الدفاع عن العقل يقتضي احترامه من خلال تنكب الانسياق العاطفي وراء الرأي

 قرأت المقال الذي نشره على موقع وجدة سيتي السيد مصطفى قشنني  تحت عنوان : " من يريد اغتيال الفلسفة حتما يريد اغتيال العقل "  وهو مقال يندرج ضمن تداعيات  القضية التي أثارتها جمعية مدرسي الفلسفة بخصوص ما تضمنه أحد كتب مادة التربية الإسلامية من نصوص اعتبرت مسيئة لمادة الفلسفة . وانطلاقا من عنوان هذا المقال يترقب القارىء  دفاعا عن الفلسفة بطريقة فلسفية عقلية  لا يوجد فيها انسياق عاطفي وراء إبداء الرأي ووجهة النظر .والمتأمل لعبارات تخللت هذا المقال يلاحظ بشكل واضح غلبة المنطق العاطفي  على المنطق العقلي . وفيما يلي نماذج من تلك العبارات :

ـ  الخروج السيء لكتب مادة التربية الإسلامية .

ـ الأخونة ، التزمت ،التطرف، الرجعية .

ـ تعشيش نفس وهابي غاية في الحقد .

ـ علماء الشريعة الذين أشهروا تاريخيا عداءهم للفسلفة  والعقل .

ـ  المتعصب السلفي الأصولي ابن تيمية .

ـ ابن تيمية الذي لا زال  فكره وعقيدته  الشاذة ومنذ ثمانية قرون على وفاته سبب ويلات المسلمين ومكمن تطاحنهم  وتشرذمهم  بسبب غلوه  وغلو عقيدة أتباعه التكفيريين المتنطعين الاستئصاليين  من نحل القاعدة، وداعش،  والإخوان،  وبوكوحرام .

ـ الأخونة أصبحت ضاربة أطنابها  في كل مناحي الحياة المغربية .

ـ الجهل والفتاوى المتزمة  الشاذة .

ـ  خطاب مكرس للرتابة المبلدة للحواس في ثنايا الدرس التربوي المغربي .

ـ  خلفية مقيتة  تحرك خيوطها أنامل إيديولوجية .

ـ دعم قوى الاستبداد والتخلف والإرهاب  والدجل والنكوص والاصطفاف مع الرجعية  والظلامية والاتجاهات المناقضة  للفهم السليم للدين  والخارجة عن نسقه العام .

هذه العبارات تعكس مدى انفلات النقاش الموضوعي من صاحب المقال ، وتكشف الخلفية الإيديولوجية التي صدر عنها ، والتي لم يخفها من خلال انتصاره لما سماه الفكر التنويري  الحداثي  العقلاني  مقابل فكر نعته بالظلامي والرجعي.

 ومما يسجل عن هذا المقال أن صاحبه  عبر عن حساسية ضد ما سماه الفكر الإخواني ، وهو يضع لفظة إخواني بين مزدوجتين  علما بأن هذا الوضع له دلالته في قانون علامات الترقيم ، كما أنه يتعمد الخلط بين عصابات إجرامية كالقاعدة وداعش وبوكو حرام  من جهة وبين جماعة الإخوان المسلمين لحاجة في نفسه كحاجة متزعم الانقلاب في مصر على الشرعية والديمقراطية  وأمثاله من العلمانيين  ممن يتعمدون إدراج جماعة الإخوان المشهورة بنبذ العنف  ضمن التنظيمات الإجرامية التي تتبنى العنف  بغرض تشويهها والنيل منها لمجرد أنها مارست حقها في المشاركة السياسية  ، واحتكمت مع غيرها من التيارات السياسية والحزبية إلى الصناديق الزجاجية ، وشاركت في اللعبة الديمقراطية  بروح رياضية ، وفازت عن جدارة واستحقاق إلا أن الذين يتشدقون بالديمقراطية  انقلبوا عليها لأن رياحها جرت بما لا تشتهيه سفن أهوائهم ، فعمدوا إلى تصنيف الإخوان ضمن عصابات الإجرام بغرض إقصائهم  واستئصالهم . واستعمال العقل  خصوصا الفلسفي يقتضي الموضوعية  في التصنيف والأحكام  وإن تعلق الأمر بمن يخالفك الرأي والتوجه والاعتقاد . فليس الإخوان من القاعدة ولا من داعش و لا من بوكو حرام بحال من الأحوال . ولو أن صاحب المقال تابع ما صدر عن زعيم داعش في التسجيل  الذي بثته وسائل الإعلام الدولية لسمع تجريحه للإخوان تجريحا يفوق ما جرحهم به متزعم الانقلاب في مصر ، وما يجرحهم به العلمانيون . ومن الاندفاع العاطفي  في الرأي المجازفة بالقول بأن الأخونة أصبحت ضاربة أطنابها  في كل مناحي الحياة المغربية ، وهو قول لا يمكن أن يصدر عن إنسان ينتمي إلى اتحاد كتاب وهو اتحاذ النخبة المفكرة . ولا يمكن اعتبار التزام المغاربة بالتدين أخونة لأن المغاربة  ليسوا في حاجة إلى إخوان مصر أو غيرهم لمعرفة الإسلام  الذي ورثوه أبا عن جد ، ووصلهم يوم وصل غيرهم  أو لممارسة التدين. ومعلوم أن وصف التدين المغربي بتدين الإخوان حسب ما  توحي به عبارة  السيد قشنني  هو صراع أو على وجه الدقة خلاف بين  المتدينين الظلاميين  والحداثيين المتنورين  حسب وصفه. ولقد ظل نعت كل متدين في المغرب بالإخواني نعتا قدحيا متداولا بين العامة الذين لا علم لهم بالإخوان ولا بفكرهم ، وبين  من لهم حساسية مع التدين من المثقفين وأغلبهم يمنعهم كبرياؤهم من الاطلاع على فكر الإخوان والفكر الإسلامي عموما . ومعلوم أن الحساسية تجاه الإخوان في العالم الغربي مردها  اشتمال فكر هؤلاء على فكرة رفض وجود كيان صهيوني محتل لأرض فلسطين . ولما كانت بعض  فصائل المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني ذات توجه إسلامي، فإن الاحتلال يعتبر كل أشكال المقاومة ضده إرهابا وعلى رأس الإرهاب بالنسبة إليه حركتي المقاومة الإسلامية حماس والجهاد ، وعن الكيان الصهيوني تلقف الغرب وصف هذه المقاومة بالإرهاب ، وعنه أيضا تلقف الانقلابيون على الديمقراطية في مصر الوصف ذاته من أجل تبرير انقلابهم والتنكيل بخصومهم من حزب الإخوان . ولقد وقف النظام المصري الحالي في خندق واحد مع الكيان الصهيوني حين أغرق أنفاق غزة بمياه البحر والتي كانت شرايين إمداد القطاع بحاجياته الضرورية نزولا تنفيذا  لإملاء صهيوني . ويجتهد الكيان الصهيوني ومعه الغرب المؤيد له للخلط بين عصابات داعش الإجرامية  التي صنعت مخابراتية بشهادات مفكرين غربيين تبادل الرأي العام مؤخرا فيديوهات لهم تصرح بذلك وبين جماعة الإخوان ، وكل الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية ، وهو ما يصفه الغرب بالإسلام السياسي المرفوض لديه  . ولقد قدمت عصابات داعش  الإجرامية خدمة كبرى للكيان الصهيوني وحلفائه بإجرامها الذي ينسب إلى الإسلام كذبا وافتراء عليه ، ويحشر كل من له علاقة بالإسلام فيها بهتانا وإثما مبينا . ومن المؤسف  جدا أن يجاري المحسوبون على التنوير والتقدمية  والحداثة والعلمانية  عندنا أيضا  الكيان الصهيوني  في بهتانه على غرار ما فعلته الكيانات الغربية المتوجسة من الإسلام ، ومرد ذلك الخلاف مع الإسلاميين  في أسلوب وكيفية  الخروج من دائرة التخلف، ففي حين يرى الإسلاميون هذا الخروج في العودة إلى ما أنهض الأمة أول الأمر ، يراهن غيرهم من العلمانيين والحداثيين على اقتفاء أثر الغرب  واتباعه قضا وقضيضا دون تمييز بين غثه وسمينه مع الخلط بين التطور التكنولوجي والواقع الإيديولوجي والثقافي  لهذا الغرب . وعوض أن يعترف العلمانيون أنهم هم الدخلاء على مجتمع مسلم أبا عن جد، فإنهم يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق الشرعيين في قيادة هذا المجتمعات العربية الإسلامية ، واستبدال تدينها بعلمانيتهم . ومن أجل تحقيق هذا الهدف يلجأ هؤلاء إلى أسلوب التجريم في حق الإسلاميين ، وتعمد خلطهم مع العصابات الإجرامية التي ترتكب جرائمها باسم الدين ، وذلك من أجل استعداء الأنظمة عليهم . وكلنا يذكر كيف حاول الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية إيجاد صلة بين أحداث 16 ماي وحزب العدالة والتنمية ، وكيف طالب الأمين العام لحزب الاستقلال بالإطاحة بحزب العدالة والتنمية إبان حدوث الانقلاب العسكري على حزب الحرية والعدالة المصري ، وبعد ذلك شاركا معا في الحكومة السابقة ، ويسعيان اليوم  أيضا للمشاركة في الحكومة المقبلة ، و قد كان قولهما في حزب العدالة والتنمية دليلا على أن الأمر يتعلق بصراع معه قصد تصفية حساب سياسوي وحزبي . وهذا شأن كل من يحاول خونجة الإسلاميين من العلمانيين والحداثيين . ومن الغريب أن يطعن هؤلاء في مفكرين كبار ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين من أمثال الشهيدين الحسنى البنا، وسيد قطب، ومحمد الغزالي ،ومحمد قطب ،ويوسف القرضاوي... وغيرهم ، وأعمالهم الفكرية تشهد على أنهم لا علاقة لهم بالفكر الخارجي المؤطر للعنف والإرهاب والكراهية . ولقد شاركت جماعة الإخوان في تحرير مصر إبان الاحتلال الإنجليزي لكن رفاقها من القوميين أكلوا تمرها ورموها بالنوى، بل نكلوا بها في السجون والمعتقلات ، وكرروا التنكيل بها بعد نجاح حزبها في الانتخابات ،وأودعوا قياداتها السجون والمعتقلات كما كان الحال من قبل . ويحلم أعداء الأحزاب ذات التوجه الإسلامي في طول الوطن العربي  وعرضه بالنجاح في تأليب الأنظمة عليها من خلال اتهامها بالتنظير للعنف والإرهاب ، وهو اتهام متهافت ومثير للسخرية ، وواضح التلفيق .  ولا زال العلمانيون والحداثيون لم يتحرروا من التفكير في استئصال الإسلاميين. وعوض التعايش معهم ، وقبول ممارسة اللعبة الديمقراطية معهم بروح رياضية ، فإنهم يلوحون بسلاح الاستئصال والإقصاء  عن طريق تلفيق التهم الباطلة لهم . ولقد أثبتت التجربة السياسية التركية أنه بإمكان الإسلاميين والعلمانيين  ركوب قطار ديمقراطي واحد مع بقاء كل منهم على عقيدته ، كما أثبت الإسلاميون هناك أنهم يجيدون اللعبة الديمقراطية والعمل السياسي المثمر، وهذا ما تتوجس منه معظم الأنظمة العربية  مخافة انتقال التجربة التركية إلى البلاد العربية والتي من شأنها أن تثبت بأن الأحزاب ذات التوجه الإسلامي مؤهلة لتدبير الشؤون بشكل ناجح على غرار جزب العدالة والتنمية التركي . ولسنا ندري لماذا يصر العلمانيون على منع الإسلاميين من مشاركتهم ركوب القطار الديمقراطي ؟ وهذا الخلاف بين العلمانيين والإسلامين هو الذي يأخذ شكل تجليات صراع في هذا المحطة أو تلك ، فمرة يندلع الصراع  بسبب مفهوم  الحرية ، ومرة أخرى يندلع  بسبب المرأة أو الأسرة ، ومرة ثالثة بسبب المنظومة التربوية ... إلى غير ذلك من القضايا الاجتماعية والفكرية التي من البديهي أن يحصل فيها خلاف بين وجهتي نظر تؤطر كل واحدة منهما فلسفة أو إيديولوجيا خاصة . ولقد فصل القول في موضوع الصراع بين القديم والجديد الدكتور محمد الكتاني في أطروحته المنشورة ، وهو صراع نتج عن احتكاك العالم العربي بالغرب الذي احتله خلال القرنين التاسع عشر والعشرين . ولقد كان الغرب هو من سوق للفكر العلماني في الوطن  العربي، ولا زال يسوق له من أجل ضرب حصار على الفكر الإسلامي الذي يتوجس منه .

أما بخصوص موضوع موقف الشيخ ابن تيمية من الفلسفة ، فأنصح السيد مصطفى قشنني أن يطلع على القراءة النقدية التي قام بها عبد الله بن عبد العزيز الهدلق لبحث سعود السحان بعنوان : " الحكمة المصلوبة مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة " عسى أن يجد في تلك القراءة النقدية ما يجعله يغير رأيه في فكر بن تيمية الذي كثيرا ما ينتقده من لم يكلفوا أنفسهم  مجردالاطلاع عليه، وهو فكر ضخم من غير الحكمة وصف صاحبه بما وصفه  به صاحب المقال .

وأخيرا  نقول إن الرأي يقارع بالرأي، ولا مجال في ذلك للعاطفة والاندفاع وصدق من قال : " الاختلاف في الرأي لا عداوة فيه بل العداوة تصدر عن الأهواء والعواطف " كما صدق من قال :

وسوم: العدد 701