"الداعشية"... الوجه الآخر
صحيح أنّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على وشك أن يفقد "دولته" التي أسسها في العراق وسورية، وتنتهي "خلافته الصورية" (كما أطلق عليها أحد قادة السلفية الجهادية أبو قتادة الفلسطيني في مقالته "ثياب الخليفة")، إلا أنّ اختزال "داعش" في هذا الجانب (الدولة الراهنة) يتجاوز جوانب أخطر في "الداعشية"، وهي الجوانب الأيديولوجية والفكرية.
لا أقصد، هنا، بالفكرية ما يتردّد بسذاجة في الأروقة الرسمية العربية من معادلة "الاعتدال والتطرّف"، أو المواجهة العقائدية والفكرية البحتة، لأنّ الفكر هنا لا ينعزل عن الواقع، وأيديولوجيا "داعش" المتطرفة لم تأتِ حصرياً من كتب الفقه والتراث، بقدر ما تغّذت وتسمّنت من الواقع العربي المعاصر، وهو الأب الشرعي لها، بينما "المنظومة الأيديولوجية" لا تعدو أن تكون ثياباً ارتدتها هذه الحركة الاحتجاجية العنيفة التي أخذت طابعاً عدمياً متطرّفاً بكل تأكيد!
مرّة أخرى، لا ننكر أهمية الجانب الديني، وضرورة إصلاحه، والاشتباك مع الموروث الفقهي، والدفع باتجاه التنوير الديني، ذلك كله مهمة رئيسة وأساسية للمجتمعات والمثقفين العرب اليوم، لكنّها مهمةٌ محكومةٌ بالفشل الذريع، إن جاءت مستقلةً ومنفصلةً عن مشروع سياسي وإصلاحي عام موازٍ لذلك، يقوم على الاعتراف بالشروط الموضوعية والواقعية التي أدّت إلى صعود هذه الحركات وذبول الحركات المعتدلة، وانزواء الفكر المعتدل والإصلاحي الديني في إطار محدود من النخب والتأثير.
أحد الشروط الأساسية لصعود تنظيم داعش يتمثل في "فشل الدولة القطرية في بناء نظام سياسي راشد، يقوم على العدالة والمواطنة وسيادة القانون، ويسير في التنمية الاقتصادية، ويمنح فرصا سياسية واقتصادية عادلة، ويسمح بحرية التعبير والحريات العامة، وفي مواجهة المشروعات الأخرى، الإسرائيلية، أو حتى الإيرانية الأخيرة التوسّعية".
مثل هذا الفشل التاريخي السافر، والشعور بغياب الأفق السياسي، هو الذي ولّد محاولة الإنقاذ الأخيرة، عبر "أبناء الطبقة الوسطى" بمختلف شرائحها، وجاءت لحظة الربيع العربي في محاولة لانتشال "الدولة القطرية" العربية ممّا آلت إليه، وحماية الشباب من السيناريوهات البديلة. لكن النظام العربي الرسمي الذي سعى إلى ترميم وجوده، بجراثيمه وكوارثه، من دون إصلاحات حقيقية، عمل على ممانعة (وتدمير) تلك اللحظة الانتقالية في تاريخ المجتمعات العربية، ونجح في تدشين لحظة "الثورة المضادة"، عبر تصنيع "الحروب الأهلية الداخلية"، ودعم الانقلابات العسكرية. وأخيراً ركوب موجة الحرب على الإرهاب التي أصبحت بمثابة "الوصفة السحرية" لاستدامة الأنظمة الدكتاتورية وحمايتها في مواجهة التغيير المطلوب.
نبتت الداعشية، بصيغتها الراهنة، من رحم هذا الواقع الخطير، وصعدت خلاله، عندما قُمعت احتجاجات الحويجة والأنبار السلمية في العراق، وأصرّ رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، على سياساته الاستبدادية والطائفية، وعندما أطيح الرئيس المصري السابق، محمد مرسي، عبر دبابات الجيش، وعندما رفع أنصار الرئيس السوري، بشار الأسد، شعار "الأسد أو نحرق البلد"، وبدأوا بحرقه فعلاً، عند ذلك عاد تنظيم داعش إلى الصعود (وكان قد تراجع مع انكشافه من حاضنته السنية، بعد أن أعلن خلفاء زعيمه أبو مصعب الزرقاوي تأسيس ما سمي دولة العراق الإسلامية)، واستطاع التنظيم اجتذاب عشرات الآلاف من الشباب العرب المحبطين اليائسين من إمكانية التغيير السلمي، ومن إصلاح واقع الأنظمة العربية الحالية، فأصبح اليأس من هذا الواقع المحفّز والمحرّك الرئيس لهم.
خاطب "داعش" الشباب العربي والمسلم في كل مكان بوصفه "المشروع البديل" عن المشروع السياسي العربي الفاشل الراهن الذي تجسّد بالدولة القطرية العربية، سواء بصيغتها العلمانية أو الدينية التقليدية، وبديلاً كذلك عن المشروع الإسلامي السياسي الآخر الفاشل الذي حاول التغيير عبر اللعبة الديمقراطية، ليقول لهم إن البديل من المفترض أن يكون جذرياً وجوهرياً وكاملاً، وداعب خيالهم التاريخي، فأحيا مفهوم الخلافة والدولة الإسلامية القادرة على تحقيق حلم العدالة من جهة، ومواجهة المشروعات الأخرى من جهةٍ ثانية.
كان مشروع داعش خديعة كبيرة ووهماً وقع في شباكه آلاف الشباب العربي.. ذلك صحيح، لكن هذا الوهم الخطير وجد أرضاً صلبةً يقف عليها وتربة خصبة ينمو فيها، وهي الواقع السياسي العربي والسياجات الأمنية والدولية التي تمنع تغييره.
*باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية .
وسوم: العدد 710