توزيع الأراضي في (جزيرة العرب) على عشائر (بني إسرائيل)!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 235

ينطلق مؤلِّف «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير» بثقةٍ- قاطعة أحيانًا- في تخرُّصاته الجغرافيَّة، في حين يكشف وصفُه عن جهله الفاضح بحدود المواقع التي يتحدَّث عنها وطبائعها وتواريخها، بل جهله بالأسماء الصحيحة لبعض الأماكن.  مثال ذلك- إضافة إلى ما مرَّ في المقالات الماضية- إشارته إلى (جبال الحَشَر) على أنها: «منطقة الحُشَّر»!(1)  وإشارته إلى (المِخْلاف السليماني) على أنه: «المخالف السليماني».(2)  بل قد لا يعرف المكان الذي يربطه بالتوراة، لا لفظًا ولا معنى.  مثال ذلك أنه وقف على ما ورد في (سِفر يشوع)، (الإصحاح الخامس عشر)، عمَّا كان من القُرعة لتحديد مواطِن سِبط (بني يَهوذا) حسب عشائرهم، حيث جاء القول:

«وَفِي الـجَبَلِ: شَامِيرُ وَيَتِّيرُ وَسُوكُوهُ، وَدَنَّةُ وَقَرْيَةُ سَنَّةَ، هِيَ دَبِيرُ. وَعَنَابُ وَأَشْتِمُوهُ وَعَانِيمُ، وَجُوشَنُ وَحُولُونُ وَجِيلُوهُ. إِحْدَى عَشْرَةَ مَدِينَةً مَعَ ضِيَاعِهَا. أَرَابُ وَدُومَةُ وَأَشْعَانُ، وَيَنُومُ وَبَيْتُ تَفُّوحَ وَأَفِيقَةُ، وَحُمْطَةُ وَقَرْيَةُ أَرْبَعَ، هِيَ حَبْرُونُ، وَصِيعُورُ. تِسْعُ مُدُنٍ مَعَ ضِيَاعِهَا. مَعُونُ وَكَرْمَلُ وَزِيفُ وَيُوطَةُ، وَيَزْرَعِيلُ وَيَقْدَعَامُ وَزَانُوحُ، وَالْقَايِنُ وَجِبْعَةُ وَتِمْنَةُ. عَشْرُ مُدُنٍ مَعَ ضِيَاعِهَا. حَلْحُولُ وَبَيْتُ صُورٍ وَجَدُورُ، وَمَعَارَةُ وَبَيْتُ عَنُوتَ وَأَلْتَقُونُ. سِتُّ مُدُنٍ مَعَ ضِيَاعِهَا. قَرْيَةُ بَعْل، هِيَ قَرْيَةُ يَعَارِيمَ، وَالرَّبَّةُ. مَدِينَتَانِ مَعَ ضِيَاعِهِمَا.»

فلجَّ لُجوجًا عجيبًا في إلصاق الأماكن المذكورة أعلاه، وبأيَّة كيفيَّة من الكيفيَّات المعهودة لديه، على امتداد رُقعةٍ مشتَّتة، تَفَحَّجَتْ ما بين (القُنفذة) شَمالًا إلى  جبال (فَيْفاء) جَنوبًا!  ذلك أنه في الفصل السادس والسابع من كتابه كان قد أخذ على عاتقه مهمَّة توزيع الأراضي في (عسير) و(جازان) و(غامد وزهران) على عشائر (بني إسرائيل)، وتحديد الحدود بين أسباطها، في ما أسماه «أرض الميعاد»!  فـ«أرض الميعاد»- حسب «قناعاته الشخصيَّة» ورفقائه في هذا المضمار من العبث التاريخي!- تقع في جَنوب (المملكة العربيَّة السعوديَّة) اليوم، على التباين بين هؤلاء المؤلِّفين في تحديد المدينة اليهوديَّة المقدَّسة: (أورشليم)!  حتى لم يبق- من فرط يقينه بمشروعيَّة ما يفعل، عِلْميًّا وتاريخيًّا- إلَّا أن يمنح تلك العشائر العبرانيَّة، لو استطاع، صكوكه المدموغة بحماسه الاعتقادي المنقطع النظير!  وإذا كان (أحمد داوود)(3) قد ذهب إلى أن ما سُمِّي «أرض الميعاد» ما كان يعدو مراعي تقع على مرمى البصر من بلاد غامد وزهران، فإن (زياد مُنَى) كان يضرب في شعاب الأرض، جَنوبًا وشَمالًا، شرقًا وغربًا، تتبُّعًا للحروف والأسماء؛ حتى لم تَعُد لأرض سبطٍ من الأسباط حدودٌ معقولة؛ فتجد طرفًا منها في اليَمَن وآخر في القنفذة، أو في شَمال الحجاز، أو في غامد وزهران!  وهكذا، فحيثما التمح الحروف التي تُشبِه حروف الأسماء الواردة في التوراة- من قريب أو بعيد- فثمَّة أرض بني إسرائيل، أينما كانت، وإنما شرطه الوحيد أن يكون المكان في الجزيرة العربيَّة، ولاسيما جَنوبًا وغربًا!

وقد وافق أستاذَه (الصليبي) على أن «قرية ءربع» تقع في منطقة (اللِّيث)، وهي: (قرية آل سيلان)، و(قرية الشياب)، و(قرية عاصية)، و(قرية عامر).  أمَّا (حبرون)، فهي (الخربان) بـ(المجاردة)!  يزعمان هذا على الرغم من أن مستهلَّ النصِّ التوراتي يشير إلى أن تلك الأماكن تقع في: «جبل»، ويدلُّ النصُّ على أنها مواضع متجاورة.  ثمَّ يطرح (مُنَى) احتمالًا آخر عن تلك القُرَى الأربع؛ إذ ما أكثر القُرَى في جزيرة العرب، وما أكثر البدائل!  ذلك الاحتمال الآخر، الذي احتملَه، هو أن المقصود: (قرية بني علي)، و(قرية علي بن موسى)، و(قرية عُمَر مقبول) و(قرية موسى بن عبدالله)، في (جازان)!(4)  فها هي تي قُرًى أربع، وماذا تريد من مؤيِّدٍ لهذا الاحتمال أعزَّ من هذا الدليل، وهو وجود أربع قُرًى متجاورة؟!  وكانت إحدى هذه القُرَى، وهي (قرية عُمَر مقبول)- الواقعة في ناحية (المَضايا) في جازان- قد ذهب (الصليبي) إلى أنها المكان التوراتي: (بت عرم)!(5) 

غير أن شاهدنا النموذجي- في غضون هذا التخبُّط العارم، المتوارث منذ مغامرات الصليبي- يمكن أن يتمثَّل في قول (مُنَى)(6): إن (مَعَارَة) هو «(معرة/ معرت) في منطقة فيفا بجيزان»!  لن أقف لتصحيح هذين الاسمين (فيفا) و(جيزان)؛ فمثل هذا بحرٌ لا ساحل له لدى هؤلاء المؤلِّفين، لكني أقف لأسأل:

أين «(معرة) في فَيْفاء»؟ 

لا أعرف مكانًا في فَيْفاء بهذا الاسم. 

ولتَلحظ أن النصَّ التوراتي يشير إلى أن تلك الأسماء- ومنها (مَعَارَة)- أسماء مُدُن، قائلًا: إنها «سِتُّ مُدُنٍ مَعَ ضِيَاعِهَا».  إذن (معرة): مدينة، وحسب (مُنَى)، كانت تقع في شماريخ جبال فَيْفاء، التي لا مُدُن فيها ولا قُرى، وإنَّما بيوتٌ متناثرةٌ ومدرَّجات زراعيَّة! 

دع عنك هذا، ولكن: تُرَى أين وقع المؤلِّف على هذا الاسم: (معرة)؟ 

ليس هناك إلَّا بيتٌ عائليٌّ عاديٌّ مأهولٌ في جبل (آل بِلْحَكَم/ أبي الحَكَم) في (فَيْفاء) اسمه: (العُرَّة)، وحوله بُقعة بالاسم نفسه.  وبحسب الاستعمال اللهجي اليماني المعروف يستعملون (امْـ) بدل (الـ) التعريف؛ فيسمُّونه: «امْعُرَّة».  أ ذلك المنزل الذي بناه أبناء أُسرة من فَيْفاء وسمَّوه «امْعُرَّة/ العُرَّة» هو، إذن، (مدينة مَعَارَة) التاريخيَّة، من مُدُن سِبط (بني يَهوذا)؟!  

لا شكَّ أن العِلْم بحر! 

وإذا رَكِبَ المرءَ الهوَى، أبحرَ هكذا فيه بلا حدود، حتى يصبح بيتٌ عائليٌّ معاصرٌ مدينةً تاريخيَّةً منذ آلاف السنين!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) انظر: مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)، 123. 

ويقع (جبل الحَشَر) شَمال (جبال بني مالك)، المجاورة لـ(جبال فَيْفاء)، جَنوب غَرب (السُّعوديَّة)، ضِمن النطاق التقريبيِّ بين خط العَرض 17 درجة وخط الطول 43 درجة.

(2) انظر: م.ن، 162.

(3) انظر: (1991)، العرب والساميُّون والعبرانيُّون وبنو إسرائيل واليهود، (دمشق: دار المستقبل)،170.    

(4) انظر: مُنَى، 154.

(5) انظر: الصليبي، (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزَّاز (بيروت: مؤسَّسة الأبحاث العربيَّة)، 213- 214.

(6) 157.

.................................................................

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان المادة: «توزيع الأراضي في (جزيرة العرب) على عشائر (بني إسرائيل)!»، صحيفة "الرأي" الكويتية، الأربعاء 30 نوفمبر 2016، ص31].

وسوم: العدد 697