«كُلَّ يومٍ هو في شأن»
خَلَصَ الأشاعرة في نظريتهم عن الجوهر الفرد، او الجزء الذي لا يتجزأ أو في مذهبهم الذري الى وجود قوة عليا قادرة تعطي للمادة مختلف ألوان تشكلاتها وتمايزاتها. وهم يرون انه اذا سلمنا بمبدأ الجوهر الذي لا يتجزأ بذاته (الذرّة) فان علينا ان نسلّم بتدخل مبدأ سامٍ مُتعالٍ يعطي للمادة تحديدها وخصائصها وكميتها التي تؤول بها الى ان تكون هذا الكائن او ذاك. اي ان فكرة الجزء الذي لا يتجزأ (او آخر ما قد تنتهي اليه المادة في تفتتها) تحمل في تضاعيفها معنى قيوميّة الله سبحانه واتصال فعل خلقه في الكائنات ودوامه (كل يومٍ هو في شأن). ولعلّ ما انتهى اليه «هنري كوربان» في كتابه «تاريخ الفلسفة الاسلامية» من «ان الجواهر والاعراض مخلوقة في كل لحظة، وان الكون كله مرهون من آن لآن بالعناية الإلهية المتناهية القدرة» بصفة ذلك ايجازا لمذهب الذرة الاشعري ان يكون امساكاً بملمح رئيس لا تخطئه الألباب في القرآن الكريم او بفكرة محورية لا يختلف في شأنها مسلمان أو باحثان يعرفان حقيقة ديننا الحنيف.
ويرى هنري كوربان الذي فَلْسَفَ في كتابه المذكور آنفاً العرفان الإمامي الشيعي والعرفان الاسماعيلي، ان محصل ما نفيده من المذهب الذي الاشعري «أن الكون دائما على تمدد وانتشار وتفكك، وان العناية الإلهية هي وحدها التي تضمن له في كل لحظة وحدته وتلاحمه ودوامه، واذا كنا نحن لا نشعر بكل ذلك فهذا مرده الى عجز وقصور في الحواس والادراك».
على ان في وسع كل منا ان ينظر للفكرة الاشعرية من جانب مختلف يتعلق بالقوانين الضابطة لحركة الكون، من ادناها الى اعلاها، اذ يمكن لنا طرح السؤال التالي: ما الضامن لبقاء فاعلية هذه القوانين دقيقة واحدة بعد لحظتنا هذه؟. وأي وثوق بدوام هذه القوانين يركن إليه العلماءُ في مختبراتهم، ورواد الفضاء في مركباتهم؟ وكيف لا يقع في التصور امكان توقف هذه القوانين او اضطرابها جملة؟.
ان بقاء الكون (بما يشتمل عليه من هذه القوانين) خلال مدة هذا التساؤل القصيرة وعدم انتقاضِهِ دليل قائم يؤكد قدرة الله سبحانه وقيوميته. وهذا ما انتبه اليه الاشاعرة (ومتكلمو الاسلام عموماً) بفضل الهدي القرآني وما تضمنه الكتاب الحكيم من دعوة الى النظر في ظاهرات الوجود، بما هي آيات دالة لأُولي الألباب.
بقي أن نقول بضرورة أن نقوم نحن العرب والمسلمين بقراءة شاملة لتراثنا الكلامي والعلمي والفلسفي. وان نكون نحن اصحاب الشهادة فيه، وان لا نَظَلّ نلتمس انصافا لهذا التراث من هنا ونظرة موضوعية من هناك، لان ذلك كله انما يأتي في سياق اغراض لم تعد خافية، أقلّها تشويهُهُ أو إلحاق ابداعاته بالأُمم الغابرة، او تبخيسه. وما وراء ذلك كثير وخطير..
وسوم: العدد 689