غلطة شعب
من طبيعة الجماعات و الأفراد، مراجعة حساباتها و الوقوف على الخسارة و الربح فيها. و الخسارة و الربح بصورة عامة حصاد عمر، وجه الفائدة في مراجعته، أنها تجعل الإنسان يعرف خطأه و صوابه، فيتجنب الخطأ الذي قد وقع فيه في مرحلة ما من حياته. و ماأكثر التجارب التي قد تكون خاطئة، أو قد تلحق ضرراً، أو تؤدي إلى ضرر يجب تجنبه. و ماأكثر المتضررين الذين لم تغنهم تجاربهم، و قد جعلوا من حياتهم تجربة غير ناضجة، بما اقترفوا فيها،فكانوا عبرة لمن جاء بعدهم، بالرغم من حذقهم و مهارتهم و ادعائهم العريض. و قوله تعالى:" قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل، "42" لايخرج عن السياق". فالخلق كله مبدأه و منتهاه مقيد بالسنن الربانية، و محكوم بالنتائج التي كل مايقال عنها أنها"بماكسبت أيدي الناس" و عليها يعود قوله تعالى:" من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها" و هذا هو القول الفصل في هذا الغلط الذي نتحدث عنه.
و (الغلط) الذي تكرر و يتكرر في سورية،استهلك قرنا من الزمان من حياة السوريين، دون أن يستنهض منهم حمية رجل عارف من أصحاب القرار ، فيؤدي استنهاضه إلى استنهاض حقيقي لأمة بأكملها، و قد كان ذلك هو المطلوب في حينه، و إن كان لم يحدث!!! و كل الذي حدث أن استمر الغلط و تتابع، و تراكم بعضه فوق بعضٍ على شكل تجارب فاشلة ، و كل واحدة من هذه التجارب الفاشلة كانت مقدمة لسابقتها. و هذا أخطر مايكون في هذا الغلط التاريخي الذي تجاوز حددوده الإقليمية، و أصبح خليطا من واقع معقد يحار فيه أهل الرأي، لكثرة مافيه من مشاكل يصعب على الخبار فهمها و تمحيصها.
وقد اتصفت الأخطاء التي وقع فيها السوريون بصفات ثلاث:
أولها- أنها كانت ظاهرة و ملحوظة: و معنى ذلك أنها معروفة من العامة و الخاصة، و غير خافية على أحد. و قد كانت قرارات الفرنسيين في مرحلة الاستعمار صريحة وواضحة. بل و علنية. و منها: تقسيم سورية إلى دويلات طائفية،و إنشاء جيش المشرق على أسس طائفية، كما كانت سياسة الانقلابيين بعد 8/3/1963 طائفية أيضا. و منها: تسريح الضباط السنًّة من الجيش، و قصر العدد الأكبر من طلاب الكلية العسكرية على الطائفيين و قد استمرت تقاليد ذلك. و لم تكن غير مفهومة بحال من الأحوال!!!
ثانيها- أن فيها غبن كثير: و هذا الغبن لاحق بالأكثرية المطلقة من أبناء الشعب الذي حكم عليه بالإقصاء، و بهضم حقوقه، و بالاجتراء على مقدساته، و بإطلاق يد الحزب الواحد في مقدراته، و قد استوى في ذلك المستعمرون و الانقلابيون بعد الاستقلال و قبله، إذ أن النهج الطائفي في البلاد كان متواصلاً، و الهضم و الإقصاء كان مستمراً و كذلك العدوان على المقدسات، و قد كانوا يهدفون إلى جر الشعب إلى المواجهة المسلحة قصد تصفية حسابات طائفية بعضها من موروث العصور الوسطى، و بعضها حديثة.
ثالثها- أنها مرتبطة: و معنى ذلك أنها محصلة صفقات مشبوهة؛ للمصالح الأجنبية يد فيها. و انقلاب الزعيم و هو من صنع مخابراتي بحت، و كذا صفقة التابلاين لاتخرج عن دائرة ذلك. و هي تقيم الدليل على تلك الصفقة، التي امتدت بعد لتصبح حقيقة واقعة، فالمصالح الروسية اليوم هي التي تجعل من الروس يتبعون سياسة الأرض المحروقة في سورية، و ذلك قصد القضاء على الثورة المسلحة فيها، و إعادة الشعب إلى حظيرة النظام، الذي تعهد لروسية بمصالحها الإستراتيجية في سورية. و تعد المصالح الروسية اليوم امتداداً لمصالح روسية القيصرية التي كانت تشكل خطرا مباشرا على المنطقة الشرق أوسطية كلها. و القاعدة البحرية في طرطوس، و القاعدة الجوية في حميميم مقدمة أولية لحزمة من المصالح الخفية و المعلنة، التي يريد الروس تحقيقها في سورية.
المراحل التي مرت بها سورية مابين 1920-2011م:
أولاً- مرحلة الاستعمار: و تمتد من سنة 1920 إلى سنة1946. و هو التاريخ المعلن للاستقلال. و إن كانت أولياتها قد تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. و قد كانت العثمانية التي كانت تمثل الخيمة التي تظلل العرب و الأتراك معا، و الجامعة الإسلامية التي تجمع كلا الشعبين العربي و التركي تتعرضان لمخاطر كثيرة. و كان رأس الحربة في تلك المخاطر، بعث الأقليات، و إثارة النعرات و قد كان ذلك جزءا من السياسة الاستعمارية التي اتبعتها فرنسا في سورية طوال مدة احتلالهالها. و يوميات الأحداث في سورية طوال مدة ربع قرن من الزمان تحكي قصة الاستعمار الفرنسي الذي ما ادخر جهدا من أجل تمكين الطائفيين و تهيئتهم للمراحل القادمة. و قد كان ذلك ينحصر في إجراءين:
الإجراء الأول- يتعلق بالتعليم: فقد عملت فرنسا منذ وقت مبكر على نشر التعليم في مناطق الأقليات. و قد مثل ذلك التعليم في حينه امتدادا للمدارس التبشيرية التي عرفتها المنطقة قبل أكثر من قرنين من الزمان. و قد كان من نتيجة ذلك ظهور النخب المثقفة، التي يمكن أن يعتمد عليها في قطاعات العمل المدني.
الإجراء الثاني- يتعلق بالجيش و القوات المسلحة: و قد عملت فرنسا منذ احتلالها سورية على افتتاح المدارس العسكرية التي تؤهل المتدربين السوريين على وفق التقاليد العسكرية الفرنسية، ليصبحوا ضباطا في قوات المشرق الخاصة، التي أعدتها فرنسا لتصبح الجش العربي السوري بعد الاستقلال!!! و قد كان هذا هو الذي حدث. إذ ماكادت فرنسا تبدأ بجلائها عن سورية حتى برز ضباط كبار في الجيش السوري بعضهم برتبة اللواء، و بعضهم برتبة العميد و ماأكثر العقداء منهم!!! و كلهم لقنوا الثقافة العسكرية الخاصة المشبعة بالثقافة الفرنسية، و تربوا عليها، فضلا عن كون أكثريتهم من أبناء الأقليات.
ثانيا- مرحلة مابعد الاستقلال: و هي تمتد من سنة 1946 إلى سنة 1963، و تعد حقبة الخمسينيات الأكثر أهمية فيها. و لايزال السوريون يذكرونها بشغف ظاهر بسبب ماتوافر فيها من مظاهر الحرية و الديمقراطية و قد اتسمت بسمات أربع:
السمة الأولى: الانقلابات العسكرية: و قد كثرت كثرة ظاهرة، و تخللها دخن كثير، و اضطراب و فوضى، و عبث في المسائل الوطنية و القومية و لاأخلاقية سياسية و عسكرية. و قد كان منها:
انقلاب حسني الزعيم الذي وقع فجر30 مارس /آذار سنة 1949 و استمر إلى 14/8/1949. و لم تتجاوز مدته ثلاثة أشهر و نصف الشهر. و قد وصف بأنه انقلاب طائش، و أنه من صنع المخابرات الأمريكية، و للمصالح الأجنبية يد فيه. انقلاب سامي الحناوي: الذي وقع فجر14 آب/ أغسطس/ سنة1949م و قد كان يهدف إلى إعادة الحكم المدني، و إقصاء الجيش عن السياسة، و الحد من جموح العسكر، الذين أخذوا يتدخلون في الشؤون السورية كلها. انقلاب أديب الشيشكلي الأول: الذي وقع في 19 كانون الأول/ديسمبر1949م. و كل مايقال عنه أنه أعاد البلاد إلى الحكم العسكري وراح يتدخل بكل صغيرة أو كبيرة من شؤون البلاد. انقلاب أديب الشيشكلي الثاني الذي وقع الثلاثين من في كانون الثاني سنة 1951 و قد عمل على ترسيخ جذور الدكتاتورية. و ترسيخ الحكم العسكري و كان واجهته فوزي سلو الذي تم تعينيه رئيسا للدولة. و إن كان الشيشكلي هو الرأس المدبر لذلك. انقلاب تجمع القوى الوطنية في 25 شباط فبراير سنة 1954. و قد قام بهذا الانقلاب ثلة من صغار الضباط و غالبيتهم من الضباط البعثيين، ، و قد نتج عن ذلك الانقلاب عودة الحكم المدني لسورية و إن كان للجيش تأثير كبير فيه. حركة مجلس القيادة العسكرية، التي تبنت مشروع الوحدة مع مصر، التي أعلن عنها رسميا في 22 شباط فبراير سنة 1958. و قد عدت هذه الحركة انقلابا، كون مايسمى بالمجلس العسكري، هو الذي أجرى اتصالاتها ووضع بروتوكولها، بل و أجبر يومئذ رئيس الجمهورية السيد شكر القوتلي على السفر إلى مصر من أجل توقيع اتفاقية الوحدة وقد حدث ذلك فعلا. انقلاب الانفصال الذي وقع في 28 أيلول/ سبتمبر سنة 1961م. و قد قامت به ثلة من الضباط الدمشقيين الذين انقلبوا على دولة الوحدة، و آثروا العودة بالبلاد إلى ماكانت عليه في خمسينيات القرن.
ومابين 1961 و 1963 كانت البلاد السورية تنام و تستيقظ و هي تترقب حركة عسكرية يقوم بها بعض الضباط من أجل العودة بالبلاد إلى حظيرة الوحدة. فيما كان الطائفيون يرقبون الأوضاع بعيون حذرة، و يتطلعون إلى ساعة الصفر، التي ستمكنهم من السيطرة على البلاد، و من تحقيق أهدافهم الطائفية الخاصة بهم و التي كل مايقال عنها: أنها لا وطنية ولا قومية و لا دينية و لا حضارية كذلك.
السمة الثانية-الاغتيالات الشخصية: و قد كانت على درجة كبيرة من الأهمية، و تمثّلت باغتيال ثلاثة من الضباط القادة و هم: المقدم محمد ناصرآمر سلاح الطيران السوري سنة1950 ، و الضابط الأعلى رتبة من أبناء الطائفة العلوية . و المقدم غسان جديد المتهم بإنشاء تنظيم طائفي في الجيش السوري و المتهم بقتل عدنان المالكي سنة 1955. والعقيد عدنان المالكي معاون رئيس الأركان و أحد الشخصيات البارزة، في الجيش السوري و قد اتهم بقتله الحزب القومي السوري، و بسبب من ذلك الاتهام حظرت نشاطات الحزب رسميا و لوحق، و قد نتج عن تلك الملاحقة قتل غسان جديد في لبنان، واستعار المشكلة الطائفية بين العلويين و السنة، و قد مثلت(ثورة الثامن من آذار) الانتصار الحقيقي للعلويين الذين عرفوا كيف يثأرون من السنة في الجيش و القوات المسلحة، و قد أصبحوا غير مرغوب فيهم في ذلك الوقت.
السمة الثالثة-الحزبية البراغماتية: بآفاقها الضيقة، و تسفلها الحضاري، و طيشها و حمقها، و عدم ارتقائها إلى المستوى المطلوب، و طنياً، و قوميا، و دينيا. و المعروف أن أسلوب المهاترات غلب على التعقل و الحكمة، في المواقف السياسية كافة، و أن التناضل بالجنازير كان أسلوبا متبعا بين الأحزاب و قد غلب عليهم عدم احترام الآخر و هذا بدوره قاد إلى نمو المشاعر العدائية بين السوريين. و ماكادت تقوم ثورة الثامن من آذار حتى برزت نظرية الحزب الواحد، و بدلاً من أن يضرب القوم بعضهم بالجنازير في الساحات،أصبحت الجنازير تلف العنق و الرجلين في السجون و المعتقلات و بذلك عدمت سورية وحدتها الوطنية، و أصبحت على شفا جرف هار في علاقتها الداخلية، و قد أصبح السني كبش الفداء في ذلك النهج الحزبي، الذي وجد فيه الطائفيون ضالتهم المنشودة، التي مكنتهم من السيطرةعلى نظام الحكم.
السمةالرابعة- اللامبالاة الشعبية: المجردة من الأبعاد الثلاثة الوطنية و القومية و الدينية، و غير العاقلة، في تعاملها مع الظواهر الاجتماعية و السياسية. التي كثرت في مرحلة مابعد الاستقلال من 1946 إلى 1963م. و قد كانت الطائفية السياسية الظاهرة الأكثر اتساعا في ذلك الوقت، و كان السكوت الشعبي، عن الخطر الطائفي، هو الذي أطمع الطائفيين و زاد في غطرستهم الطائفية. و يعد قتلهم عدنان المالكي و بناؤهم التنظيم الطائفي في الجيش السوري، الأمر الذي يجب ألا يسكت عنه و فضلا عن ذلك فإن قيام دولة الوحدة و سقوطها و التناضل المزري مابين28/9/1961 و 8/3/1963 كان كافيا لمواجهته شعبيا، و عدم ترك الحبل على غاربه للطائفيين ليفعلوا فعلتهم، في سورية كلها، و ليبنوا نظامهم الطائفي الذي كان السبب في كل مايجري في سورية اليوم.
ثالثا- مرحلة حكم حزب البعث: و هي الأطول في التاريخ السوري الحديث، و تمتد من سنة 1963 إلى 2011م. و قد مثلت حالة من البعث الطائفي المنظم، الذي أدى إلى دمار سورية، و إلى إتاحة الفرصة للقوى الأجنبية لتكون صاحبة القرار فيها، و لحرمان شعبها من أن يكون صاحب السيادة فيها، و من أن يجد له طريقا إلى الخلاص،أو أن يحقق أهدافه التي يتطلع إليها. و قد كان اللاعب الرئيس في هذه المرحلة ثلاثة:
أولهم- أمين الحافظ: الذي يعرّف بأنه الشخصية الذي تكاد تجمع الآراء حوله أنه هو المسؤول الأول و الأخير عن إقصاء الضباط السنة من الجيش. وقد تصدر المسؤولية الأمامية في الدولة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها الثنائي(جاسم علوان و محمد الجراح) في 18 تموز/يوليو سنة 1963م) و قد كان وقتها يشغل منصب ووزير الداخلية. و قد أدت مواجهته الانقلابيين و الحكم على أكثرهم بالإعدام إلى ارتقائه منصب القائد الأعلى للجيش و القوات المسلحة، و إلى عزل الفريق لؤي الأتاسي الذي كان وصل إلى منصب القائد الأعلى بعد عزل سلفه زياد الحريري في الحادي عشر من حزيران/ يونيو. من العام نفسه، و ذلك ضمن مسلسل تصفيات خاص للجنة العسكرية يد فيه
و اعتبارا من 18 يوليو/ تموز دخلت البلاد السورية في ديكتاتورية مغلّظة، ووقعت بين فكي كماشة. أحد فكيها الفريق الحافظ، و الفك الثاني يتمثل باللجنة العسكرية التي يتزعمها( الأسد و جديد)، و كانت مهمتها الأولى إقصائية خالصة. و عبر السيد رئيس الجمهورية مضت قوائم التسريح تترى الواحدة تلو الأخرى، و أخذت السنة تفقد مكانها في الجيش و القوات المسلحة، ليحلَّ محلَّها الطائفيون و كان ذلك ديدنهم منذ فجر الانقلاب في 8/3/1963م.
وعندما صحا الفريق الحافظ من غفلته وجد أن القطار قد فاته، و أن المواقع العسكرية الرئيسة قد خلت من أنصاره، و كان عليه أن يواجه مصيره وحيدا، دون أن تراق عليه حتى ولو دمعة من مواطن شريف!!!وذلك في الثاني و العشرين من شباط فبراير لسنة 1966م.
ثانيهم- حافظ الأسد: الشخصية التي تكاد تجمع الآراء حوله أنه هو الذي يتحمل وزر ماحدث في سورية منذ 1963 و إلى اليوم، و أن كل الدماء التي أريقت أو ستراق، يتحمل مسؤوليتها كاملة، فضلا عن النظام الطائفي، الذي وضع لبناته الأولى، و الذي رعاه و أدامه طوال ثلاثين سنة من حكمه سورية، و من كونه صاحب القرار الرئيس فيها. و قد مر في حياته السياسية و العسكرية بست محطات و هذه المحطات هي:
المحطة الأولى: الانسحاب من الجولان و تسليمه لإسرائيل سنة 1967م: و قد كان وقتها وزيرا للدفاع. و إليه ينسب شخصيا إذاعة البيان رقم(66) الذي يعلن سقوط القنيطرة، وذلك قبل أن يصل الجيش الإسرائيلي إلى مشارفها بأربع و عشرين ساعة. و قد أتبع ببيان لاحق يصدر الأمر فيه للقوات العسكرية بالانسحاب الكيفي من الجولان و هذا البيان جعل العقيد أحمد المير قائد الجبهة السورية ينسحب من الجبهة و هو راكب ظهر حمار دون أن يؤاخذ على ذلك من السيد وزير الدفاع. و قد أحصينا الخسائر البشرية في تلك الحرب فوجدنا أن تقديراتها تراوح بين 130 و 125 قتيلا. وقد راج بعد ذلك كلام كثير حول لقاء عقده حافظ أسد في وزارة الدفاع البريطانية سنة 1966، مع ضباط إسرائيليين، و أنه في ذلك الاجتماع قبض (300) مليون دولار ثمن منطقة الجولان بالكامل. و هذه الصفقة ذكرها مصطفى خليل البريز في ملفات الجولان، و ذكرها إسماعيل فهمي وزير خارجية مصر في مذاكراته و ذكرها ضباط أمنيون سوريون كثيرون. و منهم المقدم توفيق برو الذي هرب من البلاد بسبب هذه المعلومة الخطيرة.
المحطة الثانية: مؤامرة التصحيح و الوصول إلى المسؤولية الأمامية في الحزب و الدولة: و كان سيناريو المؤامرة يقول بخلاف ناشب بين القيادتين العسكرية و الحزبية، و كان و قتها قطبا الصراع في ذلك الخلاف يتمثل بالثنائي المتشاكس( صلاح جديد و حافظ أسد) و كان يتمحور حول الرجلين قادة عسكريون و حزبيون. و قد نجح و قتها الحزبيون، بالفوز في الانتخابات الحزبية. و بإصدار القرار التاريخي بإعفاء السيد وزير الدفاع من منصبه ، الأمر الذي أدى و على الفور إلى إذاعة البيان رقم واحد، و إلى اعتقال القيادة الحزبية كلها، و ذلك في 16/11/1970، و قد أطلق على هذه المؤامرة في حينها اسم ( الحركة التصحيحية). و قد اقتضى السيناريو فيها مسرحية هزلية يكون أبطالها إمعات من المقربين، أعقبها و خلال مدة قصيرة جدا انتخابات رئاسية و دستورية فاز فيها حافظ الأسد برئاسة الجمهورية، التي كانت عرفا و قانونا من نصيب السنة، و لم يكن يصح بحال من الأحوال أن تكون من نصيب السيد وزير الدفاع المسؤول عن هزيمة حزيران، و عن بيع الجولان و عن إغراق سورية بحمّى الطائفية القذرة منذ أيامه الأولى بعد انقلاب 1963م.
المحطة الثالثة- مسرحية حرب التحريك في السادس من تشرين أول/ أكتوبر سنة 1973م :و المتوافر من المعلومات عن هذه الحرب أن السيد وزير الخارجية الأمريكي في حينه هنري كيسنجر هو الذي أشار على السادات أن يحرك المسألة بعمل عسكري محدود ضد إسرائيل تتدخل بعده أمريكا، و تحلّ المسألة بطريقتها، و قد كانت المصلحة الأمريكية تقتضي مثل ذلك التحريك، من أجل إعادة فتح قناة السويس التي كانت مغلقة منذ حرب 1967م. و كذلك من أجل تبييض وجهها أمام العرب الذين عدّوها حليفا إستراتيجيا للصهاينة في حرب 1967م. و كان لابد لأنور السادات أن ينسق مع حافظ أسد ليضع إسرائيل بين فكي كماشة و فعلا تم التنسيق ووقعت الحرب و نلنا بسببها وسام حرب تشرين التحريرية، بالرغم من أننا لم نطلق طلقة واحدة ضد الإسرائيليين و لم نقترب من خط التماس معهم. فيما كانت الخسارة أكثر من ألف دبابة، فضلا عن ثمان و ثلاثين قرية احتلتها القوات الإسرائيلية. أما حافظ أسد فإنه في مساء السادس من تشرين و هو اليوم الأول من الحرب طلب رسميا من ألكسي كيسجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي التحرك الفوري عبر مجلس الأمن من أجل وقف للحرب التي أشعلها السادات على حد زعمه.
و فعلا توقفت الحرب لتبدأ بعدها رحلات هنري كيسنجر المكوكية من و إلى القاهرة و دمشق، و لتوضع ترتيبات كامب ديفيد، و فض الاشتباك مع السوريين ، و التي لما تزل قائمة إلى الآن، فيما عد ذلك انتصارا رائعا اختص به حافظ أسد نفسه. و قد عزز نظامه بجوار آمن، و بداخل مسيطر عليه- أحسن أم أساء- و بدون خلج وجداني يقول لا للسيد الرئيس!!!
المحطة الرابعة: مواجهته ثورة الشعب السوري التي كانت طليعتها الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، و التي دامت من 1975 إلى 1982م و امتدت إلى مناطق كثيرة من سورية. و قد كانت كبرى مصائبها في مدينة حماة التي دمرت تدميرا شبه كامل بالمدفعية و الدبابات و بالأسلحة الصاروخية و فقدت أكثر من (40) ألفا من أبنائها. و عبر هذه المواجهة استطاع بحذق الدكتاتور و بالإمعات من الأتباع أن يستصدر سنة 1980 القانون رقم(49) الذي عرف في حينه باسم قانون العار، الذي يحكم بالإعدام على الإخوان المسلمين و أن يجعل من ذلك القانون مبررا لمواجهته المعارضين طوال مدة حكمه، وقد بو ّأته مواجهته هذه مكانة دولية رفيعة، و قرّبته جدا من إيران التي كانت تتطلع بشغف إلى مد نفوذها إلى سورية ذات التوجهات الطائفية فضلا عن الدول الكبرى التي كانت واقعة تحت هيمنة الصهيونية الدولية، و التي وجدت في النظام حليفا قويا لها بالرغم من ممانعته العتيدة التي اشتهر بها، و التي سوقتها له دوائر إعلامية مختصة.
المحطة الخامسة: تدخله في الأزمة اللبنانية، و لعبه على وتر التناقضات الطائفية فيها، و إتاحة الفرصة أمام حزب الله الذي كان قد بدأ نشاطاته في لبنان مع بداية الثورة الإيرانية من أن يكون أكثر قوة، و ذلك كي يكون اللاعب الرئيس في لبنان و كي يكون ظهيرا للنظام السوري،في توجهاته الطائفية، و في مواجهته الشعب السوري، الذي يعيش معه مواجهة مستمرة. و تحجيمه الوطنيين اللبنايين يأتي في هذا السياق و يصب فيه. و قد لعب دور قضيب الأدب في لبنان كله، و تصفيته المخيمات الفلسطينية( تل الزعتر و صبرا و شاتيلا) شاهدعلى ذلك. و كذلك قضاؤه على انقلاب الأحدب و على حركة الملازم أول أحمد الخطيب. و كلاهما من وجهة نظره يقوّي السنة في لبنان.
المحطة السادسة: تحويله سورية إلى دولة طائفية، يقوم نظام الحكم فيها على الوراثة، و تهيئة أسباب ذلك، مدنيا و عسكريا و بما يضفي الشرعية القانونية. و هذا هو الذي حدث. فما إن أعلن موته سنة 2001 حتى دعي البرلمان لاجتماع طارئ، و بالإجماع و خلال بضع دقائق أقرّ أن عمر السيد رئيس الجمهورية(34) سنة، و هو عمر الابن يومئذ و بذلك تحولت سورية إلى دولة جمهورية وراثية. و قد تكون هذه التجربة- و هي لاتزال مستمرة- التجربة الأولى في التاريخ السوري القديم و الحديث.
ثالثهم- بشار الأسد الابن الذي ورث الحكم عن أبيه: و هو لم يتجاوز بعد عامه الرابع و الثلاثين. و فضلا عن ذلك فهو لايخلو من ضعف، و ضعفه أوقعه في أسر عتاولة النظام من ناحية و في أسر التدخلات الأجنبية من ناحية أخرى، و بالتالي أدى به إلى فقد القرار و إلى الانجرار وبقوة وراء تلك التدخلات، و منها التدخلات الإيرانية، التي أرادت لسورية أن تكون خصاصاً طائفيا محضا، و التدخلات الروسية، التي أرادت أن تجد لمصالحها القومية موضع قدم في سورية الحديثة. و هذا التدخل انعكس سلبا على رئيس النظام، الذي كان عليه بدلا من أن يواجه التدخلات الأجنبيةأن يواجه الشعب السوري بقصف المدن، و بمهاجمة المدنيين العزل، و كان سلاحه الأكثر شهرة( البراميل المتفجرة) التي وصفت بالعمياء، و غير الموجهة. و كان حصار المدن، و ترك المدنيين العزل( النساء، و الشيوخ، و الأطفال، و المعوقين)يموتون جوعا تحت وطأة الحصار السمة التي امتاز بها دون سابقيه أمين الحافظ و حافظ أسد، و قيل ماقيل عن بشار الأسد فهو الذي يتحمل مسؤولية مايجري في سورية اليوم، و ماقد يؤول إليه أمرها بعد. و منه أن تفقد سورية هويتها: الوطنية و القومية و الإسلامية. و هو مانحذر منه و نخشاه. و نعدّه أنه ماكان له أن يكون لولا استهتار السوريين بقضاياهم المصيرية، و عدم التعامل معها من واقع المسؤولية المطلقة. و الركون إلى الإمعات الذين كانوا بمثابة الظهير الأكبر للنظام الطائفي، الذي فعل مافعله في سورية عن علم ودراية، و عن مخططات معدة مسبقا، و بشكل تقني و مدروس. و هذا الكلام يقودنا إلى ثلاثة نتائج:
النتيجة الأولى- الاستخفاف بالشعب: و الاستخفاف بالشعوب يجعل من الحكام متعالين على شعوبهم و قتلة و مجرمين و لامبالين بهم رضوا أم سخطوا ففي مرحلة حكم حزب البعث العربي الاشتراكي، اتهمت غالبية الشعب بالرجعية،و بالاقطاعية و الامبريالية و اتهمت النخب المثقفة بثقافتها التي لقنتها، و لم يعد أمامها من خيار،إما أن تكون بعثية، و أن ترى مايراه البعثيون أو أن تهضم و تقصى و تتهم و حتى بالنسبة للبعثيين كان عليهم أن يسيروا بأعين مغمضة، و أن ينفذوا مايطلب منهم، و هذا بدوره قاد إلى الفساد العريض، ، الذي كان عليه النظام و بالتحديد من 8/3/1963 و إلى15/03/ 2011م.
النتيجة الثانية- المضي قدما في السياسات الطائفية: حسب المخطط المرسوم لها، و عدم المبالاة بالشعب الذي استخف به سلفا و المعروف أن السياسات الطائفية في سورية بدأت مع الاحتلال الفرنسي لسورية سنة 1920 ولم تنته و قد استمرت إلى الآن. و الثورة السورية و ظروفها و مآلاتها، و مايحدث على الساحة السورية اليوم نتاج طائفي بامتياز و ما وجود الميلشيات اللبنانية و الأفغانية و الباكستانية و الإيرانية و العراقية على الأرض السورية إلا دليلا على الطائفية و على ماهي عليه من قوة في مواجهة الشعب السوري الذي لم يدرك خطرها أولا، و لم يتخلص منها في مراحلها الأولى.
النتيجة الثالثة: التمادي في العدوان : و عدم الوقوف على حد مانع، مهما كان ذلك الحد المانع.فتسريح الضباط السنة من الجيش لم يتوقف عند حد التسريح حسب، و إنما تعداه إلى الملاحقة و إلى المحاربة بلقمة العيش. و بناء النظام الطائفي على أسس طائفية بحتة، لم يجعل قادة ذلك النظام يتوقفون عند حدود ذلك و إنما توسعوا في المفهوم، ليجعلوا من السني تابعا للطائفي ، دون أن يفكروا بغضب السنة الذين كانوا يعدون أنفسهم أنهم حماة الديار ، كما لم يحسبوا حساب الإسلاميين الذين كانوا أكثر هضماً و إقصاء من كل الفئات الأخرى، و الذين سبق و أن لقنوهم في الثمانينيات درسا لم ينسوه بعد.
أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى
رئيس وحدة الدراسات السورية
مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية
وسوم: العدد 681