على رصيف الذاكرة
ــ ظاهرة (النحت) في اللغة العربية ظاهرة معروفة عند اللغويين، وتعني اختزال كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة، فالجاهليون قالوا: فلان عَبْشَميٌّ، أي من بني عبد شمس، وعَبْدَريٌّ، أي من بني عبد الدار.
وفي العهد الإسلامي قالوا: حَوْقَل فلان، أي قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ودَمْعَز، قال: أدام الله عِزَّك... ولن أسترسل في الشرح وضرب الأمثلة، فقد سبق أن نشر الصديق الباحث اللغوي الدكتور عبد الرحمن الدركزللي منذ أشهر مقالًا ضافيًا بهذا الشأن.
وفي العصر الحديث قالوا: فلان دَرْعَميٌّ، أي متخرج من دار العلوم في مصر. وعلى هذا يمكن أن نقول: كَلدبيٌّ، نسبة إلى كلية الآداب، وكَلزعيٌّ، نسبة إلى كلية الزراعة، وهكذا...
واعتمادًا على هذه الإباحة اللغوية سأنقل لكم أُطروفتين رشيقتين فيما أحسب مَنَّت علي الذاكرة بهما:
أولاهما تخبرنا أن الزعيم المصري سعد زغلول هاله ما رأى من غضب الشعب وتظاهراته احتجاجًا على الوجود الإنكليزي في مصر، فأراد أن يهدئ ثائرته، ويمتص غضبه، فوقف يومًا وخطب في الأمة خطابًا حماسيًّا أعلن فيه أن الإنكليز قد جلوا عن البلاد وأن مصر قد أصبحت في حالة (استقلال). فصفق الشعب آنئذ بامتنان فائق، ثم ذهبوا إلى بيوتهم فرحين، وناموا آمنين مطمئنين.
إلا أنهم في صباح اليوم التالي استفاقوا وفوجئوا بأن القوات الإنكليزية لا تزال منتشرة في الشوارع كما كانت من قبل، وأن الاحتلال ما زال مخيمًا على البلاد!!!
أحد الصحافيين الساخرين الأذكياء تنبهت في داخله سليقة النحت فنشر مقالة افتتاحية في صحيفته قال فيها: إن زعيمنا المخلص سعدًا أخبرنا بأننا أصبحنا في حالة (استقلال)، إلا أن أعيننا التي لاتزال سليمة النظر أخبرتنا بأننا مازلنا في حالة (احتلال)، وبما أننا لا ينبغي لنا أن نكذِّب الزعيم ولا أن نكذِّب أعيننا فلنقل إذًا إننا في حالة (احتقلال)..
وظلت هذه المنحوتة اللغوية البارعة غطاء واقيًا لتهكم سياسي لا ينقطع.
والمشكلة أن مقالات هذا الصحفي الافتتاحية جرت العادة أن تترجم إلى اللغة الإنكليزية، فارتبك المترجم أمام هذه الكلمة الغريبة وحار كيف يجد لها كلمة مناسبة تقوم مقامها، فكان أن استعان بالصحفي نفسه الذي تمكن بدهائه أن يلفق من كلمتين بالإنكليزية كلمة واحدة تفي بالمراد كما فعل بالعربية.
والأطروفة الأخرى تغري القلم بالاستطراد قليلًا فلا أتمكن من كبحه، فالفنان العالمي المعروف فاتح المدرس قلة من الناس من يعرف أنه كانت له إطلالات على حقول معرفية واسعة، من بينها اللغة، ومن مظاهر شهرته أن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك اقتنى إحدى لوحاته، وأنه كانت تربطه بالفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر علاقة فكرية ومودة عميقة، حتى إن سارتر اختار مرة لوحة من لوحات فاتح وزين بها غلاف أحد أعداد مجلته (الأزمنة الحديثة)، غير أن هذه الصداقة لم يلبث الفنان الحر فاتح أن وحَّش بها وقوض خيمتها لأسباب ذكرتها لولا الخوف من التشعب والشرود عن الموضوع.
كان فاتح يقيم في دمشق إقامة دائمة، فهي العاصمة، والنشاط الثقافي والفني فيها أوسع منه في سائر المحافظات، وعندما يزور حلب لأمر ما كان يؤثر ارتياد مقهى الفندق السياحي على مقهى القصر، وكنا نجتمع به ثمة وتدور الأحاديث الخفيفة والنوادر اللطيفة، إذ إن جلسات المقهى لا تحتمل المواضيع الذهنية الدسمة.
في إحدى المرات تداول الحاضرون بسخرية واستخفاف ذلك الفيض من المصطلحات اليسارية التي كان (التقدميون) تتمطق بها ألسنتهم وبها يتطاولون ويتشادقون، ويُمنُّون الشعب ويبشرونه على حد زعمهم بالقضاء على اليمين العفن وبقدوم المجتمع الزاهر المنشود، ولكن على أسس الصراع الطبقي والعنف الثوري والتصنيفات الجائرة ووو.. هذه الأسس هي التي مهدت للإرهاب الحقيقي الذي أدمت أجسادنا وأرواحنا أشواكه الحادة اليوم، ومزق النسيج البهي لهذا المجتمع المتفتح الآمن المسالم الموحد.
ولن أسترسل لئلا.. بل أعود إلى ما بدأت، فالتفتُّ إلى الأستاذ فاتح وسألته ممازحًا: ما رأيك يا أستاذ فاتح.. هل فئة الفنانين والكتاب من طبقة (البروليتاريا) أم من طبقة (البورجوازية)؟؟ فقهقه ضاحكًا، وأجابني، وقد قفزت مهارة النحت اللغوي على لسانه دون تلبث وتفكير، وقال: نحن ياصاحبي من طبقة (البروليجوازيا)...
وبقي هذا المصطلح النحتي الجديد موضع تفكه بيننا مدة طويلة.
وسوم: العدد 721