السياسة والسياسة الدولية

توضيح لا بُدّ منه

السياسة بمعناها المحلي، كرعاية شؤون الأمة وشؤون الدولة، وإن كانت هامة، ولكنها لا يصح

 أن تكون هي محل الاهتمام، ولا يصح الاقتصار عليها. لأن جعلها محل الاهتمام يعني الأنانية والعمل للذات، وفوق كونه يضر في إيجاد الصراع الداخلي بين السياسيين ثم بين أفراد الأمة أو فئات منها. وفي هذا ضرر على الدولة والأمة، ولأن الاقتصار عليها فوق كونه لا يجعل المرء يدرك السياسة، فإن فيه غفلة عن شؤون الأمة، والسياسي لا بد أن يرعى شؤون أمته حتى يكون سياسياً. وهذا لا يتأتى إلاّ بالاهتمام بشؤون الأمم الأخرى، والدول الأخرى، ومعرفة أخبارها، وتحركاتها، والإحاطة ما أمكن بمعلومات عنها.

لذلك كانت السياسة الدولية، والسياسة الخارجية جزءاً لا يتجزأ من السياسة، من حيث هي سياسة، ولذلك لا تكون السياسة بمعنى السياسة إلاّ إذا كانت أفكاراً عن رعاية شؤون أمته، وأفكاراً عن رعاية شؤون الأمم الأخرى والدول الأخرى. فعلاقة السياسة الدولية والسياسة الخارجية، بالسياسة علاقة جزء من كل، بل الجزء الجوهري الذي يكونها.

والسياسة الخارجية، والسياسة الدولية، التي يجب الاهتمام بها، هي سياسة الأمم المؤثرة، لا جميع الأمم، وسياسة الدول المؤثرة لا سياسة جميع الدول، ولا سيما فيما له علاقة بأمته أو دولته، أو العقيدة التي تقوم عليها الدولة. ومن هنا كانت السياسة الخارجية والسياسة الدولية، إنما تعني سياسة الأمم المؤثرة والدول المؤثرة. لا سيما المؤثرة على سياسة أمته ودولته، سواء أكان هذا التأثير قريباً أم بعيداً.

لذلك يجب أن تكون الأمة الإسلامية كلها لا سيما السياسيين مشغولة باتقاء الخطر الخارجي، أي أن تظل مشغولة في السياسة الخارجية والسياسة الدولية، بالمعرفة والتتبع، وإبصار مواطن الخطر.

على أن الدولة الإسلامية، لا تعني أنها الحكام، بل هي الأمة التي تحت سلطان الخلافة فعلاً، فالأمة كلها هي الدولة، والدول الكافرة تعرف ذلك، وتعمل على أساسه. وما دامت الأمة مدركة أنها هي الدولة، فإنها تظل متتبعة لأخبار وأحوال الدولة الأخرى، والشعوب والأمم الأخرى، حتى تظل على وعي على أعدائها، وحتى تظل في حالة استنفار فعلي ضد جميع الأعداء. ولهذا فإنه يجب أن تظل أخبار السياسة الخارجية شائعة في الأمة كلها، مدركة من الناس بشكل عام. وأن يكون هم السياسيين والمفكرين، إطلاع الناس على السياسة الخارجية. حتى أن الناس حين يوكلون عنهم نواباً في مجلس الأمة للمحاسبة والشورى، إنما يختارون على أساس السياسة، وعلى أساس السياسة الدولية، لأن هذا هو الذي يجب أن يكون لدى الأمة، وهو الذي يجب أن يكون لدى وكلائها في مجلس الأمة، أما السياسيون والمفكرون بشكل عام فإن معرفة السياسة الخارجية والسياسة الدولية لا بد من أن تكون هي الطاغية على أعمال السياسيين وأفكارهم، وهي الموجودة بشكل بارز لدى المفكرين وفي تفكيرهم وأفكارهم. لأن المسلم إنما وجد من أجل هذا الإسلام، وإنما وجد من اجل الدعوة الإسلامية. وإنما يعيش من أجل هذا الدين، في حمايته، ونشر دعوته. وإذا كان الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، فإن حمل الدعوة الإسلامية هو الغاية التي من أجلها يكون الجهاد. وهذا يستوجب معرفة السياسة الخارجية والسياسة الدولية.

على أنه بغض النظر عن هذا، فإن الدولة التي تطمع في أن يكون لها تأثير، وأن تتمتع بالنفوذ والمجد، تجعل السياسة الخارجية أساساً من أسسها، وتتخذ السياسة الخارجية وسيلة لتثبيت مركزها في الداخل والخارج. وإذا كان هذا هو الواقع، فإن على السياسيين والمفكرين، أن يحيطوا بالسياسة الخارجية والسياسة الدولية، سواء أكانوا في الحكم أو خارج الحكم. لأن هذا هو الذي يجعلهم سياسيين، أي راعين لشؤون أمتهم. لأن الشؤون العليا للأمة إنما تتمركز في السياسة الخارجية والسياسة الدولية. ومن هنا كان واجب الأحزاب السياسية كلها، والسياسيين عموماً، ورجال الفكر، والعلم، أن تكون السياسة الخارجية والسياسة الدولية أهم ما يشتغلون به.

وإذا كان لا بد من معرفة السياسة الخارجية والسياسة الدولية، لا سيما للسياسيين، والمفكرين، والعلماء، فإنه لا يصح الاقتصار على الإجمال، والنتائج، فإن هذه إذا جرى الاقتصار عليها، وإن كان مفيداً، ولكنه لا يكفي لإدراك الخطر، ولا لمعرفة كيفية الاتقاء، ولا لفهم الحوادث، والوقائع، والنوايا والأهداف. بل لا بد من التفاصيل، والأعمال، والحوادث، ثم تحليلها والوقوف على النوايا والأهداف. والعدو حتى تعرف نواياه، تجاه الدولة والأمة، لا بد من أن تعرف أولاً كلامه، ووضع هذا الكلام، وثانياً: تصرفاته والظروف التي جرت فيها هذه التصرفات، وثالثاً: علاقاته، ووضع هذه العلاقات، ومن غير معرفة هذه الثلاث لا يمكن الإطلاع على نوايا العدو. 

وهذه الثلاث تحتاج معرفتها إلى معرفة التفاصيل، فالكلام لا بد من معرفة تفاصيله وتتبعها، حتى تدرك الأوضاع التي قيل فيها هذا الكلام. وكذلك التصرفات والعلاقات. وإذا كان سواد الأمة لا يهتم بالتفاصيل، فإن أفرادها البارزين ولا سيما السياسيين لا بد من أن يعرفوا ذلك. لأنهم مسؤولون، ولأنهم يزعمون أنهم يرعون شؤون الأمة. 

وأنه وإن كانت الحالة الدولية الآن، وحالة الدول المؤثرة، تعتمد في سياستها على ما يسمى بالدبلوماسية، أي على الاتصالات، وعلى العملاء. فإن هذا أمر مؤقت، وهو موجود لعدم وجود قوة مخيفة في العالم. ولكنه إذا وجدت قوة مخيفة فإن هذا يتغير، وتصبح الحالة الدولية، وحالة الدول المؤثرة، تعتمد على الأعمال السياسة، والأعمال العسكرية. إلاّ أنه على أي حال داخل تحت دائرة الاهتمام بالتفاصيل. فإذا كان هناك عملاء فلا بد من معرفتهم، حتى لو كانوا من دول كافرة. وإذا جرت اتصالات أو أعمال سياسية، فلا بد من معرفة هذه الاتصالات وتلك الأعمال بتفاصيلها لا سيما ما كان منها خفياً.

فالسياسة الخارجية والسياسة الدولية، سواء جرت على طريق العملاء، أو بالاتصالات، أو جرت بالأعمال السياسية، أو الأعمال العسكرية. فإن معرفة التفاصيل أمر لا بد منه، وذلك لمعرفة السياسة نفسها، ولمعرفة النوايا والأهداف ولإدراك ماهية الكلام أو التصرفات أو العلاقة. وما لم تعرف هذه التفاصيل، فإنه لا تكون السياسة قد عرفت، ولا صار المرء سياسياً، وبالطبع لا تدرك النوايا والأهداف.

وسوم: العدد 682