حينما تحوَّل مبارك إلى مجرد فلتر
حينما كان الإعلام يقول عن الرئيس المصري السابق حسني مبارك إنه صمام أمان لمصر فهو لم يكن مخطئاً.. فمبارك كان بالفعل صمام أمان.. يقوم بمهام فلاتر الكاوتشوك العازلة للصوت والاهتزازات.
دور مبارك كان يقوم على فلترة الضربات أو الأوامر التي يتخذها مجلس العسكر والمخابرات وهم الحكام الفعليون لمصر منذ عصر صلاح نصر، وربما منذ استقلال مصر، وهو الاستقلال المشكوك فيه وإعادة إنتاجها، وكأنها قرارات صادرة منه مع شيء من التنقيح والتحسين.
ولو اعتمدنا نظرية "الفلتر" فبذلك يمكننا أن نقول إن وظيفة مبارك المحورية الوحيدة طوال الثلاثين عاماً الماضية هي فلترة قرارات المخابرات والمجلس العسكري، وإن مبارك لم يحكم؛ بل كان فقط يفلتر القرارات، ويتلقى الهجمات والطعنات والاعتراضات الشعبية عليها.
ولما أراد مبارك -ربما بمشورة من"جمال وسوزان"- الانتقال من أداء دور الفلتر إلى ممارسة الحكم بالفعل من خلال ترشيح جمال مبارك، واعتماداً على سرطانية انتشار الحزب الوطنى وفولاذية جهاز أمن الدولة، دبَّرت المخابرات ثورة يناير/كانون الثاني عليه، مع توفير قدر من الاحترام له كـ"فلتر" خدمهم طوال 30 عاماً.
مشكلتنا الآن أننا نواجه حكام مصر الفعليين دون وجود هذا الفلتر، الأمر الذي يشعرنا بحجم الضجيج البالغ والاهتزاز المفزع، والاندهاش المتزايد، في حين أن مَن هم في السلطة الآن لا يشعرون بقدر ارتباكنا، وربما سبب ذلك أنه لم يتغير بالنسبة لهم أي شيء كونهم حكاماً فعليين "منبع إصدار"، ولكن نحن من نشعر بهذا التغير؛ لأننا "مصب تلقٍّ".
وقد يقول البعض: إن ثورة يناير لم تكن أبداً من تدبير العسكر والمخابرات، إذاً فدعوني أسرد لكم رؤيتي، وهي رؤية قد لا يدلل عليها بالأشياء المادية، ولكن يدلل عليها منطقياً، وهي أن جهاز المخابرات قد يكون خطط لثورة يناير قبل حدوثها بفترة طويلة، فراح يصنع أذرعه الإعلامية التي تمكنه من استخدامها حين البدء في الإجهاز على مبارك، الذي كان يتحصن بالحزب الوطني وجهاز أمن الدولة الموالي له، الذي تغول فصار مهدداً رئيسياً للعديد من قيادات المخابرات والمجلس العسكري، ويملك أوراق إدانة عليهم، وهو ما قد يكون دفع المخابرات بعد ذلك لاقتحام مقر أمن الدولة الرئيسي والاستيلاء على تلك الأوراق وحرقه بعد ذلك.
وفيما يبدو أن جهاز المخابرات استمال معظم مساعدي وزير الداخلية حبيب العادلي، فيما بقي هذا الرجل هو الشخص الوحيد المخلص لمبارك، وندلل على ذلك بأن مساعدي العادلي جميعهم؛ بل وجميع الضباط والأمناء الذين تلقوا أوامر إطلاق الرصاص على المتظاهرين من تلك القيادات قد حكم لهم بالبراءة؛ بل وتقاضوا مكافآت ورواتب بعد خروجهم، عدا العادلي الذي يتم تغليظ العقوبات عليه.
ويلفت النظر أيضاً إلى أن الشرطة هي من كانت تقوم بمحاصرة الميادين من جميع الجهات؛ بل وإطلاق قنابل الغاز على الشرفات، وذلك بهدف تحفيز الناس القابعين فيها على الانخراط في المظاهرات.. ومن المعروف أن من أبجديات استراتيجية فض التظاهرات هي أن تهاجم المتظاهرين من جانب واحد أو جانبين بغية دفعهم في اتجاه مسار الهروب الآمن، وهو ما لم يحدث، وبقي الهجوم من كل الجهات.
ولما خفتت حدة التظاهرات بعد الخطاب العاطفي لمبارك، استشعرت المخابرات الخطر وراحت تسلط على المتظاهرين الخيل والبغال في مشهد أرادته أن يكون دعائياً بما يكسبهم تعاطفاً، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل، وراحت الجماهير تذهب إلى الميدان آنذاك، وفي هذه النقطة نقول إن العسكر لو أرادوا فض التظاهرات لفعلوا ولاستخدموا نفس الوسائل التي استخدموها في فض رابعة والنهضة، ولكن نظراً لأنهم هم دعاة تلك التظاهرات ولغرض في قلوبهم لم يسلكوا هذا المسلك.
ومن الدلائل على أن المخابرات هي مَن فجَّرت الثورة أن عدداً من الإعلاميين الذين فتحت لهم المنابر الإعلامية وتم تصديرهم بوصفهم أبطالاً مناوئين لمبارك، لم يتم إيذاؤهم في عصر مبارك مطلقاً؛ بل صاروا نجوماً ولما قاضاهم مبارك صدرت أحكام بتبرئتهم، وما إن حدثت الثورة حتى انحازوا بعد ذلك إلى حكم السيسي وكل مَن هم معه، رغم أن هؤلاء جميعاً من المفروض أنهم من رجال مبارك وأعداء لهؤلاء الإعلاميين الثوار.
ومن اللافت أيضاً أن عدداً كبيراً من مقدمي البرامج في الفضائيات المصرية راحوا يغيرون مواقفهم فجأة أثناء أحداث ثورة يناير وينحازون للثورة؛ بل ويضخمون من خطايا مبارك وأمن الدولة في مشهد تحريضي كان الرجل يستحقه، ولكن جاء من أناس مشكوك في نياتهم، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يحدث دون وجود ضوء من جهة سيادية يثق فيها هؤلاء الإعلاميون، ولا يهمهم مَن تكون بقدر ما يهمهم أن يكونوا "مسنودين".
وكلنا يتذكر المشهد الذي قام فيه أحد الفنانين بمهاجمة اثنين من مقدمي البرامج اللذين كانا يتبعان ولائياً جهاز أمن الدولة على الهواء مباشرة، واعتزلا العمل الإعلامي لفترة حتى عاد أحدهما، ولكن لم يسمح للإعلامية الثانية بالعودة للعمل إلا مؤخراً، وذلك لأنها كانت وثيقة الصلة بمبارك، هذا المشهد كان تجسيداً واضحاً للصراع بين إعلاميي أمن الدولة وأحد نجوم المخابرات الذي يفتخر بأنه كان أبرز دعاة 30 يونيو/حزيران التي صنعتها المخابرات أيضاً.
ودعوني أبوح لكم بسرَّين؛ أولهما أنني قبيل ثورة يناير كنت أعرف عميد شرطة في إحدى نقاط شرطة "الاتصالات" القريبة من مسكني، وكنت أقوم بتدريب ابنه في الموقع الإلكتروني الذي كنت أديره، الأمر الذي أنشأ بيني وبين هذا الرجل صداقة ما، وكان يدور بيننا حديث مطول حول مبارك، فوجدت الشرطي أكثر كراهية مني لمبارك، وكان كثيراً ما يطمئنني بأن الشعب سيثور قريباً على مبارك، وكنت آخذ الأمر بدون اكتراث، ولكن لم تمر عدة أشهر حتى حدثت الثورة، وتذكرت كلمات هذا الرجل الذي يعمل بشرطة "الاتصالات"، ومعلوم بالقطع نوعية من يعملون بهذه الشرطة.
السر الثاني في الجزء المعلوم منه أن الموقع الرسمي لجريدة الأهرام نشر خبراً في يوم 24 يناير 2011، وقبيل الثورة بيوم واحد، يفيد بأن سلطات مطار القاهرة ضبطت قرابة 39 صندوقاً من الذهب أثناء تهريبها إلى دولة الإمارات، وجاء في الخبر أنه أثناء قيام العمال بنقل 39 صندوقاً إلى طائرة متجهة إلى الإمارات، سقط أحدها وسقطت منه سبائك الذهب، هنا جاءت قيادات أمنية كبرى وقامت بإحصاء السبائك التي سقطت ومقارنتها بكشوف تفيد برقمها المسلسل، وتم بعد ذلك السماح للشحنة بالنقل إلى الإمارات، والأهم أن الصحيفة أكدت أن مرسل تلك الشحنة "مسؤول كبير جداً في البلاد"، في إشارة واضحة جداً إلى مبارك.
وفي يوم 25 يناير كنا نقف في تظاهرة على سلالم نقابة الصحفيين، ففوجئ الجميع بمشاركة أحد الكُتاب المعروفين بقربهم من جهاز أمن الدولة ومبارك، وكذلك جهاز المخابرات والعسكر، والذي كان قِبلة لكل الذين تم تصديرهم بوصفهم ثواراً؛ كي يتوسط لهم عند مبارك للصفح عنهم، كان الرجل مرتبكاً وغير مستوعب للحدث، وسألني عن وجهة نظري فيما يحدث، فقلت له: إن ثورة ضد مبارك تحدث.
هنا الرجل فهم أن هناك صراعاً بين الجهازين الأمنيين في الدولة، لكنه بقي مختفياً لفترة طويلة حتى مالت كفة الحسم لصالح المخابرات، فذهب إلى ميدان التحرير مع رهط من الهتيفة الذين كان يقوم بتأجيرهم في معاركه الانتخابية بالبرلمان.. وتحول إلى ثائر!
هذه بعض أسباب من أخرى كثيرة تجعلنا نؤكد أن ثورة يناير كانت صنيعة المخابرات، ولكنها حادت عن هواهم في مرحلة ما.. وانقلاب 30 يونيو كان تصحيحاً لهذا المسار، من وجهة نظر العسكر.
وسوم: العدد 706