالف حقائق تواريخ أحداث ووقائع السيرة المشرفة، لأنها مذكورة في سياق من ساقها في آيات سورة النجم، وسورة النجم كما هو معلوم تتحدث عن المعراج في رحلة الإسراء والمعراج للنبيe والتي كانت بعد السنة العاشرة، أمَّا قصة الغرانيق هذه فإن رواياتها تبين أنها كانت فى السنة الخامسة للبعثة، وقت هجرة المسلمين الأولى للحبشة، وهذا مما يؤكد بطلان تلك القصة ويحقق كذبها لأنها تخالف وتعارض التواريخ لأحداث السيرة النبوية الصحيحة، كما أنه يستحيل شرعاً وعقلاً أن يلقي الشيطان على لسان نبيهe هذه الألفاظ الشركية الفاسدة، وكل الروايات الواردة فيها معلَّة إما بالإرسال أو الضعف أو الجهالة، وليس فيها ما يصلح للاحتجاج به، لاسيّما في مثل هذا الأمر الخطير، الذي يمس مقام نبينا الكريمe، الذي قال الله ـ عز وجل عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم من الآية 3: 4).
أخيـــراً؛ إنَّ الذي دعانا للرد على أنصار قصة الغرانيق؛ لئلاَّ يقع في خطئها مَن يتمسك بالتقليد، والاغترار بهالات الأسماء، فالبحث العلمي لا يقف هيَّاباً لهالات الأسماء، وإنما يقف مع الحجة والبرهان، (قلْ هاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين)!
وسوم: العدد 681