نُكَت ابن شيخ الأزهر!

د. عبد السلام البسيوني

في سنة 1943م مات شيخ الساخرين عبد العزيز البشري ابن شيخ الأزهر الإمام الأكبر سليم البشري، وعم المستشار الكريم طارق البشري عن 57 عاماً، بعد أن ملأ الدنيا فكراً ساخراً أو سخرية فكرية، تنطلق عن سرعة بديهة، وذكاء حاد، وقدرة على مواجهة عتاة الساخرين في زمنه، كحافظ إبراهيم، وإمام العبد، ومحجوب ثابت، وغيرهم!

قال عنه الدكتور طه حسين، كما كتبت مجلة الدفاع: (ولقد كنت من المفتونين بحديث عبد العزيز حين يتحدث، ومن المفتونين بآثاره حين يكتب..... ولو علمت أني أستطيع أن أشير على وزارة المعارف فتسمع مني وتقبل مشورتي، لأشرت عليها في أن تجعل كتب عبد العزيز البشري، وهذا الكتاب منها خاصة (يعني كتابه: قطوف) بين الكتب التي تدرس في المدارس الثانوية، فما أعرف أقدر منه على تحبيب الأدب العربي إلى الشباب، وتزيينه في قلوبهم، وإقناعهم بأن لغتنا الفصيحة القديمة تستطيع أن تؤدي المعاني والأغراض ما تقتضيه الحياة الحديثة، دون أن يمسها من ذلك نصب أو لغوب).

ولن أحاول هنا أن أؤرخ للشيخ الأزهري، والقاضي الشرعي عبد العزيز البشري رحمه الله، لكني سأعرض من طرائفه ما يؤكد ما قلته من سرعة بديهته، وذكائه الحاد:

في رثائه في قاعة إيوارت التذكارية في الجامعة الأمريكية، التي كانت مكتظة بعدد كبير من الأدباء والمعجبين بالبشري رحمه الله، تكلم الأستاذ فكري أباظة رئيس تحرير مجلة المصور وقال:

الأديب الذي نحن بصدد رثائه والحديث عن حياته أديب فكاهي، ونحن الآن في حالة حزن على فقده، فهل ترغبون أن ألقي كلمة حزينة عن الفقيد وأترك المجال لغيري، أم ترغبون أن أتحدث عن طرائفه وسرعة خاطره في إلقاء النكتة؟ فضج الكثيرون بالضحك – والعهدة على المجلة العربية - طالبين من أباظة أن يروي بعض الطرائف، فقال:

كان البشري في مجلس يعتاد الحضور فيه بعض المسنين البسطاء، من الذين يحبون الأدباء وليسوا منهم، فلاحظ بعض الأدباء أن هذا الرجل يحمل في جيبه ثلاث نظارات، فسأله: نحن نعرف أن الإنسان يحمل نظارتين، إحداهما للقريب أو للقراءة، والأخرى للبعيد، أو تكون ملونة، فما شأن الثالثة؟

فقال البشري بسرعة: علشان يفرق بها بين النظارتين!

واستطرد أباظة: كان ذات يوم يسير في شارع إبراهيم باشا (فيما بعد سُمي شارع  الجمهورية) وكان هناك رذاذ من المطر، مما أجبر الشيخ عبد العزيز على رفع جبته من أكتافه إلى رأسه (وكان لباسه أزهرياً) ليغطي طربوش العمامة الأحمر المنسوج من الجوخ؛ لأنه لا يتحمل المطر، بل يفسد لونه، فقلت له مداعباً عندما التقيت به:

تصور! دا أنا كنت فاكرك امرأة، فقال البشري على البديهة: الله.. وأنا اللي كنت فاكرك راجل؟!

وكان مع جملة من أصدقائه في القناطر الخيرية، فخطر على بال بعض زملائه أن يداعبه، فرسم صورة قرد على جبة الشيخ البشري، التي كانت معلقة على إحدى الأشجار، فلما رأى الصورة، ورآهم متأهبين لسماع التعليق، قال: "مين اللي مسح وجهه في الجبة؟!" فضحكوا، ولم يستطيعوا إخباره بمن رسم وجه القرد.

وينسب بعض الناس هذه الحكاية إليه مع حافظ إبراهيم، لكن أباظة شاهد عيان فلا يسعنا تكذيبه.

ومما يحكونه عن الشيخ البشري رحمه الله تعالى: أن امرأة أمية كانت تسير في الطريق، فلما رأته معمماً توسمت أنه يستطيع القراءة، فأعطته رسالة كانت بيدها، وكان الخط الذي كتبت به الرسالة شديد الرداءة، فبذل جهده أن يفك طلاسم الرسالة فلم يفلح، فقال للمرأة معتذراً:

مش عارف أقراها يا خالة..

فقالت له بقرف: أُمال عامل شيخ ليه؟ راجل محترم بعمامة، ومش عارف تقرأ جواب؟!

فخلع البشري عمامته، ووضعها على رأس المرأة قائلاً: العمامة أهي يا ستي.. ياللا اقرئي انتي بَقى!

وذات يوم كان عبد العزيز البشري يجلس يوماً في المقهى الذي اعتاد الجلوس فيه، فدخل أحد محرري الأهرام، وإذا بالشيخ البشري يستقبله في حفاوة، ويقدمه لصديق له قائلاً: حضرته أخطر محرر في الأهرام!

فسأله الصديق: حضرته محرر سياسي؟

فقال الشيخ: لأ.. ده أخطر بكثير.. ده محرر الوفيات في الجريدة!

وشوهد البشري حزيناً ذات يوم فسأله حافظ إبراهيم عن سبب حزنه وتعاسته فقال:

جاءني اليوم رجل من بلدة بعيدة يرغب ويلح في نشر اسمه بالجريدة، وسألته: هل أنت عمدة؟

فأجاب لا/ هل أنت من زوار رئيس الوزراء؟ قال: لا/ هل مات قريب لك فننشر اسمك في صفحة الوفيات؟/ أجاب: لا..

فقلت له: اسمع يا عزيزي: روح ارمِ نفسك تحت التراب وهاننشر اسمك!

وهنا سأله حافظ: وإيه اللي مزّعلك في الموضوع؟

فأجاب البشري: الظاهر أن الرجل سمع كلامي؛ لأنه راح وما رجعش!

وقد أبدع البشري باباً نقدياً يعري فيه المسؤولين – كما كتب جمال البنا – ويصور أعلام الأدب والسياسة والفكر في مصر تصويراً فيلميّاً رائعاً، أخذ على القارئين ألبابهم، وجعل كل وزير يترقب حذراً أن يصوره البشري بما يسقط مكانته لدى القراء، وقد قال إسماعيل صدقي – رئيس وزراء مصر، المولود في بلدي زفتى، وكانت سمعته مش قد كدا لا مؤاخذة - قال لبعض أصدقائه إنه لم ينم الليل حين أخبره أحد محرري السياسة أن مقال اليوم التالي في "المرآة" عنه، وقرأ المقال قبل أن تكتحل عيناه بالنوم صباحاً، واطمأن خاطره، فأرسل كتاباً رقيقاً للبشري نشرته السياسة في العدد التالي.

وممن كتب عنهم: إسماعيل سري باشا الذي مدحه كمهندس فاق المهندسين، ولكنه عندما ولي منصب وزارة الأشغال أصبح همه كله تعيين أقاربه ومعارفه، لدرجة أن وسيطاً طلب منه أن يرقي أحد أقرباء وزير آخر، فقال له: "ولماذا أرقي قريبه وهو لا يرقي قريبي"؟ فقيل له: إن قريبك لم يأت عليه الدور، أما قريبه فقد جاء عليه الدور، فرد الباشا: لينتظر إذن حتى يأتي ميعاد ترقية قريبي، حتى أرقي قريبه!

وأمام هذا العناد رقى الوزير الآخر قريبه ترقية استثنائية، فرقى إسماعيل سري قريب الوزير ترقية كان يستحقها من مدة!

ومما يروى عنه من النوادر الظريفة أنه كان - وهو قاضِ شرعي - مجتمعاً في مجلس مع المرحوم الفريق إبراهيم فتحي باشا (وزير الحربية آنذاك) فأراد الباشا الفريق أن يمازحه فقال: هل في الحديث الشريف: (قاض في الجنة، وقاضيان في النار)؟

فأجاب الشيخ على البديهة: نعم. وفي القرآن الكريم:

(فريق في الجنة وفريق في السعير)..

العجيب أن البشري سئل قبل وفاته بأيام عن أعظم شاعر، فقال: إنه الشاعر الساخر عبد الحميد الديب، وإن أعظم ما قاله:

تعلمت فيها صبر أيوب في الغنى                 وذقت الجوع أكثر من غاندي

جوارك - يا ربي - لمثلي رحمة                   فخذني إلى النيران أو جنة الخلد

وكأنما كان البشري ينعي نفسه كما يقول هاني الخير، فارتحل إلى جوار ربه، وكان قبل ذلك حديث الندوات الأدبية، ومجالس الأدب.

وسوم: العدد 692