أفكار وتساؤلات
أضع بين أيدي إخواني وأخواتي مجموعة من الأفكار والتساؤلات المتعلقة بحالة الأمة والسعي إلى النهوض بها عسى أن تكون محلّ نقاش وإثراء ، وستكون على شكل حلقات متتابعة لتفادي المقالات المطوّلة التي أصبح كثير من المثقفين لا يطيقونها :
1 . بين النقد وجلد الذات : جلد الذات مرض نفسي يجعل الإنسان يضخّم أخطاءه ويتلذّذ بالحديث عنها و" يُعيد السكّين في الجرح " للشعور بمزيد من الألم ، ويبقى يدور في هذا الفلك بسلبيّة تزيد حاله تدهوراً ، أمّا النقد الذاتي الصريح – المراجعة والمحاسبة في أدبيّاتنا الإسلامية - فهو عمليّة واعية لإبصار عيوب النفس وتحديد أخطائها لعلاجها وتصحيح المسيرة ، ولم يعُد مقبولا أبدًا تمرير الأفكار بدون مناقشة ولا تكرارُها بدون تمحيص ولا تبرير المنحرف منها والدفاع عنه حتى الموت ، فقد حوّلت هذه العادات الفكرية العقول إلى أوعية فيها كمٌّ فوضوي من الأفكار ممّا أدّى إلى انتكاسات ذهنية ليس أقلّها حمل أفكار متضاربة إلى حدّ التناقض من غير أن يشعر أصحابُها بذلك ، إلى جانب الأحادية التي تُلغي الإثراء والتمييز وفسح مجالات الاختيار ولا يخفى أنّ هذا يؤدّي إلى نموّ المحافظة على القديم – ليس لأنه صحيح ولكن لأنه قديم اكتسب القدسية ، ولا خير في غيره – وازدياد مساحة التقليد واشتداد التعصّب وتحنيط العقل ، وكلّ هذا يُغري بالجنوح إلى تنزيه الذات واتّهام الغير وبالتالي إلى العنف اللفظي والمادّي بدل الحوار على خلفية انشراح الصدور، لأنّه يُوهم بامتلاك الحقيقة المطلقة ، وهو في النهاية يهدم ولا يبني ، ويَهوَى التفريق بدل التجميع.
2 . لماذا تأخّرنا ؟ : هذا السؤال قديم جديد ، كثيراً ما يواجهه المسلمون بإجابة في غاية التسطيح هي أن ذلك بسبب تخلّينا عن القرآن والسنّة ، وهذا حقّ بكلّ تأكيد بشرط أن نفهم معنى وحقيقة التخليّ ، بعيدا عن التفسيرات العاطفيّة الهلاميّة لهذه العبارة ، فكتاب الله تعالى يُحفظ ويُتلى ، والسنة النبوية محلّ اهتمام الدارسين والملتزمين ، لكنّ تحقيق الغايات والمقاصد هو الغائب على كثير من الأصعدة ، ولننظر مثلا إلى التغافل عن تفريطنا الكبير في القيم الحياتيّة الّتي طلّقتها مجتمعاتنا منذ مدّة طويلة ، فلم يعد المتديّنون يكترثون لأمر الحريّة والشورى والعدل والنّظام والدقّة والإتقان ، رغم أنّها خارجة من رحم الشّريعة وأشاد بها الوحي المنزّل وحثّ عليها تماماً كشأن العبادات والأخلاق ، فكيف نتقدّم في دنيا الناس ونكون شهداء عليهم ونحن نستمرئ التخلّف ونتوارث قيَمه وصيَغه ؟
إنّ إنسان التغيير والإصلاح والحضارة والشهادة يحتاج إلى عادات جديدة في حياته اليوميّة ومع محيطه ، وهذا يجب أن يستند إلى منظومة معرفيّة وسلوكيّة تنقله نقلةً نوعيّة يتعلّم منها أن يأتي وظيفته وعمله في الوقت تماماً بعد أن اعتاد على التأخّر والغياب ، وأن يحترم الموعد الّذي أعطاه مهما كان نوعه ، وهكذا ...
هذه النقلة ليست بالأمر الهيّن ، لكنّها واجبة وضروريّة إذ من الصعب على من تعوّد اللامبالاة أن تدبّ فيه روح المسؤوليّة ، ومن الصّعب على من تكيّف مع العمل غير المتقن أن ينجز أعمالاً متقنةً ، ومن الصّعب على المسؤول أو الموظّف الّذي أصبحت الرشوة جزءًا من حياته أن يصبح متعفّفاً... كلّ هذا صَعب جدّا لكنّه حتميّ إذا أردنا للأمّة أن تغادر مربّع التخلّف الحضاريّ ، والّذي يجب ملاحظته بوضوح والفصل فيه بكلّ جرأة أن النّقلة الّتي نتحدّث عنها لن يُحدثها وصول فصيل معيّن أو حزب أو حركة جادّة إلى السّلطة ، إنّما هي مهمّة التربيّة بواسطة البيت والمسجد والمدرسة وحلقة الذكر والمحضن التربوي ونحوها ، ذلك أنّ قطاعاً كبيراً منّا يربط إحداث التغيير النفسيّ والاجتماعيّ بالتربّع على كرسيّ السلطة وإصدار التّشريعات ، ورغم أهميّة الحكم الرّاشد فإنّ التجارب التاريخيّة أثبتت أنّ مناهج التغيير الناجحة هي ما صعد من القاعدة لا ما نزل من القمّة ، وهي حقيقة نفسيّة واجتماعيّة ثابتة ، فالتغيّر مرتبط بالأنفس أي بالتربيّة سلباً وإيجاباً ، وليس بتغيير الحكّام ، ويجدر بنا – هنا – الانتباه إلى الفرق الشاسع بين آلية الأفكار – أي التربيّة والتوعيّة – وبين آلية العضلات – أي السعي لبلوغ الحكم بأيّ ثمن – رغم أهمية السلطان عندما يستند إلى الحقّ والعدل وإرادة الإصلاح ، والذي لا تتوّج عملية التغيير إلاّ به ، وكثيرا ما تبقى القيم الكبرى مجرّد شعارات أو موادّ مَتحفيّةً ما لم تُحوّلها السلطة الشرعية العادلة إلى حقائق ينعَم بها الناس.
وما دمنا نتخبّط في دائرة التخلّف ونريد الخروج منها لكن بالأساليب الّتي أنتجها التخلّف ذاته فلن نذهب بعيداً ، ذلك أن أغلب الحركات الّتي تنشد الإصلاح تستصحب أمراض المجتمع وتجدّدها وتُطيل حياتَها ، مثل رفع شعار الشورى والعمل بالاستبداد ، ومثل انتقاد فكرة الزعيم الأوحد عند الحكومات ، وهي من جانبها تقدّس الزعيم وتربط نفسها به وجوداً وعدماً وتُضفي عليه هالات القداسة وتُنزّهه عن الخطأ وتُحصّنُه من المساءلة.
وسوم: العدد 723