الثقافة وتفعيل الذات الفاعلة

إنّ القراءة النقديّة واستقراء الواقع يؤسّسان على ربط الفكر بالواقع وتجسيد الأقوال بالممارسة والسلوك، وقد ذكر عزمي بشارة بعضًا من سياقات الثقافة الفاعلة المتعلقة بالمعرفة العلميّة ومعرفة الواقع ومعرفة الفكر، مؤكّدًا أنّ: "الثقافة غير ممكنة من دون علم، والنقد غير ممكن من دون العلم بالشىْ، ومن دون العمل به"[1]، ويمكن القول: إنّ العلم انبنى على انتصار العقل الذي أشاع في المجتمعات المتحضّرة حالات من التوق لتوسيع مجالات المعرفة والثقافة العلميّة وسط مجتمع منظّم يقوده أفراد أحرار ضمن مؤسسات مستقلّة، يبدعون الحاضر ولا يجترون ثقافة الماضي، ويشكّلون الذوات الفاعلة التي أمسى فعلها من أهمّ مرتكزات التحديث أوالمعاصرة وميادينها التي تبثّ روح الحرية والمعرفة والعدالة والكرامة في عروق أبناء المجتمعات المتحضرة، والتي تحفّز البشر على البحث عن إنسانيتهم وفاعليّتهم.

ومع انتصار العقل الذي جعل من إنسانيّة الإنسان غايّة نجح الغرب الرأسمالي في تجاوز عواقب مظالم وجهل العصور الوسطى في أوروبا، ابتداء من عصر النهضة ثمّ في عصر الحداثة، وانتشرت الأفكار الحداثية والما بعديات في كافة أنحاء العالم، وقد ذكر تيموثي ميتشل بهذا الصدد إنّ: " الكتابات التاريخيّة التقليديّة عن التحديث قد وصفته بأنّه سيرورة جرى تدشينها وإنجازها في أوروبا ومن هناك، تمّ تصديرها إلى مناطق مطردة الاتساع من اللاغرب"[2]، فنجحت في بلدان ونكصت في أخرى، وبلادنا العربيّة من البلدان التي فشلت فيها تجربة الحداثة، مما يستلزم استئناف محاولات العرب للولوج بتجربتهم النهضويّة والحداثية بطرق أبواب التحضّر الإنساني الراهن وفهم آلياته وفعالياته وتوظيف نتائج الثورات العلميّة التي تتوالى انتصاراتها، والتي يزداد تأثيرها يومًا بعد يوم على كلّ الأصعدة في حياة الناس، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فالعرب مدعوون في كلّ وقت لدراسة جذور تشكّل حاضرهم وصيرورته التاريخية أيضًا، واستقراء مظاهر وفعاليات الثقافة الشعبيّة أو الجماهيرية Mass Culture وفولكلورهم. مدعوون الآن، أكثر من أي وقت مضى، لأنّهم يعيشون منذ أواخر عام 2010م مرحلة جديدة من تاريخهم، يودّعون فيها أزمنة الانهيارات الأخلاقية وانتشار العدميّة وتقديم الولاءات الأوليّة على الوطن والدولة، ناهضين من جديد، على الرغم من شراسة أعداء التغيير الداخليين والخارجيين؛ إنّ العرب بحاجة ماسّة لرسم معالم درب جديدة مغايرة لما سبقها، بالاستناد لمعرفة مآلات التحضّر الإنساني الراهنة، وإعادة قراءة تاريخهم الذي كوّنهم كوطن وأمّة تنبض بالحياة رغم تعثّر دروبها. العرب مدعوون لمجادلة، بل محاكمة تاريخهم وتراثهم، واستقراء وتقويم مسارات نهضتهم على دروبالحداثة[3]Modernism  وما بعدها؛ الحداثة المشوّهة التي يُقرَأ بيان نعوتها منذ أكثر من خمس سنوات. العرب مدعوون لإصدار أحكامٍ على ما تشهده الساحة العربية من تشرذم ودمار وموت نتيجة حالة العدميّة التي تراكمت آثارها منذ بداية القرن التاسع عشر. إنّهم محتاجون، الآن، إلى قراءة ودراسة تمظهرات تلك المحاولات التي كانت نتاجًا للقطيعة مع التراث نتيجة التواصل مع الغرب الاستعماري والإنضواء تحت لواء حركة الاستشراق إبان هيمنته المستمدة من أطماعه الماديّة أولًا، والمعزّزة من سبقه العلمي الذي جعله متفوقًا في ميادين المعرفة والقوّة العسكريّة ثانيًّا، الهيمنة التي آلت إلى صياغته مفاهيم وصفات عن الشرق الروحاني تجعله آخرًا ساكنًا معاديًّا للغرب العقلاني المتنوّر والمتحرك، بما يناسب مصالحه وتسلّطه، مما قاد ساسته إلى السعيّ السافر لإشعال صراعاته التاريخية القديمة مع شعوب الشرق المستعمَرَة، ومنهم العرب، بأدوات وتقنيات جديدة ومتطورة مكنتهم من الهيمنة مسهمين بإعاقة محاولات شعوب الشرق اللحاق بركب التحضّر الإنساني المعاصر ثالثًا، هذا من جانب، ومن جانب آخر يحتاج العرب إلى دراسة فكر وسلوك الجماعات النحننية أصحاب الولاءات الأوليّة العشائرية والطائفية والإثنيّة والحزبيّة، إضافة إلى مواجهة التيارات التكفيرية التي تحاول الهروب من تحديات المشكلات العصرية للأمة بالتواري خلف منجزات السلف الصالح، ليعيشوا في قواقع منعزلة عن سيرورة التاريخ، مشكّلين عوائق تراثيّة وطوائفيّة دينية داخل المنظومات المنغلقة Closed  Systems  للبنية المجتمعيّة التي لابدّ من شروع البشر فيها بالتحرر من الأوهام والأسطرة والسير على دروب التقدّم تماشيًّا مع التطور الحضاري الإنساني المعاصر.

[1] - عزمي بشارة، طروحات عن النهضة المعاقة (رياض الريّس للكتب: بيروت، ط1، 2003) ص28

[2] - تيموثي ميتشل، التراث والحداثة، ترجمة: بشير السباعي (دار ميريت: القاهرة، ط1، 2006) ص63

[3] - مفهوم الحداثة ملتبس في التعريف، لكثرة التعريفات المحاطة به والمتسمة بالغموض والاختلاف، ومفهوم الحداثة مصطلح أوروبي المنشأ يتضمن المعاصرة. وبالإجمال فإن الحداثة هي مغامرة ومساهمة في الثورة والتجديد والإبداع وتجاوز للتقليد والسلف الصالح وغير الصالح، وكذلك  تتضمن التحولات التي انتشرت في مجالات الفنون والفكر والعلم والاقتصاد والتقنية والمعرفة بصفة عامة. أما بدايات ظهور الحداثة فيكتنفها الغموض والإشكالات، حيث اختلف العديد من المفكرين في تحديد إرهاصاتها الأولى فأحال بعضهم نشوءها إلى فكر ديكارت في القرن 17م، وربط بعضهم الآخر بينها وبين عصر الأنوار في القرن18م، بينما ربطها آخرون بالثورة الأمريكية سنة 1776م والثورة الفرنسية 1789م، وغير ذلك من الآراء.

وسوم: العدد 718