أمورٌ تدعونا للتفاؤل بمستقبل سورية
يذهب المراقبون إلى أنّ العالم العربي يعيش حاليًا أزمة غير مسبوقة، ربّما لا يصح مقــارنتها بأيّة فترة تاريخية أخرى مضتْ.
صحيحٌ أنَّ كلَّ دولة عربية تغصّ بمشاكلها، بيدَ أنَّ الحالة السورية تتصدّر المشهد دونها، و لاسيّما بعد موجة الإحباطات التي تلتْ سلسلة التراجعات العسكرية، التي مُنيتْ بها الفصائل و كان آخرها في حلب، إلاّ أنَّ الصورة على الرغم من قتامتها و سوداويتها، تحملُ في طيّاتها بذور الأمل، و تُمثِّل بداية متفائلة لمستقبل موعود يشي بكثير من الخير للسوريين.
و هذا أمر تسهل معرفته في تاريخ الأُمم من حولنا، فلو تركنا الحاضر قليلاً بكل مآسيه، واستشرفنا المُستقبل؛ سنجِدْ أنّ سورية في المستقبل القريب ستكون دولة مُزدهرة بمجرد توقف آلة الحرب، و ذلك للأمور الآتية:
1ـ الحروب مُقدِّمات لولادة الدولة القوية:
إنّ الوقائع التاريخية تشي بما يقنعنا بقبول هذا الرأيّ، و دوننا أمثلة على ذلك من التاريخ القريب:
ـ الولايات المتحدة الأمريكية: لم تصبح كما هي اليوم إلاَّ بعد اِندلاع حرب الأهلية، انتهت سنة 1865م، راح ضحيتها أكثرُ من 600 ألف مقاتل، و أعدادٌ غير معروفة من المدنيين، و استُحضِرت فيها النداءات الدينية، و العرقية، و الاجتماعية، و العنصرية إلى أبعد مدى.
ـ روسيا: كان الوضع فيها أكثر ألمًا، فقد اندلعت فيها ثورة دموية، استمرت خمس سنوات ( 1918 ـ 1923)، خلفت أكثر من 13 مليون قتيل، وأكثر من مليون مهاجر روسي ( هجرة دائمة )، و حلّ الخراب لدرجة انعدمت فيها القطارات، و دُمِّرت المناجم، و انقرضت حتى الخيول بعدما أكلتها الناس.
ـ أسبانيا: اشتعلت فيها حرب أهلية مُدمرة في سنة 1936، استمرت 3 سنوات، و تدخلت فيها ـ مثل أية ثــورة في التاريخ ـ عناصر خارجية و داخلية، و خلّفت أكثر من مليون قتيل، و عدة ملايين من النازحين والمصابين، و دمارًا هائلاً لم تُصَب بمثله من قبل.
ـ الصين: اندلعت فيها حرب أهلية مُدمرة استمرت قرابة 14 عامًا ( 1927ــ1941)، ثم توقفت بسبب غزو اليابانيين لها سنة (1941)، ثم عادت ثانية لخمس سنوات ( 1945ــ1950)، و كانت الحصيلة (4 ) ملايين قتيل، و ملايين أخرى من الجرحى.
2ـ وجود الإرث الحضاري، و القيميّ في الدولة المعنية.
يمثِّلُ هذا الأمر تحديًا للأمم في سعيها اِستعادة دورها في عالم الحضارة المعنوية؛ ممَّا يدفعها لتبنّي خطط إعادة التعمير بعد الدمار، بشكل أسرع من المتوقّع، فالاعتدادُ بالإرث الحضاري مهمٌّ جدًا في النهوض السريع للأمم بعد النكبات؛ لأنه يحمل معاني متعلقة بالكرامة، و الأمجاد الجماعية، و الرغبة المحمومة في تدارك التاريخ، و تجاوز أخطائه، و الظهور بالكبرياء الوطني أمام العالم ككلّ؛ انطلاقًا من قاعدة ( لكلّ جواد كبوة ).
إنّ دولة كسورية، تختلف عن دولة كرواندا، فلقد خاضت كلٌّ منهما حربًا شاملة، غير أن الفرق بينهما يتمثّل في المنطلق الحضاري الموروث فيهما، فسورية متوقّع لها العودة سريعًا إلى خريطة العالم؛ بسبب الاعتداد الذاتي بتراث تاريخي أكبر ممّا تمتلكه رواندا، و ستواجه التحديات الجماعية بإصرار أكبر لاستعادة ذاكرتها الحضارية التي تربّت عليها أجيالها.
3ـ الوفرة في الطاقات الشابة.
تشير الإحصائيات إلى أن نصف السوريين هم من فئة الشباب؛ و ذلك مؤشر مهمّ في اختزال الزمن المطلوب لإعادة الإعمار بمعدلات سريعة جدًا، و هي في ذلك أفضل بكثير من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، التي كانت تعاني من تدنٍ في نسبة الشباب، و ارتفاع نسبة النساء و كبار السن؛ مما عطّل ظهور بوادر سريعة بعد الحرب في مشروعات إعادة الإعمار، وجعلها تلجأ للاعتماد على قوى عاملة من الخارج ( الأتراك تحديدًا ).
4ـ تناسبُ الموارد الطبيعية مع التعداد السكــاني.
إنّ سورية في حالتها الراهنة في وضع أفضل من اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، و ذلك بسبب تناسب مواردها الطبيعية مع عدد سكانها.
فاليابان عانت ـ و ماتزال ـ من نضوب أرضها الصخرية من موارد الطاقة الخبيئة، على العكس من سورية، المليئة بكميات منها، فضلاً على مواردها الطبيعية الأخرى المتمثلة في ساحل ممتدّ، و موارد صناعية، و زراعية طائلة، و إرث سياحي مُغرٍ لقاصديه، و لا ننسى أنّها تُعدّ أهمّ بوابة عربية لأوروبا مع تركيا نحو الخليج.
و إنَّ مساحتها قياسًا بغيرها من الدول المجاورة كبيرة، و فيها نسبة متناسبة من السُكان، لا تزيد على 22 مليون نسمة؛ ما يعني وفرة في الناتج القومي الموزع عليهم.
5ـ النزوح، و الهجرة إلى خارج الوطن.
مؤلمٌ أن نرى خمسة ملايين سوري يغادر إلى دول الجوار بعد سنة 2011 إلى أكثر من وجهة، و كما هو معروف أنه عند سعي أية دولة للنهوض، أنها تعتمد على إرسال البعثات الخارجية النخبوية؛ طلبًا لتحصيل آخر ما وصلت إليه الدول المتقدمة، لتعود بها إلى بلدها.
في حين أنّ هذه الملايين التي غادرت سورية كـ ( بعثات شعبية )، لو قُدِّر لنصفها أن يعود إليها، و يعمل على استحضار أفكار جديدة رآها و عايشها في دولٍ لم يتسنّ له زيارتها قبل الحرب، فستكون النتائج دونما شكٍ أسرع في دوران عجلة التنمية.
6ـ الشروع بالتنمية دونما بدايات متعثّرة.
لن تكون هناك بداية متعثّرة في تشكيل الوعي الجمـاعي السوري بعد الحرب، مثلما فعل الألمان، أو اليابانيون، أو الأسبان، الذين انتظروا سنوات طويلة لتجاوز الكبوة التي مرّت فيها بلادهم، فنحن في زمن تُختصر فيه المسافات في شتى مجالات التنمية؛ فما كان يُنجز في 10 سنوات، أصبح ينجز اليوم في عام واحد، نحن اليوم في ثورة اتصالات عالمية؛ الأمر الذي سيوفر كثيرًا من الخطوات التي خاضتها أمم أخرى قبلهم.
7ـ المعجزات تأتي بعد الدمار.
يرى فلاسفة التاريخ أنّه كلما ازداد الخراب، و كان البلد منهكًا، زاد ذلك من فرص الإسراع في تعميره و ازدهاره؛ فصورُ الخراب الهائل لن تتيح الفرصة أمام المُتقاتلين للعودة ثانية إلى الاقتتال، و أنّ التحدي البشري يتجسّد دائمًا في مرحلة ( ما بعد الدمار )؛ فعبقرية المُجتمعات تظهر في اللحظات العصيبة من تاريخها.
إنّ الإنهاك الذي تجلبه الحروب؛ يحمل المجتمعات على التعالي عن كلّ أشكال الصراع، و يتجه بها إلى تلاحم مُجتمعي كامل؛ من أجل الوصول إلى أسمى المطالب في الحياة، و يجعلها تُسارع للخروج من المِحنَ، و تحوليها إلى مِنح، و هو المرجوّ لسورية في قادم أيامها.
وسوم: العدد 703