"الكلمة الرسالية" في العطاء الفكري للدكتور حلمي القاعود
منذ أن كنت أتابع أستاذنا الدكتور حلمي القاعود- حفظه الله، وأمد في عمره، وأدام عطاءه الثري- في جريدة "آفاق عربية" بمقاله الأسبوعي، وفي "المصريون" وصحف ومواقع إلكترونية أخرى.. بل وحين طالعت أعدادًا قديمة لمجلة "الاعتصام" خاصة في عقدي السبعينيّات والثمانينيّات.. ثم ما قرأت له من كتب.. وقد وجدتني أمام نموذجٍ حيّ لـ "الكلمة الرسالية"؛ تلك الكلمة التي تنبض بالوعي، وتفيض بالحرارة، وتنتمي للهوية العربية الإسلامية، وتعرف طريقها النافذ للعقول والقلوب؛ وليست مجرد حروف مرصوصة، أو أوزان فارغة تشبه ما يسميه إخواننا السودانيون "الكلام الساكت"!! في كل مقال تقرؤه لأستاذنا ترى نفسك أمام قضية ملحة، وفي عمق إشكالية تطرح نفسها على العقل الإسلامي، وبصدد تحدٍّ يستدعي النقاش والتساؤل والاختبار. ولو أن كل مثقف ومفكر جعل من قلمه حارسًا أمينًا لثغور الوعي والفكر، كما فعل أستاذنا الدكتور حلمي القاعود، لما رأينا هذا الغثاء- بل السموم- الذي يملأنا فضاءنا، ويهدد الأجيال الناشئة بالمسخ والتشويه، وبالانفصال التام بين هويتنا وجذورنا وأصولنا..!! إنها معركة البقاء إذن، وإنها الفريضة الواجبة، وإنه التحدي الذي لا مهرب منه.. وقليلون من يستطيعون البقاء في وجه هذا الطوفان الزاحف، بل وأقل منهم من يحسن التصدي له بالحجة والمنطق، وبالقلب الجسور، وبالكلمة التي لا تنحاز لغير الحق.. ولا شك أن الدكتور القاعود هو أحد أبرز هؤلاء المجاهدين بأقلامهم، المثابرين على مشقة الطريق، المتحمِّلين- عن طيب خاطر- ضريبةَ الانحياز للأمة! وفي إشارات موجزة سأتناول موقف أستاذنا حلمي القاعود من قضيتين فقط، يمكن الاكتفاء بهما في التدليل على تَجذُّرِ "الكلمة الرسالية" في عطاء أستاذنا الفكري، العريض الثريِّ المتشعِّب. مع اليسار والتزوير الثقافي: في معركته مع اليسار، الذي كان رأس حربة في عملية التزوير الثقافي، التي أريد منها تشويه العقول وإحداث القطيعة مع أصولنا وثوابتنا، يشير د. القاعود إلى أن الواقع الثقافي حتى بدايات الانقلاب الأول 1952 يمضي غالبا في رحاب التصور الإسلامي الذي تعيشه الأمة منذ ارتباطها بالإسلام قبل ثلاثة عشر قرنا من الزمان. ولم تؤثر في هذا التصور أفكار النخب التي ابتعثت إلى أوربة؛ فقد كانت هذه النخب تعتقد أن ما تنقله من أفكار وتصورات كان يصب لصالح الحضارة الإسلامية ويجدد الخامل من عناصرها وينشط البطيء من معطياتها ، مع الوعي- مهما كان التطرف والجموح- أن المثقف المصري ومثله بقية المثقفين في أرجاء العالم الإسلامي ينتمون إلى الدائرة الإسلامية، شاءوا أو أبوا. ويوضح أستاذنا أن معظم الأدباء والمفكرين المحدثين في مصر كانوا أبناء الأزهر الشريف، وفي مقدمتهم غلاة المجددين من أمثال طه حسين وعلى عبد الرازق وخالد محمد خالد (اعترف بخطئه لاحقًا، وأصدر كتابه: "الدولة في الإسلام"، الذي يهيل عليه العلمانيون التراب)، وكان التصور الإسلامي حاكمًا في آرائهم ومصححًا لها. وكانت الظاهرة الأدبية في مصر تشير إلى أن الشعراء وكتاب القصة والرواية والدراسة الأدبية والنقد الأدبي والتمثيلية الإذاعية والفيلم والمسلسل التليفزيوني، جاءوا في الغالب من الأزهر الشريف أو اهتدوا بفكره وعلومه . لم تكن هناك مشكلة- كما يقول أستاذنا- في كون المثقف المصري أو العربي يتحرك في مناخ طبيعي لا يتصادم مع العقيدة الإسلامية، ولا يوظف نفسه لمواجهتها والتشهير بها وهدمها، والعمل على استئصال رموزها والمنتمين إليها. لكن عقب الانقلاب الأول أنشئت وزارة الثقافة للسيطرة على المثقفين وإخضاعهم ووضعهم تحت هيمنة الدولة، وتطور الأمر- كما يرصد د. القاعود- لتكون الأجهزة الأمنية وما شابهها هي الموجه الحقيقي للثقافة والمثقفين بعد أن أفرج جمال عبد الناصر عن الشيوعيين المصريين بأوامر من خروشوف زعيم الحزب الشيوعي السوفيتي في إطار صفقة تطبيع العلاقات بين موسكو والقاهرة. صحب هذا الإفراجَ تعيينُ الشيوعيين في الصحافة والإذاعة والتلفزيون والثقافة والإعلام ومؤسسة النشر الرسمية والسينما والمسرح والفنون الشعبية، وقد تمكن الشيوعيون وأشباههم من السيطرة على هذه المجالات سيطرة شبه تامة لدرجة أن أول مؤتمر لأدباء الأقاليم في الزقازيق عام 1969كان في الحقيقة مؤتمرًا لحزب شيوعي غير معلن بمباركة النظام الانقلابي الناصري ممثلا في وزير داخليته الشهير شعراوي جمعة! ويذكر د. القاعود أنه باستثناء سنوات قليلة في عهد أنور السادات حاول من خلالها أن يقيم حالة من التوازن في الحياة السياسية والثقافية، فقد عاد الشيوعيون وأشباههم بقوة بعد رحيله إلى الهيمنة شبه الكاملة على المؤسسة الثقافية الرسمية والنشاطات الثقافية الخاصة حتى يومنا هذا. لقد استطاعوا أن يتجذروا في فروع وزارة الثقافة وأن يجذبوا إليهم العناصر المعادية للإسلام من ناصريين وليبراليين وطائفيين وانتهازيين، وأن يصوغوا قرارها بأنفسهم، وأن يحولوا الإسلام وحضارته وثقافته إلى ظلام ورجعية وتخلف وإرهاب بمباركة الأجهزة الأمنية والمخابراتية لهم. ثم أصبحت الثقافة والانتماء إلى مجالاتها المختلفة طريقًا لسرقة الهوية الإسلامية ووسيلة جيدة للارتزاق؛ أو بلغة السوق "سبّوبة" مربحة، وتعني السرقة بالقانون بصورة دائمة، كل النشاطات الثقافية مفتوحة أمام اللصوص المثقفين لينزحوا من التكية المستباحة التي احتكروها وحدهم أموال الندوات والمؤتمرات واللجان والسفريات والجوائز والمعارض والنشر والتفرغ وصحيفة الوزارة التي لا تبيع والمجالس المختلفة وغير ذلك! ويخلص أستاذنا القاعود إلى أن "المثقف اللص" يبيع شعبه ويقف في خندق الاستبداد ويصعد على جنازير الدبابات دون أن يخجل أو يستحي، وفي الوقت نفسه يحرم المثقف صاحب الرؤية الإسلامية من حقه الطبيعي في نشاطات الوزارة التي ينفق عليها المسلمون. ويضف بسخريته اللاذعة: وإذا عرفنا أن "المثقف اللص" كان ضيفًا على مكتب شعراوي جمعة، ورءوف المناوي مدير الإعلام بالداخلية في عهد مبارك، وصديقًا دائمًا للأجهزة الأمنية المضادة للثورة؛ فعلينا أن نتيقن أن جرامشي سيتحير لو طُلب منه تصنيف هذا النوع من المثقفين! (راجع المزيد في مقال أستاذنا: المثقف اللص!). مع غلاة النصارى: احتلت "المسألة القبطية" مكانًا بارزًا في عطاء أستاذنا الفكري، ومحورًا رئيسًا من محاور "كلمته الرسالية"؛ ذلك أن هذه المسألة أريد لها أن تكون منفذًا للاختراق الفكري والاجتماعي، ووسيلةً لتفتيت نسيج الأمة وابتزاز خيارها الثقافي. هذه "المسألة القبطية" أَوْلاها أستاذنا العناية الفائقة في الكثير من مقالاته، ثم جعلها "تمهيدًا عميقًا" لدراسته الرائدة الرائعة عن لويس عوض، ثم خصَّها بكتاب صدر تحت عنوان: "الأقليات السعيدة.. يوميات الصراع بين التمرد والتسامح". في تمهيده عن "لويس عوض" أوضح د. القاعود أن علاقة المسلمين بغيرهم كانت في ظل الإسلام علاقة تسامح ومودة من جانب المسلمين، مكنت غير المسلمين أن يكونوا جزءا أساسيا في نسيج المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية؛ انطلاقا من قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8). وبيّن أستاذنا أن هذا التسامح أتاح للنصارى واليهود أن يصلوا إلى مناصب الوزارة والمسئولية المباشرة بعد الخلفاء، حتى ازداد نفوذهم وسلطانهم في عهد الفاطميين الذين تسامحوا معهم إلى درجة جعلت أمور الحكم في زمن الخليفة الفاطمي العزيز بالله يتولاها عيسى بن نسطورس، الذي كان يُخاطب بلقب "سيدنا الأجلّ". ورصد أستاذنا التحول الذي طرأ على هذا النسيج المتماسك، مشيرًا إلى أنه جاء كنتيجة من نتائج الحروب الصليبية التي ألقت بظلال قاتمة على تلك العلاقة؛ بسبب مساعدة نصارى الثغور للروم بالتجسس على أحوال المسلمين، واستخدام الكنائس لهذه الغاية؛ ناقلاً ذلك عن مؤرخ نصراني- لا يتهم بمحاباة المسلمين- هو جرجي زيدان. ويضيف د. القاعود: ولا ريب أن نشوء الحركة الصليبية في أوروبا، واستمرارها فيما عرف بالاستعمار الأوروبي، ثم الهيمنة الغربية السائدة في العالم المعاصر، كانت من وراء تحريك الأقليات النصرانية، أو بمعنى أدق: تحريك بعض العناصر في هذه الأقليات للتأثير على الأغلبية الإسلامية، وشدِّها إلى متاهات مزعجة وطرق وعرة. ولعل ما جرى في الحملة الفرنسية (1798م) على مصر خير مثال على ذلك؛ فقد حركت الأروام ونصارى الشام، وبعض نصارى مصر بقيادة المعلم يعقوب؛ من أجل حراسة جنودها وتزويدهم بالمعلومات وتكوين الفيالق، مما يتنافى مع أصول المواطنة والأخوة الشعبية. ويوضح أستاذنا أنه مع سقوط ما يسميه "الدولة الناصرية الأولى" في عام 1970، أخذت الأمور تفرز أوضاعًا غريبة في مصر. ومع تصاعد الدعوة لإعلان هوية المجتمع الإسلامية، وتضمين الدستور (1971م) مادة صريحة تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي من مصادر التشريع؛ فإن بعض النصارى لم يعجبهم الأمر، وأخذت تنشط حركة مضادة، لم تبدأ بالتأكيد في تلك الفترة، ولكنها بدأت من قبل، وكان أعلامها في مجال الفكر والأدب والصحافة واللاهوت، ولعل سلامة موسى وتلميذه لويس عوض من أبرز الذين عبّروا عن هذه الحركة المضادة، التي ترفض الهوية الإسلامية للمجتمع، وتنادي بعلمنة الدولة، وتنوح من حين لآخر على ما تزعم أنه أصاب النصارى في مصر من قهر وغبن على يد المسلمين المتعصبين؛ وفي الوقت ذاته ترى دخول الإسلام إلى مصر غزوًا استيطانيًّا، أو استعمارًا استيطانيًّا، قهر أهلها "الأقباط" على الدخول في عقيدة مخالفة وأشار أستاذنا إلى أن كثيرين فنّدوا تلك المزاعم، بمن فيهم "الأنبا شنودة" نفسه، الذي يعتبره أستاذنا "واحدًا من أبرز رموز المسيحية السياسية"، أي التطرف المسيحي بصورة مهذبة! وذلك حين أشار شنودة في خطبته- التي نشرها "الأهرام" بتاريخ 12/ 10/ 1977م- إلى العيشة الطيبة بين النصارى والمسلمين، والتي وصلت إلى حالة الوحدة، كما عدّد صداقات عديدة في التاريخ الإسلامي بين الطرفين، وأشار إلى اعتماد الحكام المسلمين على النصارى في مجالات شتى، وبنائهم للكنائس حيث يمارس النصارى طقوسهم (انظر: "لويس عوض.. الأسطورة والحقيقة"، د. القاعود، ص: 11- 17، دار الاعتصام، ط1، 1994م). وحينما تولى الأنبا تواضروس الثاني كرسي البابوية، كتب د. القاعود مقالاً- وكان صريحا كعادته- متوقفًا عند تصريح تواضروس بأنه سيسير على نهج البابا شنودة، محذرًا من ذلك؛ إذ إن "نهج شنودة كان خطيرًا؛ لأنه قاد التمرد الطائفي ضد الأغلبية، واستغل ضعف الدولة واستبداد السلطة ليتحول إلى زعيم سياسي ينافس رئيس الدولة بل يفوقه في النفوذ والتأثير، ويصنع من نفسه نجمًا سياسيًّا يقود الطائفة إلى الانعزال، والخروج على منهج الوطنية، وكان يشي بتصرفاته وتصرفات تلاميذه بأنه يسعى إلى قيام دولة نصرانية مستقلة". وأضاف د. القاعود: لقد خسرت الطائفة كثيرًا حين انصاعت لإرادة شنودة السياسية، وفقدت كثيرًا من التعاطف الذي بذله المسلمون طوال قرون بعيدة، فضلاً عمّا خلفته آثار التحرش بالأغلبية في كل المناسبات ابتداءً من الأحداث اليومية العادية، حتى بناء الكنائس بصورة هستيرية وبالمخالفة للقانون.. لقد تصورت الطائفة- أو قادة التمرد- أن الإكثار من بناء الكنائس في الأماكن الحساسة ومداخل المدن والقرى سيحقق تغييرًا لهوية الدولة، وينقلها من الإسلام إلى النصرانية؛ وهذا لن يحدث الآن ولا في المستقبل. لقد استطاع شنودة أن يبني أكثر من ثلاثة آلاف وستمائة كنيسة في أربعين عامًا، في حين أن عدد الكنائس منذ الفتح الإسلامي حتى ولاية شنودة كان خمسمائة كنيسة فقط؛ أي طوال أربعة عشر قرنًا من الزمان، ولم يستطع تغيير هوية مصر المسلمة! ووجّه د. القاعود النصيحة قائلاً: أتصور أن البابا الجديد يدرك أنه لا مفر من التعايش الذي يقوم على التفاهم والمشاركة، ولنرجئ المحبة التي يدعيها النصارى إلى حين، وليكن السبيل إلى هذا التعايش تفكيك التمرد الطائفي وخلاياه في الداخل والخارج. أما في الداخل، فأوضح أستاذنا أنه لابد من موقف حازم وحقيقي ضد جمعية الأمة القبطية ومدارس الأحد والصحف الناطقة باسم الكنيسة والقنوات النصرانية الفضائية المحلية والخارجية؛ لأنه لم يعد خافيًا أن هذه العناصر بقيادة بعض القساوسة والأساقفة تنفخ في نار التمرد الطائفي، وتؤجج لصراعات غير مقبولة، وتتنافى مع الوطنية والتعايش، فضلاً عن المسيحية وتعاليمها. وأما في الخارج، فلابد من ردع مجموعات الذين يعيشون في المهجر ويتاجرون باسم الطائفة أمام الكونجرس والبنتاجون ووزارات الخارجية في العواصم الأوروبية وأستراليا (مقال أستاذنا: "البابا الجديد والتمرد الطائفي!"، موقع "المصريون"، 13/ 11/ 2012م.). ** ** ** تلك كانت إشارات موجزة لموقف أستاذنا الدكتور حلمي القاعود- حفظه الله- من قضيتين شَغَلَتَا- ولا تزالان- الساحة السياسية والفكرية، وهو موقف يوضح بجلاء عمق "الكلمة الرسالية" في عطاء أستاذنا، الذي حرص دائمًا على أن تجيء كلماته متماسَّةً مع الواقع الراهن بإشكالياته وتحدياته، متسلِّحًا بالوعي، متدثِّرًا بالشجاعة، واضعًا أمته وهويته نصب عينيه، لا يحيد عنهما، تحت أي ظرف كان.. وأحسب أن أستاذنا- والله حسيبه- قد أجاد وأبدع، وبلّغ وحذّر؛ فجاءت كلماته- عبر عشرات الكتب، وآلاف المقالات- نبراسًا لما ينبغي أن يكون عليه المثقف المسلم والمفكر المبدع. والله وحده هو القادر على أن يجزي أستاذنا خير الجزاء، لِمَا قدمه من عطاء ثري ذي بصمة متميزة، في مختلف المجالات، لاسيما في الذود عن ثغورنا وحصوننا الفكرية، المهدَّدة من الداخل والخارج!
وسوم: العدد 684