أسوأ من بخيل من يأمر غيره بالبخل
من المعلوم أن الله عز وجل تعبد عباده المؤمنين بعبادة الإنفاق ، وجعلها ركنا من الأركان التي يقوم عليها دين الإسلام إلا أن كثيرا من الناس في مجتمعنا يغفلون أو يتغافلون عن هذا الركن ظنا منه أنه يعني فقط من ملك نصاب المال والزرع والأنعام ، ويقصرون عبادة الإنفاق على الفرض ، ويسقطون نوافلها، علما بأن الله عز وجل جعل لكل فريضة في الإسلام نوافل تجبرها إذا ما اعتراها نقص . وإذا كان الإنسان لا تجب عليه فريضة الزكاة لعدم توفر نصابها ، فهذا لا يعني أنه في حل من نافلة الإنفاق . ومعلوم أن عبادة الإنفاق هي أشق عبادة على الإنسان المجبول على البخل لقول الله عز وجل : (( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي لأمسكتم خشية الانفاق وكان الإنسان قتورا )) . ولهذا السبب تكاد نوافل هذه العبادة تعطّل عند كثير من الناس ، ولا يتحدث الناس عنها عندنا إلا مع مطلع السنة الهجرية الذي صار عن طريق العادة موعدا لممارسة عبادة الزكاة عند الذين تبلغ أموالهم وزروعهم وأنعامهم النصاب.وإذا كان مجتمعنا لا يخلو ممن يمارس نوافل الإنفاق ، فإن القناعة السائدة لدى غالبية الناس أنهم في حل من ذلك مع أن الله عز وجل رغب كثيرا في فعل الإنفاق ، وحذر أشد التحذير من تركه . ومما جاء ترغيبا في الإنفاق في كتاب الله عز وجل قوله تعالى : (( وما تنفقوا من خير يوف إليكم )) وقوله : (( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه )) وقوله : (( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء )). ومما جاء ترهيبا في ترك الإنفاق في كتاب الله عز وجل قوله تعالى : (( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون )) وقوله : (( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة )) . ومما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا في الإنفاق قوله عليه السلام : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم اعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم اعط ممسكا تلفا " . وما أنزل الله عز وجل هذين الملكين الكريمين كل يوم للقيام بهذه المهمة إلا لأنه سبحانه وتعالى أراد أن تكون عبادة الإنفاق يومية كعبادة الصلاة . وحري بالمؤمن أن يتعرض لدعوة الملك الذي يدعو بالخلف ، ويتنكب دعوة الملك الذي يدعو بالتلف . وما يغفل عنه الغافلون أن المنفق إذا ما أنفق ،فهو إنما ينفع نفسه مصداقا لقوله تعالى : (( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم )) . ومعلوم في دين الله عز وجل أن الإنفاق يخلص الإنسان من ذنوبه ومعاصيه وسيئاته مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار " وهو ما يؤكده قول الله عز وجل : (( ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون )) وهنا يقترن درء السيئات بالإنفاق وهو من الحسنات . ومعلوم أن الكيس أو العاقل من الناس هو الذي يدين نفسه ويعمل لما بعد موته كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقدر جيدا مدى ما عليه من أوزار وخطايا ويعمل على التخلص منها عن طريق الإنفاق ، وهنا يكون إنفاقه لنفسه ومفيدا له كما جاء في قول الله عز وجل. ومما يؤكد أن المعطل للإنفاق إنما يضر نفسه أولا قول الله عز وجل : (( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه )) فالبخيل يبخل على نفسه فلا يخلصها مما عليها من خطايا، وقد كان بإمكانه أن يتخلص منها بالإنفاق إلا أنه لا ينتبه إلى ما يلحق بنفسه من ضرر ببخله ، ولا يحضره ما يعود به الإنفاق عليه من نفع . وغالبا ما يتجاوز البخيل ممارسة البخل إلى أمر غيره به كما جاء في قول الله عز وجل : (( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل )). ولقد جعل الله تعالى صفتي الاختيال والافتخار ملازمتين لصفة البخل والأمر به . وشر من بخيل من يأمر غيره بالبخل ، فهو لا يخلص نفسه من خطاياه بالإنفاق ، ويزداد خطيئة بأمر غيره بالبخل الشيء الذي يجعل هذا الغير أيضا لا يتخلص هو الآخر من خطاياه بالإنفاق حين يطيع البخيل ويصير بخيلا مثله . والبخيل تلاحقه دعوة الملك الكريم بالتلف كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما بخل أو أمر غيره بالبخل .
ومن المعلوم أن عبادة الإنفاق في الإسلام لا تقتصر على الإنفاق المادي المعلوم من مال وطعام وشراب وكسوة وغير ذلك فقط، بل قد ينفق الإنسان أيضا من جهده البدني أو جهده العقلي والفكري أو ينفق من وقته . والبخل بالجهد البدني أو العقلي أو بالوقت لا يختلف عن البخل بالمال والطعام والشراب والكسوة وغير ذلك .
ومناسبة هذا الحديث عن البخل أن بعض الناس ممن أصابهم داء البخل يتعرضون للمنفقين في سبيل الله لمنعهم من الإنفاق من خلال تشكيكهم في صواب إنفاقهم، وذلك لتكريس صفة البخل الذميمة في المجتمع حتى لا يفتضح أمر بخلهم وهو معرة . ومعلوم أن السائل مهما كان نوعه به حاجة وفاقة ، وهو حين يسأل من يعطيه لدفع فاقته أو قضاء حاجته إنما يشتري منه في الحقيقة معاصيه التي يضعها عنه بالإنفاق وقد جعله الله تعالى مطهرا ومخلصا من تلك المعاصي . واعجب لمن يريد أن يشتري من ذي المعاصي معاصيه ، وهو يرفض طرحها عنه ببخله ، بل يحرم ذا معاص مثله أيضا من التخلص منها حين يأمره بالبخل . وقد يقف بعض الناس على أبواب بيوت الله يستجدون المصلين أو بالأحرى يريدون أن يبتاعوا منهم ذنوبهم ومعاصيهم وسيئاتهم ، فيكون من المصلين من يبيع ذنوبه بإنفاق الدرهم والدرهمين أو بعض الدراهم ، ويكون منهم من يبيع ذنوبه بالدعاء للسائل وهو لا يجد من ينفق منه ، ومنهم من لا يرغب في بيع ذنوبه فيبخل ، ويزداد ذنبا بأمر غيره بالبخل أو بالأحرى بعدم بيع ذنبه، فيعود من حيث جاء بذنبه وزيادة وزر معه. ومعلوم أن الله عز وجل تعبدنا بالإنفاق ليكون ذلك عونا للناس على طاعته وعبادته لأن حاجة المحتاجين قد تحول دون إتيان الطاعة والعبادة على وجهها ،ذلك أن الجائع على سبيل المثال قد يمنعه جوعه من أداء واجب الصلاة وغيرها لانشغاله بجوعه ، لهذا حين ينفق عليه، فهو يعان على أداء ما عليه من واجبات اضطره الجوع لتركها ، وكذلك شأن المريض الذي يحتاج الدواء ، فيشغله مرضه عن طاعة خالقه ومن أنفق على دوائه أعانه على المحافظة على تلك الطاعة . وما ينسحب على الجائع والمريض ينسحب على غيرهما من ذوي الحاجات ، ولهذا جعل الله عز وجل عبادة الإنفاق عبادة مساعدة ومسهلة لطاعته في غيرها من العبادات ، والتي ينتفع بها المنفق أولا قبل المنفق عليه ، كما ينتفع بها هذا الأخير أيضا . ولأهمية عبادة الإنفاق جعلها الله مقترنة بالإيمان فقال جل شأنه في وصف المؤمنين: (( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )) وجعل كرهها من علامات النفاق فقال جل شأنه في وصف المنافقين : (( ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون )) .وما يزال الناس بخير ما حافظوا على عبادة الإنفاق ، فإن عطلوها خسروا في عاجلهم وآجلهم ، ولقوا ربهم بذنوب وخطايا لو أنهم أنفقوا لحطت عنهم ، ولو أنهم كانوا أكياسا لدانوا أنفسهم وعملوا لما بعد الموت، وذلك بدرء سيئاتهم بحسنات يحصلونها من الإنفاق في سبيل الله .
وسوم: العدد 709