المفهوم الحضاري لتوظيف المواهب

ـ وهب الله تعالى الهبات والعطايا لحِكَم يريدها سبحانه فقد يمنح الإنسان الذكاء فيكون مدبراً من طراز متميز وربما صار من دهاة السياسة والتخطيط

ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجع أصحاب المواهب ويلفت الأنظار لهم لتوظيف ذلك في خدمة الإسلام

قسّم الله تعالى المواهب، كما قسّم الأرزاق؛ فكما هناك فقير وغني ومتوسط، وفيها الملياردير والذي يعيش تحت خط الفقر. كذلك وهب الله تعالى الهبات والعطايا الأخرى، لحكم يريدها الله تعالى، وهو أرحم الراحمين، والعليم بكل شيء، وهو على كل شيء قدير.

فقد يهب الله الإنسان قوة في البدن، يستطيع أن يغالب بها أقوى أقوياء الأرض، وربما كان مصارعاً متميزاً، أو ملاكماً أسطورة، كما يقولون. وقد يمنح الله الإنسان الذكاء، فيكون مدبراً من طراز متميز، وربما صار من دهاة السياسة والتخطيط، والقدرة الفائقة في فن التدبير. واحد من البشر منحه الله الخط الجميل، والريشة الأنيقة، والإبداع الفني، حتى صار نسيجاً وحده في عصره، ومن الناس من أعطاه الله موهبة الأدب، فبات شاعراً لا يشق له غبار، أو روائياً قل نظيره، أو مسرحياً ندر مثيله، أو كاتباً تعقد عليه الأنامل، إذا كتب مقالة أدهش من يقرأ له، وإذا كتب تحليل ظاهرة في السياسة أو الاجتماع، أشَر على تميز لافت، وموهبة فائقة، وربما مُنح من سعة الخيال، وبُعد النظر، وقوّة التصوّر، ما يجعله من الفلاسفة أو المفكرين الكبار.

وهناك صنف من البشر، آتاهم الله، موهبة فن القيادة – وغالباً ما تظهر في سن مبكّرة، تظهر لمن يرقب السلوك، ويرصد المواهب - من خلالها تكون له القدرة على سوس الناس وتحريكهم، وتفجير طاقاتهم، وتوظيف قدراتهم، وتنظيم شؤونهم، وترتيب أوضاعهم، لخدمة مشروع ما يرسم معالمه، ويبلور أهدافه، ويخطط لنجاحه.

ولا ننسى أن من المواهب العظيمة، موهبة الشجاعة، وقوة القلب، فبها يصول ويجول، وينافس وينافح، ويقتحم الصعاب، ويتجاوز الأخطار، ويفتح نوافذ الإغلاق بالجسارة ورباطة الجأش.

المهم مواهب الناس، متعددة ومتنوعة ومتشعبة، تشمل جوانب الحياة جميعاً.

وهذه المواهب الممنوحة من الله، والتي تبرز وتطور، بالرعاية والاهتمام والدربة هي مسؤولية وأمانة (وقفوهم إنهم مسؤولون).

جاء في الحديث الصحيح، الذي رَواه ابنُ حِبَّانَ والترمذيُّ في جامِعِه أنَّ رسولَ الله [ قالَ: «لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ».

توظيف الموهبة

من هنا كان لزاماً أن تستخدم الموهبة في الخير، ويجب أن يوظفها صاحبها، في الفعل الإيجابي، والتكوين النافع، الذي يعود بالخير على الناس، فإن لم يفعل ذلك، صار عامل هدم، وهذه الثنائية، هي التي نراها واضحة جليّة، أثناء فرز المواهب، على منصة الخير والشر، وما بينهما من أحكام وقيم.

فهناك من وهبه الله موهبة الشعر، فيسخرها في الخدود والقدود، والفجور والمجون، وإثارة الغرائز، والنفث المجنون في أطباق الشهوات، والعزف على وتر الشرود بكل أشكاله ومواهبه، فتنظر إلى هذا الشاعر الموهوب المطبوع، الذي هو في عالم الصنعة والتخصص، ربما تجعله في مصاف الكبار من الشعراء، ويستحق أن يسطر اسمه في ديوان العمالقة، من بين أولئك الذين أبدعوا في هذا الجانب، ولكن مما يؤسف له أن هذا القالب الرائع، والأداة الراقية، والوعاء الجميل، والصور المدهشة، والأخيلة التي تدل على مخزون فريد في بابه.. أنتج محتوى فاسداً، ومادة سامة، وعمل عمله في تخريب جيل من الناس، الذين تأثروا بأسلوبه الجميل، وشكّل إنتاجه الأخّاذ، فشربوا كأس عسله الذي في وسطه السم الزغاف.

وشاعر آخر منحه الله نفس الموهبة، واستخدمها في الخير، وكانت سبباً في نشر الفضيلة، وسبيلاً لبث القيم الفاضلة، والأخلاق النبيلة، مع الدخول في دائرة المباح، في السماع للصور الجميلة، والاستمتاع بالأخيلة الرائعة، والاستلذاذ بموسيقى الشعر الرائقة، ذات المعنى الرفيع في النفس.

وهناك شخص منحه الصوت الرخيم، والحنجرة الذهبية، فاستعمل ذلك بقراءة القرآن الكريم، واستخدم موهبته في الإنشاد المنضبط، فشنّف الآذان، وحرّك المشاعر نحو الفضيلة، وحقّق جانب الاسترواح للنفس. وبالمقابل ذاك الذي مُنح نفس الموهبة، ولكن انساق مع الهوى، ليكون عامل هدم في الغناء الماجن، والحفلات الهابطة، والليالي الحمراء، وشتان بين هذا وذاك، وفرق كبير بين الثرى والثريا.

وقلّ مثل ذلك لمن وهبه الله موهبة الرواية، وأذكر أن عالماً ومفكراً كبيراً سئل عن روائي مشهور، وهل يستحق كل هذه العناية والجوائز؟ فأجاب: هذا الأديب بما حباه الله من نعمة الأدب والرواية، هو أكبر من هذه الجوائز، وأثنى كثيراً على أسلوبه الرائع، وموهبته الفذة، وأسلوبه الساحر، ثم قال: ليست المشكلة عند هذا الأديب، في تقويم عمله، من حيث الجانب الفني، واستيفائه لشرائط النجاح المبهر في بابه؛ فهذا أمر مفروغ منه في عالم النقد الأدبي، ولكن المشكلة في المحتوى، فالرجل أديب كبير، ولكنه أثمر وأنتج مصائب وكوارث، فكان نجاحه الأول في عالم الموهبة، سبباً في الدمار في الجانب الثاني من عمله، وهنا تكمن المصيبة، وتكون الكارثة. وقس كل ذلك على المواهب الأخرى، التي تؤكد على معانٍ مهمة، وحقائق مدهشة، في هذا الجانب أو ذاك.

حتى تمضي العربيّة في طريقها الصحيح

وهنا يأتي السؤال المهم، ما الذي ينبغي أن نفعله، تجاه هذه القضية المهمّة؟ وكيف نصنع في ترشيد هذه الظاهرة، حتى تستقيم على عودها، وتمضي عربة المجتمع، في مسارها الصحيح؟ وربما أفتح باب الحوار في هذا، من خلال النقاط الآتية:

- الاهتمام بالمواهب، بعد فرز أصحابها.

- معرفة نوعية الموهبة، والتركيز عليها.

- صقلها بالتدريب والعناية الكافية، حتى يؤهّل أصحابها تأهيلاً علمياً.

- تشجيع أصحابها، بكل صور ذلك.

- التركيز على جانب الإفادة من الموهبة، في جانب الخير، وألا ينزلق صاحب الموهبة، نحو مهاوي الردى، كل ذلك من خلال نظرية تربوية معرفية جامعة شاملة واعية، ونظر سديد، وفكر سليم، وفتوى مستوعبة.

- التفكير العميق، في تحويل هذه المواهب - بعد إعدادها بصورة احترافية – إلى حياة الناس، وعمق المجتمع، حتى تأخذ دورها المؤثر الفاعل في حياة الناس.

- صناعة منظومة تعاون كامل، في هذا الشأن، بين الجهات التي يتعلّق أمرها بهذه القضية، من أولياء الأمر، إلى الدعاة والمربين، إلى أصحاب المواهب، إلى المحاضن التربوية، إلى الجهات الداعمة، وهكذا، وربما أنفع الأشياء في هذا الأمر، تحويله إلى مؤسسة أو مركز، يعنى بهذا الجانب، من الجوانب المهمة في الحياة.

وربما كان من أهم المعاهد التي تعنى بهذا الجانب معاهد إعداد القادة ومراكزها، وكذا الأكاديميات التي تهتم بالتنمية البشرية، وهذا من فقه الواقع، واستعمال أدواته، في صناعة العمل الصالح.

ولو عدنا إلى سيرة رسول الله [ في هذا الجانب، وكيف كان يشجع أصحاب المواهب، ويلفت الأنظار لهم، لتوظيف ذلك في خدمة المشروع الإسلامي الحضاري الشامل، فنجد قوله: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة ) وقال: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داوود) وقال: (نعم الرجل عبد الله). وقال: (اهجهم وروح القدس معك). وقال في فرز المواهب، والتنويه بشأنها للإفادة من أصحابها: (وَلكُل أُمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ هَذِه الأُمّة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح) أخرجه البخاري ومسلم. وقال: في الحديث الصحيح: (خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَبَدَأَ بِهِ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ).

وكانت له رعاية خاصة للموهبين، من الصغر، من أمثال علي - رضي الله عنه - حيث أسلم وهو ابن عشر سنين، وامتاز بشجاعة فائقة وهو في سن الشباب، عندما نام مكان النبي [ ولبس ثوبه رضي الله عنه، فقرّبه النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأحاطه برعاية خاصة، وزوّجه ابنته فاطمة، وكان شجاعًا مقدامًا، عندما كبر، فعن أَبِي بُرَيْدَة رضي الله عنه قَالَ: «حَاصَرْنَا خَيْبَرَ فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْ الْغَدِ، فَخَرَجَ فَرَجَعَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ، فَبِتْنَا طَيِّبَةٌ أَنْفُسُنَا أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ قَامَ قَائِمًا، فَدَعَا بِاللِّوَاءِ وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ، وَفُتِحَ لَهُ».

وسوم: العدد 681