الخصوصية الشخصية عبر الانترنت

د. علاء إبراهيم الحسيني

مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات

 يعد الحق في الخصوصية الشخصية واحداً من أهم حقوق المواطن العراقي التي كفلها الدستور ويدل على ذاتية الشخص التي يحرص على التكتم عليها ولا يسمح لأحد ان يطلع عليها، ولكل فرد في العالم أشياء أو بيانات ومعلومات تعد جزء من حياته داخل أسوار المنزل أو العمل ولا يسمح لأي شخص بالتطفل عليها أو الاطلاع عليها، ما يتطلب كفالة حقه فيها واحترام حياته الخاصة، وأن من يتعمد الكشف عن أسرار الغير التي يتفانى في حفظها وسترها يعد مرتكباً لمخالفة قانونية وأخلاقية إلا أذا أذن صاحب الشأن بذلك.

 والحق في الحياة الخاصة أشار إليه القرآن الكريم في سورة الحجرات الآية الثانية عشرة "وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا" ونهى النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم من التجسس على الناس إذ قال "إياكم والظن فان الظن اكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا"، وهو المبدأ الذي اعتنقه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 في المادة (12) التي جاء فيها (لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات).

 وأكد ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 والذي صادق عليه العراق بالقانون رقم (193) لسنة 1970 وأصبح بذلك جزء من المنظومة القانونية العراقية وملزماً للسلطات كافة، حيث تنص المادة (17) منه على انه (1- لا يحوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني لتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته، 2- من حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو المساس)، وتأكدت هذه الخصوصية والحماية للحياة الخاصة بعد صدور الدستور العراقي لعام 2005 إذ أكدت المادة (17) بان (لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة)، وأردفت المادة (40) هذه الحماية بالتأكيد على مضامينها السامية إذ ضمت للمواطن العراقي (حرية الاتصالات والمراسلات البريدية والبرقية والهاتفية والاليكترونية وغيرها ولم تجز مراقبتها أو التنصت عليها أو الكشف عنها إلا لضرورة قانونية وأمنية وبقرار قضائي).

 لهذا فكل من يسترق السمع ويطلع على مضمون المعلومات الشخصية التي يتم تناقلها عبر وسائل الاتصال المختلفة إنما هو ينتهك الحق في الخصوصية المتعلق بالآخرين ويعرض نفسه للمساءلة القانونية، ويأخذ الحق في الخصوصية على شبكات التواصل معنى محدد كونها تتضمن منشورات تأخذ شكل صور أو مقاطع فيديو أو عبارات مكتوبة ولهذا هي تعد من وسائل التعبير عن الرأي إضافة إلى عدها من وسائل التواصل بين الأفراد والاتصال لإحتوائها على تقنية تبادل المحادثات بين اثنين فقط من المشتركين أو أكثر بحسب رغبة المستخدم عبر شبكة عامة أو خاصة مشغلة عبر الانترنيت، واذا كانت هذه المنشورات الخاصة بالمشترك وسيلة التواصل وتدخل في خانة حقه في الرأي الا ان هذا الحق ليس مطلقاً بل انه وككل الحقوق والحريات محكوم بمبدأ عدم التعرض لحقوق الآخرين وحرياتهم وان لا يكون المحتوى مخالفاً للنظام العام والآداب العامة، وأضافت المادة (46) من الدستور العراقي إجازة تقييد الحقوق والحريات بقانون أو بناءً على قانون شريطة أن لا يمس التقييد أصل الحق أو الحرية، ما يخول السلطات العامة في العراق أن تضع ضوابط لاستعمال هذه الوسائل وهو الأمر الذي لم يحصل لحد الآن رغم أهمية وخطورة الدور الذي تلعبه هذه الوسائل التي أضحت جزء من يوميات المواطن العراقي ورافق توسع استعمالها مخاطر ناتجة عن سوء الاستخدام المفرط من قبل البعض وتطفلهم على الغير أو الرغبة في إيذاءهم عبر إتلاف ملفات عائدة ملكيتها لهم أو تستغل وسائل التواصل والاتصال للتهديد أو التشهير أو الإيذاء المعنوي، بل استغلت تلك المنصات لأغراض إرهابية وتحريضية مقيتة في بعض الأحيان.

 وتكررت حوادث القرصنة الاليكترونية عبر بث مقاطع وصور غير لائقة في مواقع وصفحات الغير، ما يفتح الباب أمام تطبيق القواعد العامة الواردة في قانون العقوبات والقوانين الأخرى من حيث المبدأ عليها ومنها قانون مكافحة الإرهاب أو القانون المدني الذي نظم التعويض عن الأضرار التي يحدثها أحد الأشخاص بحق الغير.

وأنماط انتهاك الحق في الخصوصية متنوعة ونبين أهمها وفق الآتي:

أولاً// المراقبة:- وهي تحمل معنى محدد يتمثل في تعقب اتصالات أحد الأفراد وتسجيلها بلا أذن منه أو بلا علم وتقفي أثر تحركاته عبر الانترنيت ووسائل التواصل وتسجيل ذلك رقمياً ما يمكن من الاطلاع على أسراره الخاصة وإفشائها بلا مسوغ يذكر أو أمر من سلطة مختصة قضائية أو إدارية، وهذا الخرق يمكن أن يكون مصدره إحدى السلطات العامة أو أحد الأفراد أو مجموعة من الأشخاص والجماعات لغايات معينة.

ثانياً// الاختراق:- ويأخذ معنى العدوان على الحق في الخصوصية عبر تدمير الحواسيب والأجهزة الخاصة بالاتصال أو تخزين المعلومات أو استرجاعها أو تحوير مضمونها أو تغييره بلا اذن من صاحبها الشرعي، وهو الآخر يمكن أن يكون مصدره سلطة عامة أو أشخاص.

 وكلا النمطين من الانتهاك يترتب عليهما أثار تتمثل بالعدوان على حرية الرأي والتعبير والتماس المعلومات وتلقيها، وكذا الأمر بالنسبة للحق في التجمع السلمي وتأليف الجمعيات، أضف إلى انتهاكها الصارخ للحق في الخصوصية، وبين مشروع مكافحة جرائم المعلوماتية الذي تقدمت به الحكومة العراقية إلى البرلمان في العام 2010 ولم يعتمد آنذاك، إلا ان محاولات عدة جرت في الأعوام 2014 و2016 لإعادة إحياء هذا المشروع الذي تضمن في المادة (10) منه ضرورة معاقبة كل من تجاوز عمداً نطاق التصريح المخول له أو اعترض أية معلومات خلال عملية تبادلها أو تنصت أو راقب البيانات والمعلومات المخزونة أو المتبادلة في نظم المعلومات وتكون العقوبة أشد إذا نشأت عن الفعل حذف أو تدمير أو تغيير أو تغييب أو تعطيل أو إعادة نشر بيانات ومعلومات تعود للغير، ونصت المادة (19) من المشروع على معاقبة كل من حصل بشكل غير مشروع على معلومات أو بيانات أو برامج أو أي مخرجات للحاسوب فأفشاها أو أعلنها عمداً باستخدام الحاسوب وشبكة المعلومات بقصد الإضرار بالغير... او باع أو تداول البيانات الشخصية المقدمة إليه من الأفراد لأي سبب من الأسباب دون إذن منهم.

 والملفت إن مشروع القانون هذا تناول اغلب أنواع أخطر الاعتداءات التي تطال الحق في الخصوصية المرتكبة من قبل الغير بحق الأفراد بيد ان السؤال ما حكم انتهاك الخصوصية المرتكب من قبل الجهات الرسمية بحق الأفراد وماذا لو تنصتت الجهات الرسمية الأمنية منها وغيرها على المواطن العراقي وتوصلت إلى بعض بياناته الخاصة التي يتفانى في حفظها بلا مسوغ، بحجة حفظ الأمن والنظام، وبالغالب ان العراق يشهد انتخابات محلية أو وطنية على مستوى مجالس المحافظات والأقضية والنواحي أو مجلس النواب فتستغل بعض الجهات المغرضة الانترنيت ووسائل التواصل لارتكاب أبشع الانتهاكات للحق في الخصوصية بل يتخذ البعض من منصات الانترنيت المختلفة ساحة للتشهير وتغيير الحقيقة وبث الدعاية المغرضة ما يتسبب في تضليل عدد غير محدد من المواطنين ويتعرض البعض منهم للإغراءات غير المشروعة أو التهديد بلا أدنى حق، وللدلالة على ذلك نجد ان المادة (32) من قانون انتخابات مجلس النواب رقم (45) لسنة 2013 تنص على معاقبة من يستعمل القوة أو التهديد لمنع ناخب من استعمال حقه ليحمله على التصويت على وجه معين أو على الامتناع عن التصويت ومن المؤكد ان المغرضين يمكن ان يستغلوا وسائل التواصل والبريد الاليكتروني والانترنيت عموماً للوصول إلى غايات غير مشروعة.

 وهنالك بعض الأشخاص المتنفذين ممن يمكن ان يصلوا وبطريق وبأخر وعبر وسائل متعددة يمكن إلى المكالمات المسموعة أو المرئية للغير عبر الانترنت بالنسبة لمستخدمي وسائل التواصل والاتصال وتسجيلها بدون ان يكون هنالك أمر قضائي وبمخالفة صريحة لمضمون المادة (40) من الدستور العراقي التي ضمنت حرية الاتصالات والمراسلات بكل صورها ومنعت الكشف عليها أو التنصت أو مراقبتها إلا لضرورات أمنية وبقرار قضائي، لذا نجد ان هذه المادة أحاطت إمكانية التنصت بحدين أولهما الضرورة الأمنية الملحة، وبالتالي لا يمكن التنصت والاطلاع على المراسلات العلمية والاجتماعية إلا ان توفرت دلائل ترجح تضمنها محتوى يتصل بالشأن الأمني، والقيد الثاني عدم جواز الاطلاع على أي محتوى رقمي أو اليكتروني إلا بعد استحصال أمر قضائي.

 وما تقدم يتكامل مع مضمون المادة (17) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية سابق الذكر أعلاه والتي منعت تعريض أي شخص على نحو تعسفي أو غير قانوني لتدخل في خصوصياته، وينبغي الامتناع عن أي تقييد غير شرعي وان اقتضى الأمر وكان ولابد من التقييد فينبغي ان يتم حصره في أضيق نطلق، كما ينبغي ان لا يؤدي ذلك إلى المساس بجوهر الحق في الخصوصية تنفيذاً لما أمرت به المادة (46) من الدستور العراقي.

 ويشار إلى ان المادة السابعة عشر من العهد الدولي في فقرتها الثانية أشارت إلى الحق الطبيعي لكل شخص في حماية القانون ضد التدخل التعسفي وغير القانوني في خصوصيته، فلابد من أن يأخذ المشرع العراقي بنظر الاعتبار في مشروع قانون مكافحة الجرائم المعلوماتية الحماية للأفراد الذين من الممكن ان يتعرضوا للاعتداء، وهو ما نسميه بالدور المانع للنص القانوني أو التدبير الاحترازي لمنع وقوع المخالفة وعلى الطرف الآخر لابد من ان يأخذ المشرع بعين الاعتبار أهمية النص صراحة على حق من تعرض للاعتداء بالحماية القانونية وهو ما يعرف في فقه القانون بالإجراءات القامعة أو المعاقبة على ما وقع من اعتداء بغير حق عبر السماح للمتضررين من استصراخ الهيئات المعنية كهيأة الإعلام والاتصالات ووزارة الاتصالات والمحاكم المعنية للمطالبة بقمع الاعتداء وجبر الضرر المادي والمعنوي.

 أضف إلى ما تقدم إن الشركات التي تزود البلد بخدمات الاتصالات وخدمة الانترنيت أو ما يعرف بالجيل الثالث بعضها شركات أجنبية مملوكة في أغلب أسهمها لأجانب وتدار من قبل خبراء لا يحملون الجنسية العراقية ما يزيد من مخاطر الاطلاع على خصوصية المشتركين وهو الأمر الذي يحتم على الحكومة أن تضمن العقد المبرم مع هذه الشركات ضمانات حقيقية لمصلحة المستخدم الوطني.

التوصيات:-

1- على البرلمان العراقي أن يأخذ دوره الحقيقي في التصدي لتنظيم الاتصالات بكل أنواعها في العراق بمقتضى قوانين من شأنها ان تكفل حرية الرأي والتعبير واحترام الخصوصية لجميع المشتركين وعدم تمكين الغير بشكل مباشر أو غير مباشر من الاطلاع على خصوصية الغير أو النفاذ إلى بياناتهم الخاصة، وان يكون التنظيم القانوني مبني على أسس موضوعية ومهنية بعيدة كل البعد عن الكيل بمكيالين أو تنظيم الحق في الخصوصية بتجريم اعتداء الأفراد بعضهم البعض على الخصوصية وغض الطرف عن تجاوز المؤسسات الأمنية أو غيرها عندما ترتكب بسلوكيتها اليومية ما يعد اعتداء على خصوصية الغير.

2- تضمين عقود الدولة المبرمة مع الشركات التي تزود البلد بخدمات الاتصالات والانترنيت وخدمات التواصل بنود تؤكد صراحة خصوصية المواطن العراقي وعدم تركيب أي جهاز أو معدات من شأنها أن تعترض الاتصالات أو تكشف عن مضمون الاتصال إلا بأمر قضائي ووفقاً لما رسمته القوانين بما لا يتعارض مع ما ورد بالمادة (40) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

3- أن تضمن الأجهزة التنفيذية المسؤولة عن إدارة الاتصالات في العراق الحق الكامل للعراقي بالتظلم من قبل كل شخص معرض لانتهاك حقوقه الدستورية وحرياته الأساسية وان يتضمن مشروع مكافحة جرائم المعلوماتية الحق في الطعن القضائي أمام محكمة القضاء الإداري.

4- أهمية ان يعي جميع موظفي الشركات والهيئات الرسمية ومستخدمي الانترنيت حدود حريتي الرأي والخصوصية وان أي تصرف أو عمل لا يأتلف معهما ينبغي أن يتم تجنبه.

وسوم: العدد 704