كتابة القرآن أسلوب تهذيب وتقويم في سجون غزة

للسجون في العالم ثلاث غايات رئيسة ، الأولى : معاقبة الجاني بسلبه حريته ، وحرمانه مما كان يتمتع به قبل سجنه . الثانية : كف أذاه عن المجتمع ، ومنعه من تماديه فيه ، وجعله عبرة رادعة لمن قد يفكر في اتباع سلوكه من الجناة الكامنين . الثالثة : تهذيب نفسه وتقويم ما اعوج من سلوكه ، وإكسابه حرفة تساعده في ابتعاده عن عالم الجريمة خاصة إذا كان فقره سبب جريمته التي قادته إلى السجن .

وتتباين قوة التركيز على الغايات السابقات بين المجتمعات وفق تحضرها ومحافظتها على الحقوق المدنية لمواطنيها . في المجتمعات المتخلفة تكون معاقبة الجاني انتقاما ساديا وحشيا قد يودي بحياته ، أو يتسبب له في عاهة جسدية أو نفسية لا يشفى منها ما عاش ، وربما يتسبب له في هاتين العاهتين ، وهو ما لا يحدث في سجون الدول المتحضرة التي تخضع سجونها لضوابط حقوق إنسان واضحة ، وتراقب من جهات مجتمعية وحقوقية مختصة مراقبة صارمة لصيقة . والشائع الثابت عن السجون العربية أنها مطلقة اليد والضمير في القسوة على السجناء ، ومتحررة من ضوابط حقوق الإنسان ، وخوف المحاسبة . ورغم هذه الحقيقة الفظة المرعبة نجد بعض الدول العربية تتبع في بعض حالات السجناء أسلوبا حسنا في تهذيبهم وإعادة تربيتهم ، وتقصير مدة محكوميتهم ، وقوام هذا الأسلوب توجيههم إلى حفظ أجزاء من القرآن الكريم أو حفظه كله حسب القدرة الخاصة بكل سجين . ومن الدول التي تتبع هذا الأسلوب السعودية وليبيا في زمن المرحوم بإذن الله معمر القذافي . واتبعته سجون غزة في عهد حماس ، والجديد أنها أضافت إليه كتابة القرآن نسخا ، وحدث هذا في مشروع  في سجن الكتيبة بدأ بثمانية سجناء ، يكتبون  منه أربع ساعات يوميا ، فما المنافع المكتسبة من كتابته ؟! إنها منافع جليلة يمكن أن تُحدث في شخصياتهم وحياتهم تحولاتٍ كبيرة ستفاجئهم وتفاجىء غيرهم ، وأهمها : أولا : بناء حسهم اللغوي بناء قويما يفتح طريقهم للتعلم والتثقف وفق أعمارهم وأوضاعهم الاجتماعية ؛ فأسلوب القرآن أفعل وسيلة لبناء الحس اللغوي لما فيه من ثراء في المفردات والتراكيب الرفيعة البلاغة ، والنقاء الإيقاعي المنبعث مما بين ألفاظه وتراكيبه من تناسق صوتي . ثانيا : نفاذ معانيه ومضامينه إلى عقولهم ونفوسهم نفاذا أعمق مما يحدث في حال قراءته الشفوية ؛ فكتابة أي نص كتابة متأنية تقربه إلى النفس والعقل ، وتسهل اكتشاف لطائفه الدلالية وإشراقاته الجمالية ؛ فما الحال إذا كان هذا النص هو النص القرآني بسموه البياني الفريد ؟! في تاريخنا الثقافي والفكري أن حرفة الوِراقة ، مثلما كان يسمى نسخ الكتب وبيعها ، صنع كتابا كبارا مثل أبي حيان التوحيدي .  ثالثا : ستحثهم كتابته إلى فهمه ، والبحث عن وسيلة هذا الفهم في كتب التفسير . رابعا : سيؤثر ما فيه من أوامر ونواهٍ في سلوكهم ، فيهذبه ويقومه ، ويوجهه إلى ما فيه مصلحتهم وسلامة مجتمعهم . خامسا :  ستتحسن قدراتهم على الكتابة الصحيحة أو الإملاء ، وهنا تواجهنا الازدواجية المتمثلة في الاختلاف بين الرسم العثماني المتبع في القرآن والرسم العادي المتبع لدينا في غير القرآن ، ونستحسن اتباع الرسم العادي في هذه الكتابات الفردية . والمسألة توجب إعادة النظر في هذه الازدواجية المزمنة للتخلص منها مع استبقاء ما يلائم تجويد القرآن من رموز في الرسم العثماني .

ونرى أن تتوسع كتابة القرآن يدويا بين الناس لجلال منافعها التي أوجزنا بعضها ، ويمكن أن يكتب الشخص بانتظام أو شبه انتظام عدة آيات يوميا ، ويتفحص ما فيها من معانٍ وتوجيهات وأحكام ومكونات لغوية وأسلوبية حسب مستواه ، وفي حالة السجناء ليس من الضروري إلزامهم بساعات يومية محددة للكتابة ، ويستحسن منحهم حرية كتابة ما يناسب كل واحد منهم حتى لا يشعروا بأي إجبارية في كتابتهم قد تفقدهم شيئا من حماستهم لها . كذلك يمكن توسيع النصوص المكتوبة لتشمل الحديث الشريف ومستحسنات القصائد الشعرية ؛ فهذه المصادر الثلاثة هي الينابيع الصافية الثرة للغة العربية ، ومن لا ينهل  منها ستكون كتابته الإبداعية أيا كان فنها ذاوية لا رواء فيها ولا متعة .

وسوم: العدد 693