هل (كانت) عدن ؟!

ما بين تناقضت الحياة ، تأخذ الامور شكلا اكثر ايضاحا ، ما بينها تولد الفكرة و تخلد في الاذهان – أيًا كانت تلك الفكرة - ، نسكنها و تسكننا بعمق ، تصبح الحياة بعد مدّة من العمر مستحيلة بدون التناقض ، التناقض الذي يشكلنا و نشكله بأوجه مختلفة ،الثقافة التي تنعكس امام سلوكيات تلقائية في معظم الاحيان أما بسبب الموروثات او العادات ،و غالبا يكون هذا التناقض في ثقافتنا غير مرئي ، لكن الحقيقة اننا الذوات الاكثر تناقضنا ،على الاطلاق .....

ما سبب هذه المقدمة ؟!  ...

حينما نعني بتشكل المجتمعات فإننا نكون قد هيئنا – إلى حدٍ ما-  الظروف المناسبة ، لنشوئها و نهضتها

عدن ،مدينة عاشت الكثير ،مدينة احتضنت التناقض –في فترة ما – دون ان يكون لمسلك التقييد و احكام قبضة الاغلال و الاعراف و الهوة الشاسعة – فكريًا - بين افرادها اي طريق لها ، دون أن يكون للتعصب سادية فيها ، في حين كان الجميع يقصدها ، حتّى مارا....  ليرى ما هي عدن ؟..... 

في عدن اثار من رحلوا ، من جميع اصقاع العالم ,في عدن تُبنى الاجيال على الاعترافات و التغني بالماضي ليس إلا ... في عدن يُنشئ جيٌل لا حديث له في انجازاتهم إلا ( كان اجدادنا ) ، ( كانت عدن ) ....

هل ( كانت عدن ؟ ! ) ... ؟ نعم كانت !

ما بين العجز الاقتصادي ، و الحروب و بين تدمير الحياة من كافة نواحيها و غياب الامن بشكل مُفجع ، تقهقرت عدن ، و تقهقرت على إثرها " الثقافة " التي كانت تتجلى بأجمل ما فيها في عدن ,الثقافة التي ينصهر من خلالها ذاك التناقض المريح لنشوء الحياة فيها !

منذً السنوات الخمس الاخيرة بل ربما اكثر ، و عدن تسلك منحدر النزول في مختلف  الميادين و خاصة – في ميدان ،لم نعد نسمع عنه كثيرا و هو – (الثقافة )،و لم تغدُ هي – اقصد عدن - مركز الرّيادة كما كانت ،و كلما تقدمت في العُمر ،كلما عصاها ابناؤها ،و زعزعوا – من احتضنتهم – امنها و استقرارها و ثقافتها ،كان يعتقد الجميع أن عدن ستظل عدن مهما ،استهلكنا منها ....

الحرب الاخيرة .... القشة التي قسمت ظهر البعير  !

كانت الحرب الاخيرة بالنسبة لعدن ،فاجعة و تاريخا دمويا ،ومشهدا قذف الرعب في سكانها , فلم يكن منهم الا انهم قاموا بخفض سقف احلامهم إلى اقصى حدٍ ممكن ...

حاولت بعدها النهوض بقدميها علّها تعود كالسابق ،لكنّ جميع محاولاتها باءت بالفشل ، بل و الفشل السحيق جدا

 و كغيرها من المدن العربية التي عانت بسبب الحروب ،اخفقت في الخروج من بوتقتها ،أما ابناؤها فقد انصهروا بداخل تلك المجريات انصهارا اقرب إلى الكمال ،تركت اثارا من الصعب جدا ان يُمحى ،

مصير الثقافة بين كُل ما سبق ...

بعد رحيل جماعات الحوثي منكسي رؤوسهم ،بدأت المعيشة تتخذ منحنى آخر غير الذي كانتهُ ،وتسلك منحدر النزول و الزوال ليس إلا ..

ظهرت قوّة خفيّة ،كل طموحاتها تتلخص بجعل هذه المدينة تحت تهديد الخطر في أي لحظة ،تارة تهدد الامن بعبوات ناسفة وتفجيرات ،و تارة تهدد انقطاع المشتقات النفطية " كالديزل " فيغيب على اثرها ابسط حقوق المواطن "الكهرباء " ,تأتي ضيفة خفيفة لساعة او ساعة و نصف و إن اطالت البقاء ،لثلاث او اربع ساعات ثم ما تلبث ان تختفي ،وفي ظل هذا التأرجح كانت ابسط حقوق هذه المدينة (الكهرباء) تزيد في ساعات الغياب لفترة محددة من الايام ،بينما في نفس الوقت، كانت تتوفر المشتقات النفطية في اغلب محطاتها ،ويحدث العكس في الفترة التي تليها – سياسية اسكات الشعب من جهة و تخريبها من جهة أخرى ) .. و هكذا دواليك ،ترتفع الاسعار في الاسواق ارتفاعًا يجعل من فقراء تلك المدينة على حافة الانهيار او الجنون ،لتنتشر بعد مدّة الاوبئة و الامراض التي ما تلبث ان تتفاقم و تنتشر و تفتّك بالبنية التحتية ،تفتقر مؤسسات و وزارة الصحة إلى الاساسيات الاولية لبناء مجتمع صحيّ إلى حد ما و الحد من الامراض القاتلة ،فتدخل عدن في دوامة صراع مع المجهول و المصير ,يبحث البعض عن الفرار من هذا الكابوس الذي ما لبث بعد مدّة من الزمن ان تواطأ معهم ،تواطأ فيهم ،و في دواخلهم ،تأتي الكهرباء ،و المشتقات النفطية تأخذ سعر ثابت ،فيغيب (الماء) عن بعض مناطقها إن لم يك معظمها ،لتغوص عدن بحثا عما ينتشلها من هذا المستنقع ،و غاص ابناؤها معها ،إنها مدينة الرّعب و الاشباح ،مدينة اضحت لا تقوى على الاستمرار ،كان الامل يتسرب كضباب وسط صحراء نائية ،ثم ما يلبث ان يختفي .... و في خضم ذاك كُلّه و بسبب تلك المعطيات و المجريات ،غابت الثقافة إلى حدٍ كبير . 

في عدن تشكلت بعد فترة وجيزة - من الحرب- هوّة أكبر من سابقتها بين من يحمل الشعارات الثقافية ،و بين يبحث عن لقمة تقيه مذلة السؤال و الحاجة ،الثقافة في عدن ما لبثت ان صارت ميدانا له زائريه و رواده فقط و تقوقعت هي فيهم ليتقوقعوا هم فيها ،في حين أن الفئة الاخرى تقف عن الحد الادنى لمتطلباتها .

لكن ما هي الثقافة التي اعنيها على وجه الخصوص ؟!

للثقافة اوجه عدّة ،لا تكاد تنحصر في تعريف معين ، أما الثقافة التي اعني بها في مقالتي هذه ،فهي الثقافة التي تُعيد من هيكلة و بناء المجتمع ،ليشكل تناغم و تماسك اكثر بين الافراد الذين يرتادون اماكن العلم و والكتاب و المعرفة ،و غيرهم من عامة الناس ،او هي الثقافة التي تُنزل "الكتاب" لميدان الواقع والحياة العامة و الانسان البسيط ،والانفتاح على العالم الاخر و تقبله ،بما لا يدع ذاك الانفتاح ،تغيّب الهويّة او المبادئ .

إن قارئ اليوم ،يحرّض  بقيّة من حولهِ ان ينظروا إليه " المختلف " ، و يحدث احيانا ان ينظر القارئ لمن حوله نظرة متعالية

لم يعد للثقافة أو الانفتاح على العالم الاخر أو حتّى غياب التعصّب أي بساطة او سهولة ،لعلّ هُناك عوامل متباينة ادّت بالضرورة لخلق هذه الفجوة اهمها :-

1-         دور المبادرات و المؤسسات الثقافية و الناشطين في عدم مقدرتهم على ايصال اهدافها لبقية ابناء المدينة او للفئة التي لا تصلها انشطتهم على وجه التحديد .

2-         قولبة خُطب المساجد في امور محددة لا تكاد تخرج عن صياغتها و ربما كلماتها ايضا ،و بالتالي يُمارس التعصب الديني مهمته في وضع حواجز غير مرئية

3-         محاولة بعض شباب المدينة لكسر حاجز التقليد و التعصب ،و ممارسة الحُرية في ظل التعصب السائد و لغة السلاح ,كأحد دوافع التطور

4-         دور التعليم و المنشئات الدراسية و التعليمية في حصر القراءة ضمن المناهج المحددة ،بما لا يسمح في معظم الاحيان من الخروج عن بوتقتها و صياغتها المتكررة القديمة

5-         غياب الوعي التام بمفهومية الثقافة ،و التعايش السلمي .

6-         ترسخ  معتقدات بعيدة عن الحقيقة و الواقع في اذهان من يملكون شهادات تعليمية متدنية .

7-         جعل لغة السلاح من المتعصبين دينيا او فكريا هي السائدة او المنتشرة .

8-         حظر الاماكن التي تنتشر فيها الموسيقى و الاماكن الترفيهية و تعرضها للتهديد من قِبل افراد متعصبّة دينيا او سياسيا ،و جعل اللغة الرسمية بتعاملها هي لغة السلاح والقتل ليس إلا .

9-         توريث بعض المعتقدات الزائفة عن ثقافة " العيب " او "الحرام " .

 كل هذه المعطيات و اكثر أدّت إلى عدم الانسجام بين افرادها ،انسجاما تاما ،لتشكل فيما بعد طبقتين منفصلتين عن بعضهما – فكريًا – ،

أما الثقافة في مفهومها العام فهي –  من وجهة نظري –ميدان ذو اهمية كبيرة ،مثلهُ مثل ميدان الصحّة و الامن ,لكن و في ظِل غياب الدولة و اساسياتها ،تغدو الكماليات بالنسبة لمعظم ابناء مدينة عدن حلم بعيد المنال ،و هذا تحديدًا ما زرع التناقض بين افرادها ،إن محاربة الفكرة ،لا تكون إلا بالفكرة ،و حمل السلاح في وجهها تغدو فعلًا احمقًا ، إن أي دولة – في رأيي - تريد ان تقيم " ثورة فكرية "،أو تبدد نظاما ،أو تسع للافضل بحد ذاتها ،عليها اولا ان تحدد الاهداف التي هي بصدد العمل على تحقيقها ،إن العبث بمقتضيات الثورة لن ينتج الا عبثا ! ،و العبث يعني الزوال يعني الانحدار نحو الاسفل .

وسوم: العدد 693