ما تجاهلته «البوصلة».. وسقط من قائمة الأولويات
يقول الفيلسوف الأميركي رالف والدو إميرسون: «العالم بأسره يفسح الطريق للشخص الذي يعرف وِجهته»، ربما تعكس هذه المقولة حالة انعدام البوصلة التي يعيش في ظلها العالم الإسلامي والعربي، والتي جعلته يعيش بين الأمم على ردود الأفعال من دون صناعتها. الاهتمام بالتعليم كأحد أهم عوامل النهوض، تجاهلته البوصلة تماماً في الوطن العربي، ولم يزد عن كونه عبئاً على موازنة الدول، بينما استفاد منه الغرب في إحداث نقلة بعيدة في عملية النهضة.
ضعف الاهتمام بالتعليم جعل من بلادنا مجرد أسواق كبيرة، ونأى بها عن الدخول في مسمى المجتمعات التكنولوجية، ذلك لأن البحث العلمي يُمثل الجانب الأول من جوانب التكنولوجيا، يضاف إليه الأدوات التصنيعية، وحسن استخدام المنتجات. يقول الدكتور جاسم سلطان في كتابه «قوانين النهضة»: «المجتمعات التي لا تشارك في البحث العلمي بنصيب، ولا تمتلك هذه الأداة المعرفية، ولا تمتلك الأداة التصنيعية أو المصانع التي تقوم بتحويل الأفكار إلى منتجات، ثم هي لا تحسن استخدامها، فهي ليست مجتمعات تكنولوجية، إنما هي أسواق كبيرة.
وفي غياب المفهوم الثلاثي الجوانب للتكنولوجيا يصبح المفهوم العلمي عندنا مختلفاً عن المفهوم العلمي السائد في المجتمعات التكنولوجية الحقيقية، فيصبح الهدف هو تحصيل الشهادات من غير تحصيل المعرفة الضرورية». ضآلة حجم الإنفاق على البحث العلمي في معظم الدول العربية ليس المظهر الوحيد لضعف الاهتمام بالتعليم، فهناك الخلل في المنظومة التعليمية، والفجوة الكبيرة بين نظام التعليم ومتطلبات سوق التنمية، وضعف الاهتمام المبكر بالمبدعين والمتفوقين، وعدم احتواء العباقرة والنابغين، مما أدى إلى هجرة العقول العربية، فمعظم المخترعين والعلماء العرب وجدوا الأبواب مغلقة من دون رعاية إنتاجهم العلمي داخل أوطانهم، بينما استقبلهم الغرب فاتحاً ذراعيه.
تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة في 2003، كان أحد التقارير التي كشفت الآثار الوخيمة لضعف الاهتمام بالتعليم في الأمة الإسلامية، فمن حيث طلبات تسجيل براءات الاختراع (لكل مليون من السكان)، بلغ عدد الطلبات في فنلندا 21.045، في مقابل 15 في الأردن، و5 في عُمان، إنه بَوْن شاسع مخيف.
عدد العلماء والمهندسين العاملين بالبحث العلمي والتطوير (لكل مليون من السكان) في أميركا الشمالية بلغ 4000، في مقابل 300 في دول الوطن العربي مجتمعة. وأما عدد الإصدارات والكتب المؤلفة والمترجمة (لكل مليون من السكان) للكيان الصهيوني في 1995 فكان 3.284 كتاباً، في مقابل 1.348 لكل الدول العربية مجتمعة في السنة نفسها. الأمة الإسلامية والعربية لم يكن ينقصها الشواهد التاريخية والمعاصرة الدالة على ضرورة التركيز على التعليم كأساس لأي مشروع نهضوي. فالحضارة الإسلامية التي انطلقت من الأساس الذي وُضع في عهد الرعيل الأول، شُيّدت على الفكرة الإسلامية الصحيحة، التي تربط بين رسالة الإسلام السماوية وإعمار الأرض قياماً بحق الاستخلاف في الأرض، فمِن ثمّ شهدت عصور الإسلام نهضة علمية حضارية سادت بها ساحات التقدم والمدنية، في وقت عاش فيه الغرب في ظلمة الجهل في عصوره الوسطى.
لم يكن لدى العرب رصيد علمي سابق مقارنة بالأمم الأخرى، فمن ثم اتجهوا بقوة للترجمة عن اللغة الإغريقية واللاتينية بصفة خاصة، فكانت المُنطلق للحركة العلمية التي شهدها العالم الإسلامي، وانطلقوا بعدها إلى إنشاء علوم والزيادة على علوم أخرى، واعتمدوا المنهج العلمي التجريبي الذي يعتمد على التجربة والبرهان، بخلاف الإغريق الذين اعتمدوا في منهجهم على الفلسفة والنظريات، وأصبحت الحضارة الإسلامية شمساً للعلم والمعرفة سطعت على أوروبا. لذلك لم تبالغ سيجريد هونكه في كتابها «شمس الله تشرق على الغرب»، حين قالت: «في مراكز العلم الأوروبية لم يكن هناك عالم واحد إلا ومدّ يده إلى الكنوز العربية يغترف منها، وينهل كما ينهل الظامئ من الماء العذب، ولم يكن هناك ثمة كتاب واحد بين الكتب التي ظهرت في أوروبا في ذلك الوقت إلا وقد ارتوت صفحاته بوفرة من نبع الحضارة العربية».
وفي كتابه «عندما تغيّر العالم» تناول «جيمس بيرك» الحركة العلمية التي ازدهرت في الأندلس، وأظهر تأثُّر الغرب بحضارة المسلمين فيها، فقال: «استمر تدفق طلاب العلم على إسبانيا في طوفان منتظم، فاستقر بعضهم هناك، وتفرغ بعضهم لترجمة النصوص التي يبحثون عنها، ثم عادوا مرة أخرى إلى بلادهم في الشمال، غير أن الجميع أصابهم الذهول من تلك الحضارة التي وجدوها في الأندلس، لقد كان العرب ينظرون إلى الأوروبيين الشماليين على أنهم لا يزيدون في مستواهم الفكري والثقافي على مستوى الصوماليين، أما المثقفون الشماليون فقد وجدوا في إسبانيا مجتمعاً ثقافياً على درجة عالية جداً من التفوق بالمقارنة مع مستوى المجتمع الثقافي في بلادهم».
وليس الغرض من سَوْق هذه الشهادات التباكي على الماضي ورثاء المجد التليد، لكنه تقرير لحقيقة قيام النهضة على أساس الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي. لم يجد التعليم مكاناً مناسباً له وسط التخبط في الأولويات لدى الدول العربية، ولم ننظر بجدية إلى التجارب المعاصرة للدول الأخرى، والتي كان جوهرها الاهتمام بالتعليم. التجربة الهندية كانت إحدى التجارب التي أُهمل الاهتمام بها والاستفادة منها في الوطن العربي، الذي يتشابه إلى حد كبير في ظروفه مع المجتمع الهندي، تلك التجربة التي نجحت بسبب رهان الهنود على تطوير التعليم. فالطفرة التي حدثت في الهند في مجالات العلوم والتكنولوجيا والفضاء، ترجع إلى النظام التعليمي المتطور، الذي صار يجتذب إليه آلاف الطلاب من جميع أنحاء العالم، واحتضانها أرقى الجامعات في العالم، وجعْل الاهتمام بالتعليم سلوكاً اجتماعياً دائماً، حتى قيل إن بعض الأمهات يبعن ما لديهن من ذهب وممتلكات لتعليم أبنائهن، تفرّع عن هذا الاهتمام تأثير بالغ في سوق العمل.
يقول الباحث منصور العرابي في كتابه «التجربة الهندية»: «نرى انعكاس مخرجات التعليم في الهند يظهر في سوق عمل مهمة في منطقة الخليج العربي وأفريقيا والولايات المتحدة، هذا الانعكاس نتيجة تطور تعليمي هائل شهدته وتشهده الهند في العلوم والآداب والعلوم التطبيقية المختلفة، حيث أسست العديد من الجامعات الوطنية المتخصصة، إضافة إلى ذهاب الأساتذة الجامعيين الهنود إلى مختلف أنحاء العالم». ربما يتضح موقع التعليم في التجربة الهندية، إذا علمنا أن 12 في المئة من العلماء الأميركيين من أصل هندي، و36 في المئة من علماء «ناسا» هم من الهنود، وكذلك 38 في المئة من أطبائهم من الهنود أيضاً.
تفوُّق التعليم في الهند كان نتاج أسباب عدة، منها: إشراف وزارة تنمية الموارد البشرية على المسارات التعليمية، والتمويل القوي من الحكومة المركزية والحكومات المحلية، إضافة إلى الاهتمام البالغ بالرياضيات والعلوم، مما أنتج أعداداً هائلة من خريجي العلوم والهندسة المتمكنين بالتوازي مع إجادة الإنكليزية، وهو ما حقق للدولة الاستفادة من الطلب العالمي على تكنولوجيا المعلومات.
ولكن أهم ملامح النجاح في التجربة الهندية حيال التعليم، ربْط مخرجاته بحاجات السوق العالمية، وتحديد متطلبات التنمية وحاجاتها من العمالة، وهو ما تفتقر إليه البيئة العربية. فالتعليم في معظم دول الوطن العربي يبتعد كثيراً عن متطلبات السوق والتنمية، وأصبح بمثابة سباق لنيل الشهادات، ويعتمد على درجة التحصيل لا على الطاقات والقدرات والميول، ومن ثمّ حدث التكدّس في تخصصات، والفقر في تخصصات أخرى. لا يُعقل أن نتجاهل التعليم الذي يضمن الدفع بعجلة التنمية وخلْق مجتمعات تكنولوجية، ونكتفي بأن نكون مجرد أسواق تجارية، وعُرضة لما يحركها من التقلبات السياسية.
وسوم: العدد 694