ترامب و «المناطق الآمنة» في سورية
عاد الرئيس ترامب دونالد إلى التأكيد أمام تجمع مؤيد له في فلوريدا الشهر الماضي، أنه يرغب في إنشاء مناطق آمنة في سورية، تكون ملاذاً للاجئين الذين لا يرغب باستضافتهم في الولايات المتحدة، وقال في الوقت ذاته إن على دول الخليج تحمل تكاليف إنشاء هذه المناطق. هذه ربما المرة الثالثة التي يثير فيها الرئيس ترامب قضية المناطق الآمنة في سورية منذ انتخابه، لكن إلى الآن ليس هناك وضوح سياسي وقانوني وعسكري لما يعنيه بهذه المناطق الآمنة.
هل سيلجأ ترامب إلى مجلس الأمن لإصدار قرار دولي يسمح بإنشاء مثل هذه المناطق؟ وعليه ماذا سيكون موقف روسيا التي مارست حق النقض (الفيتو) ست مرات ضد قرارات أخف لهجة بكثير وأقل تأثيراً في مجرى تطورات الحرب السورية، إذ وقفت في البداية ضد إصدار أي قرار من مجلس الأمن يدين نظام الأسد على انتهاكات حقوق الإنسان وارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين السوريين، كما رفضت إحالة التحقيق في مثل هذه الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، فهل ستسمح روسيا الآن باستصدار قرار أممي يسمح بإنشاء مثل هذه المناطق داخل الأراضي السورية، لا سيما أنها عارضت هكذا فكرة على مدى السنوات الأربع الماضية خلال ولاية أوباما؟ ربما يتوقع الرئيس ترامب أن ينجح بإقناع الروس بالقيام بذلك في صورة صفقة كبرى تقوم على رفع العقوبات عن روسيا والتي أثرت على اقتصادها المتهالك، مقابل أن تقدم روسيا شيئاً بالمقابل في أوكرانيا وسورية.
هذا على المستوى القانوني، أما على المستوى العسكري فيبدو الأمر أكثر تعقيداً، فإنشاء مثل هذه المناطق الآمنة داخل الأراضي السورية يحتاج إلى فرض حظر طيران جزئي على الأقل فوق هذه المناطق من أجل حماية المدنيين واللاجئين الذين سيلجأون إليها، وهذا يفترض منع طيران الأسد والطيران الروسي من التحليق فوق هذه المناطق، وبالتالي تدمير أو على الأقل تحييد كل مضادات الدفاع الجوية والصاروخية لنظام الأسد التي يمكنها أن تهدد هذه المناطق، وهو ما يعني بالتأكيد تدخلاً عسكريا أميركياً أو دولياً محدوداً في الأراضي السورية. وكل القادة العسكريين الأميركيين يعون ذلك، لكن هذا الالتزام الأميركي وحدوده ليست واضحة من قبل الرئيس ترامب في تأكيده على إنشاء هذه المناطق من دون التزام عسكري كبير.
في الوقت ذاته، تبدو تركيا حليفة الولايات المتحدة في حلف الأطلسي المتحمس الأكبر لهذه الفكرة ، فقد زار الرئيس أردوغان دول الخليج من أجل البحث في تمويل هكذا مشروع، كما أن رئيس هيئة الأركان الأميركية بحث مع رئيس هيئة الأركان التركية ليس الحرب ضد «داعش» وإخراجه من الرقة فقط، وإنما أيضاً إمكان إنشاء مثل هذه المناطق عسكرياً في وقت قريب.
لقد كان إنشاء المناطق الآمنة مطلباً للمعارضة السورية منذ عام 2012 عندما ازداد القصف العشوائي ضد المدنيين السوريين من قبل نظام الأسد، وأثيرت قضية التدخل الإنساني في سورية على مدى السنوات الست الماضية بسبب ازدياد أعداد الضحايا المدنيين في شكل كبير وتضاعف أعداد اللاجئين، وترسخ مبدأ حماية المدنيين في ضوء مبادئ القانون الدولي المطبق في مسؤولية الحماية والتي يطلق عليها اختصاراً (R2P).
منذ بداية الثورة السورية في آذار (مارس) 2011 قتلت القوات النظامية السورية ما لا يقل عن 600 ألف شخص، ووفقاً لتقرير أصدرته الأمم المتحدة فإن هذه القوات هاجمت المدنيين باستمرار، وقصفت المناطق السكنية الكثيفة بالمدفعية، ونشرت القناصة والطائرات المروحية الحربية في المدن السكنية، واستخدمت الصواريخ الباليستية ضد المناطق السكنية، وقامت بتعذيب المحتجين الذين تم اعتقالهم، كما تم استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين أكثر من مرة، كل هذه الأفعال تقع تحت مسمى جرائم ضد الإنسانية كما عرفها نظام روما الذي أقامته المحكمة الجنائية الدولية (ICC).
وبموجب مبدأ مسؤولية الحماية، فإن الدولة لا تملك السيادة المطلقة، وتعتبر متخلية عن سيادتها عندما تفشل في حماية مواطنها من الإبادات الجماعية، أو التطهير العرقي، أو جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية.
يبدو الرئيس ترامب بعيداً تماماً من استخدام هذه اللغة، فهو يريد إنشاء المناطق الآمنة من أجل حماية اللاجئين كما كرر ذلك أكثر من مرة ومنعهم من الذهاب إلى أوروبا أو القدوم إلى الولايات المتحدة، لا سيما مع قراره بوقف برنامج استقبال اللاجئين السوريين في شكل كامل في الولايات المتحدة.
لكن لا بد من التأكيد هنا أن ما حصل في سورية على مدى السنوات الست الماضية يحقق معايير التدخل الإنساني لحماية المدنيين سواء عبر المناطق الآمنة أو غيرها، فالحاجة الآن لتطبيق مبدأ حماية المدنيين تعد رئيسية من أجل وقف الحرب في سورية وضمان انتقال سياسي، وفي الوقت نفسه القضاء على «داعش»، فهذه الأمور الثلاثة مرتبطة في شكل كبير، إذ لا يمكن القضاء على المنظمات الإرهابية في سورية من دون وجود حكومة شرعية تمثل السوريين وتعكس مصالحهم في إنهاء الحرب وضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي وهو ما فشلت حكومة الأسد في تحقيقه.
إن مسؤولية الحماية مبدأ من مبادئ القانون الدولي أقره مجلس الأمن، ويمثل تطوراً عميقاً في الوسائل التي يتخذها القانون الدولي لمعالجة الأزمات الإنسانية. وبموجب مبدأ مسؤولية الحماية فإن الدولة لا تملك السيادة المطلقة. وتعتبر متخلية عن سيادتها عندما تفشل في حماية مواطنيها، ففي تقرير للأمم المتحدة نشر عام 2009 قام الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون بتوصيف الأركان الثلاثة التي يقوم عليها هذا المبدأ، أولاً: تقع على عاتق كل دولة مسؤولية دائمة لحماية السكان المقيمين على أرضها، بصرف النظر عما إذا كانوا يحملون جنسيتها أم لا، من الإبادات الجماعية، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية، وكل ما يحرض على تلك الجرائم السابقة. ثانياً: تقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية تقديم المساعدة للدول على الامتثال لواجباتها الواردة في الركن الأول. ثالثاً: إذا ظهر في شكل واضح فشل دولة في حماية شعبها، على المجتمع الدولي أن يستجيب لذلك في شكل حاسم وفي الوقت المناسب، بالاستناد إلى الفصل السادس والسابع والثامن من ميثاق الأمم المتحدة، وباتخاذ التدابير المناسبة سلمية كانت أم غير ذلك. إضافة إلى ذلك، يمكن في حالات الطوارئ عقد تحالفات دولية مشروعة لوقف الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، حتى من دون موافقة مسبقة من مجلس الأمن.
فهل سينجح الرئيس ترامب فيما فشل الرئيس أوباما في حماية المدنيين السوريين؟ يبدو ترامب أكثر حماسة للتحرك في الملف السوري من أوباما لكنه في الوقت ذاته يظهر كثيراً من الغموض الذي تحتاج السياسات القادمة لإدارته إلى توضيحه.
* كاتب سوري وباحث في المركز العربي – واشنطن.
وسوم: العدد 711