عن ضعف التعاطف مع الثورة السورية

بعد ستة أعوام على أكبر مأساة عرفتها منطقتنا، وعلى رغم معاناة السوريين وتضحياتهم الجمّة، والأهوال التي تعرّضوا لها، ومن ضمنها التشرّد والغرق في البحر، وعلى رغم وحشية النظام الذي يقصفهم بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وقذائف الدبابات والمدفعية، وانتهاجه استخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة دولياً، والقتل تحت التعذيب، وآخرها اكتشاف محرقة سجن صيدنايا، إلا أن التعاطف مع السوريين لم يصل بعد إلى الدرجة المناسبة، لا في المجتمعات العربية، ولا في المجتمعات الغربية.

لا يتعلق الأمر بضعف التعاطف فحسب، إذ ما يفاقم هذه المأساة هو حالة إنكار هذه المعاناة والأهوال، والتلاعب وتزييف الحقائق، التي يقوم بها النظام وحلفاؤه، بتصوير الأمر حيناً باعتباره حرباً ضد الجماعات الإرهابية، أو التدخلات الخارجية، أو حرباً دينية أو طائفية، هدفها فقط اختطاف الحكم من السلطة القائمة.

هذا الوضع يجعلنا نتساءل بكل جدية ومسؤولية، ماذا فعلت المعارضة إزاء مهمة أساسية لها، وهي التعريف بطبيعة الثورة التي قامت من أجل الحرية، وإقامة دولة ديموقراطية، لا تتغول فيها الأجهزة الأمنية على حقوق المواطنين، ولا تنتهك حقوقهم الإنسانية؟

والحديث عن التعاطف الدولي لا يعني فقط الحكومات الغربية في الدول المحسوبة على «أصدقاء الشعب السوري»، وإنما يتعلق أيضاً بإقناع الرأي العام في هذه المجتمعات بمشروعية وعدالة ثورة السوريين، بدلاً من ترك الأمر للنظام ومن معه، وبدلاً من إفساح المجال لتصدر خطابات الجماعات العسكرية الإسلامية المتطرفة، عوض الخطابات التي تتحدث عن حق الشعب السوري في الحرية والمواطنة والديموقراطية. وتتعلق مسؤولية المعارضة أيضاً بالترويج للخطابات التي تعتبر أن ما يجري هو صراع سياسي بين الشعب والحكم الاستبدادي، في وضع وصل فيه البلد إلى حالة الانغلاق أو الاستعصاء، فلا السلطة قادرة على التغيير والتعاطي مع حقوق المواطنين، ولا عموم المواطنين يستطيعون الاستمرار في وضع الضحية المستسلمة إلى الأبد.

كان ذلك هو مضمون الندوة التي شاركت فيها في بوخارست أخيراً، أمام عشرات الباحثين والدارسين للعلوم السياسية، وبخاصة ما يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط. فقد فوجئت في هذه الندوة بحجم الجهل بمأساة السوريين، وبحجم التغييب المتعمد لمأساتهم، على رغم كل جهود الجالية السورية في رومانيا، وهي جهة لم يحاول «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» وهو الواجهة السياسية للمعارضة أن يتواصل معها للاستفادة وتنسيق الجهود لخدمة تسويق أهداف الثورة والتعريف بها، وهو ما بدا من صدمة المستمعين، لدى سماعهم حقيقة الترهيب والقتل والتخويف الذي تمارسه السلطة على الشعب. ويبدو من ذلك أن النظام استطاع استثمار آلته الإعلامية وعلاقاته لقلب الحقائق وتغييبها، إلا أن ذلك، في كل الأحوال، لم يحل دون إدراك النخبة التي كانت تناضل ضد استبداد النظام الشيوعي، كوزير الخارجية والثقافة السابق الفيلسوف أندريه بليشو، لحقيقة ما يجري، إذ يعتبر أن التعاطف الشعبي الأوروبي عموماً هو تحت تأثير إرهاب عابر للقارات، وأن مواجهة الإرهاب تتطلب اجتثاث الاستبداد من جذوره لا من نتائجه فحسب.

أما بخصوص تعويم فكرة الحرب الطائفية كبديل للصراع السياسي، فقد شجعت اهتمام الباحثين، ومنهم عميد كلية العلوم السياسية كريستان بيرفيليك، على مناقشة قضية العلويين والسنّة كحالة صراع ديني استخدمت كأداة حرب إعلامية ضد الثورة السورية،

المسألة لا تتعلق إذن بحجم المأساة السورية، وعدد ضحاياها وتنوع ألوان عذاباتهم، أو بالوسائل الإجرامية التي استخدمها النظام في مواجهة السوريين المطالبين بالحرية والانفكاك عن النظام الاستبدادي، الذي تولى حكم سورية، منذ عام 1963، بقدر ما تتعلق بجوانب أخرى، تكمن في العوامل المهمة الآتية:

أولاً: طبيعة النظام الدولي القائم على الاستقطاب وسياسة المحاور والمصالح بعيداً عن المبادئ والمعايير الإنسانية، مما أعاق تحرك مجلس الأمن ثماني مرات بسبب الفيتو الروسي والصيني.

ثانياً: إشكالية العلاقة بين الدين والعلمانية من جهة، وتفشي فوبيا الإسلام من جهة أخرى، ولا شكّ أن النظامين السوري والإيراني استطاعا التعامل مع هاتين الإشكاليتين ببراعة سواء بتصنيع جماعات إسلامية متطرفة أو تسهيل ذلك مثلاً عبر الإفراج عن قياداتها من معتقلاته، أو بالعمل على تصدير هذه الجماعات كقوة مقابلة له على الأرض لتشويه الثورة السورية ووصمها بالتطرف والطائفية والإرهاب.

ثالثاً، الانقسام الأيديولوجي في العالم حيث تقف الكيانات «اليسارية» مع النظام السوري من مبدأ معاداة الإمبريالية، ومواجهة المشروع الأميركي، وهذا يتجلى في التيارات اليسارية العربية، التي تنتهج معاداة الغرب، في شكل أعمى، وجملة وتفصيلاً. ومثل هذا «اليسار» الذي لم يرَ في النظام السوري واقعه كنظام استبدادي ووراثي، لن يرى مأساة الشعب السوري الذي يُقتل ويُهجّر، عقوبة له على مطالبته بالحرية والكرامة.

رابعاً: خطابات المعارضة، لا سيما العسكرية، التي انتهجت خطاباً إسلامياً، لا علاقة له بواقع الثورة ولا بمطالب السوريين، إذ إن هذه الخطابات أطاحت بصدقية الثورة وبمشروعية وعدالة أهدافها، ما أفاد النظام.

خامساً: قصور كيانات المعارضة واستغراقها في خلافاتها الداخلية مما أثر سلباً في دورها في تسويق قضيتها خارجياً، وحتى داخلياً.

باختصار، لا يقف العالم مع ثورة غير قادرة على التعبير عن نفسها، وخلق مشتركات لدى شعبها، كل شعبها بمختلف تلويناته العرقية والقومية والدينية والمذهبية، أي أن الحقوق وحدها لا تكفي لانتصار ثورة في زمن القوة والمصالح، وإنما يرتبط ذلك أساساً بتصور أهل الثورة أنفسهم عن المستقبل الذي تعد به، وهذا ما يفترض بالمعنيين في الثورة السورية إدراكه، والامتناع عن تصدير مقولات أن الصراع في سورية هو صراع بين مؤمنين وكفار، لأن هذه مقولات في ظاهرها وباطنها ما يسعى إلى هدم الثورة من داخلها.

وسوم: العدد 722