في جماعة الفرفشة

د. عبد السلام البسيوني

... ولن تخطئ عينك قارئي الحبيب وأنت تتجول في سيرة حياة القرضاوي ومسيرته أن تجد خفة الدم، ومتعة المحاورة، وسلاسة التعبير، عبر مواقف ضاحكة باكية، جادة ومازحة، فاصلة وعابرة، يرويها بلغة سلسة غير متكلفة؛ يسيرة غير عسيرة، ليجعلك تنفعل، أو تبكي، تستبشر أو تغضب! ليرسم في النهاية على شفتيك ابتسامة خفيفة، أو يجعلك تقهقه، تماماً كما يفعل حين يشافهك، ويسرد عليك من أخباره وأفكاره؛ فخذ هذه الابتسامة:

حكى لنا الشيخ أبو الروس - والكلام لمولانا القرضاوي، من مذكراته -: أنه تزوج مبكراً، وكان له أبناء يدْرسون، وكان هو طالباً آنذاك يدرس أيضاً، فكلهم طلبة – الأب والأبناء - يقول الشيخ: فقد تكون النتيجة في بعض الأحيان أن أرسب أنا وينجح الأولاد، وأحياناً يعرف زملاؤهم ذلك، فيقولون معيّرين لهم: يا أولاد الساقط!

(وكالة أبشروا):

والقرضاوي - كما قرأته وعرفته، والله حسيبه - رجل مستنير، متفائل، مبشر، يرى في الناس دائماً الجانب الإيجابي، والإنساني، ويحاول أن يركز دائماً على البشريات، وأن يغرس الأمل، وهذا واضح في منهجه في الفتوى والحركة والكتابة والخطابة والإعلام، ويبدو أن هذا المنهج قد انغرس فيه منذ مقتبل أيامه، حتى في الأيام الشديدة التي مرت به في مطالع شبابه، وهو في السجن مع أصحابه، حتى إنهم كونوا ما أسموه (وكالة أبشروا) حين كانوا يتأولون كل شيء، وكل إشارة - مهما بدت مزعجة - على أنها باب نصر، ومشكاة أمل، وانفراجة على النحور والحرية، يقول في مذكراته، بتصرف مني واختصار:

من المعروف أن السجون من قديم مظنة لكثرة الرؤى والأحلام من نزلاء السجن، كما أنهم يهتمون بالحديث عنها، وبتعبيرها، ومعرفة ما تؤول إليه من خير أو شر،ولهذا لا نعجب إذا وجدنا من نزلاء السجن الحربي فئة مشغولة أبداً بالأحلام والرؤى، وفي كل صباح عند النزول إلى دورات المياه، يسأل بعضهم بعضاً عما رأوا في تلك الليلة، وقد سماهم الأستاذ عبد العزيز كامل - الوزير الأسبق، وكان مسجوناً معهم - جماعة القِسْم الليلي، لأن كل عملهم في الليل. ومن المعلوم شرعاً أن بعض ما يراه الإنسان في نومه هو حديث نفس، كما قيل:(الجَعان بيحلم إنه في سوق العيش) وبعضها رؤى صادقة، وبعضها من الشيطان.

المهم أن هؤلاء كانوا يرصدون في كل صباح الرؤى التي يراها بعضهم، ويؤولونها على ما يحبون دائماً، تأويلاً يبشر بالنصر، ويؤذن بالفرج القريب، وبهلاك الظالمين، وذهاب سلطانهم:

فإذا رأى أحدهم في المنام شمساً تبزغ وتشرق، كان تأويلها أن شمس الإسلام قادمة، وستملأ الدنيا نوراً وخيراً وحرية، وإذا رأى أحدهم في منامه شمساً تغرب، قالوا:

هذه شمس الأعداء، يوشك أن تغرب وتغيب.

وإذا رأوا أرضاً خضراء نضرة قالوا: أبشروا، هذه أرضنا! وإذا رأوا أرضاً أصبح نباتها هشيماً تذروه الرياح، قالوا: أبشروا هذه أرض الظالم وجماعته.

ولهذا أطلق الإخوان على هؤلاء: وكالة "أبشروا" فإذا كانت وكالات الأنباء تذيع الأخبار، فهذه الوكالة تذيع الأحلام المبشرات.

لجنة الفرفشة:

وإذا كانت مهمة جماعة "أبشروا" نشر الأمل عن طريق الرؤى والمنامات، فقد وجدت جماعة بين الإخوان تشيع الرضا وسكينة النفس، عن طريق نشر النكت، والفكاهات، والمداعبات، حتى لا يغلب جو الكآبة على السجن. وقد دارت بينهم آنذاك نكات وطرائف عديدة، منها:

أن شرطياً ضبط شخصاً يقول: الله يخرب بيتك يا عبد الجبار، فقبض عليه، ولما قدمه إلى الضابط سأله: إيه تهمته يا عسكري؟ قال: يا سيادة الضابط، دا غلط في اسم رئيس الجمهورية!

ومنها أن شرطياً ضبط شخصاً يدعو من قلبه على الحكومة الظالمة وصرخ فيه: انت بتشتم الحكومة يا مجرم؟!

فقال الرجل: أنا قصدي حكومة المجر يا بيه!

فرد العسكري: إنت مفكر إنك ها تضحك علينا؟ هُوا فيه حكومة ظالمة إلا حكومتنا؟!

ومنها أن الحكومة - لسبب ما - كانت تقبض على الجِمال، فوجد الناس حماراً يعدو ويشتد، ليختبئ من رجال الأمن الذين يبحثون عن الجِمال، فسألهم أحدهم:

لماذا تختبئ، وإنما تأخذ الحكومة صنف الجمال، خايف من إيه، وانت البعيد حمار مش جمل؟

فقال: حِلِّني، علشان أثبت لهم إني حمار مش جمل، هايكون ضاع نصف عمري!

يقول شيخنا القرضاوي - الله يحفظه - كانت إشاعة هذه النكات وأمثالها من عمل مجموعة من معتقلي الإخوان كنت منهم، سميناها: "جماعة الفرفشة".

وكان قد ظهرت شائعة بين المعتقلين، وهي أن ما نزل بالإخوان من أهوال ومن شداد، قد أثرت على فحولتهم، وأفقدتهم القدرة على الإنجاب، وأنهم لن يقدروا على متطلبات الزواج إذا عادوا إلى زوجاتهم، وأن عُزابهم إذا تزوجوا فلن يقدروا على إنجاب الأولاد، فاتخذت جماعة الفرفشة شعارات لها هي:

تشجيع العزاب على الزواج، والمتزوجين على كثرة الإنتاج،

والفرفشة حتى الإفراج!

ومن الطرائف التي حكاها الأخ عصام تليمة سكرتير الشيخ السابق في كتاب له:

أنه عندما زاره الشيخ وجدي غنيم في الدوحة، وأخذ يحكي نوادر المعتقلات والسجون، سأل الحاضرون الشيخ عن نوع من الطعام لا يأكله، فقال: الفاصوليا، أنا مانعها من بيتي، لأني ظللت 18 شهراً سنة 1949م في المعتقل، ونحو سنتين من 1954م إلى 1956م، ولم يكن طعام لنا إلا الفاصوليا، فلما تزوجت قلت لزوجتي في أول يوم من زواجنا: أنا عندي مخزون من الفاصوليا يكفيني إلى نصف قرن قادم، فلا أحب أن تطبخ في بيتي، وفعلاً لم تدخل بيتي مطلقاً!

ودعا الدكتور الأديب العالم عصام الدين البشير (وزير الأوقاف السوداني) الشيخ وآخرين لوليمة، فلما دخل الشيخ ووجد المائدة قد امتلأت بما لذ وطاب من الطعام، قال مازحاً:

يبدو أن الأخ عصام فاهم لــ (دعوته) كويس!

وذات دورة سأله أحدهم: ما أنت؟ فقال:

أنا سلفي على صوفي على أشعري! أحدهم كان يقول لي: ما مذهبك؟ فقلت له أنا دخلت الأزهر حنفياً، إنما إلى الآن أنا حنفشعي (حنفي شافعي)!

ثم أكمل حديثه عن سبب دخوله الأزهر معتنقاً المذهب الحنفي:

عندما كنت أقدم للالتحاق بالأزهر كان يكتب لي الانتساب عالم من علماء بلدنا صفط تراب اسمه الشيخ عبد المطلب البتي رحمه الله.. وبينما كان يكتب الانتساب جاءت خانة اسمها المذهب، فكنت سأقول له: اكتب شافعياً، لكنه سبقني وقال لي:

ما رأيك يا شيخ يوسف أن تكون حنفياً مثلي؟

فقلت له خلاص خليني حنفي زيك وتابع ضاحكاً: "طلعت حنفي بالصدفة".

وللحديث بقية......

وسوم: العدد 690