التنسيق الأمني القاتل والتنسيق الاقتصادي الخانق
بدلاً من إسقاط التنسيق الأمني القاتل المخزي، القبيح البشع، المهين المذل، الذي أضر بالشعب الفلسطيني وأفسد حياته وأتلف نسيجه الاجتماعي، ومزق بنيانه وشتت صفوفه، وتسبب في مقتل واعتقال المئات من أبنائه، وشوه تاريخه وحرف نضاله، وألحق به معرةً يصعب مع الأيام شطبها ولا يسهل التغاضي عنها، رغم رفض الشعب له واستنكاره الشديد الالتزام به، ومطالبته المستمرة للسلطة بالكف عنه والامتناع عن المواصلة فيه، إذ أنه مصلحة إسرائيلية صرفة، ومنفعة للعدو خالصة، يستفيد منه ويحصن نفسه ومستوطنيه به، ويستغله إلى أبعد مدى ممكن في حماية كيانه وتنسيق عمليات جيشه، وتسهيل أنشطة مخابراته وأجهزته.
بدلاً من التخلص منه والبراءة من شروره وآثامه، وتحرير الشعب من قيوده وأغلاله، وتنزيهه من رجسه ونجسه، نشأ تنسيق جديدٌ لا يقل خطورةً عن التنسيق الأول، بل إنه أخطر من سابقه وأخبث منه، وأبلغ وجعاً وأشمل ضرراً، وأعم أذىً وأكثر إيلاماً، إذ أن الأول يمس فئةً من الشعب، ويتعامل مع فريقٍ من المواطنين، حيث يلاحق المقاومين والنشطاء، والنواب والوزراء والسياسيين، ويستهدف حملة السلاح والمقاومين، وأصحاب الفكر والنظريات والإعلاميين، والنشطاء ومن يسمونهم محرضين وفاعلين، وبمجموعهم لا يشكلون قطاعاً كبيراً من الشعب، ولا يمتد عقابهم ليطال غيرهم أو يعم ويشمل سواهم.
أما الجديدُ فهو التنسق الاقتصادي اللئيم، الذي يتم على أعلى المستويات السياسية والأمنية، ويستهدف كل قطاعات الحياة الاقتصادية اليومية، الزراعية والصناعية والطبية والدوائية، ومختلف الوظائف البيئية الحيوية، وما يتعلق بسوق الكهرباء والوقود ومشتقات النفط، ما يجعله يستهدف الشعب كله، ويضر بالمواطنين أجمعهم، ويطال كل المؤسسات الوطنية والبنى التحتية، ولا يستثني عاملاً أو طالباً، ولا موظفاً عاطلاً، ولا رجل أعمالٍ ولا رجل فكر، ولا امرأة أو رجلاً، ولا شاباً أو شيخاً، الأمر الذي يعني أن الشعب كله مستهدف، وفي المقدمة منهم الأطفال والنساء الحوامل والمرضى والمصابين وذوي العاهات المستديمة والأمراض المستعصية، وكل الضعفاء والفقراء كما الأقوياء والأغنياء.
هل يمكن لنا أن نصدق أن مسؤولاً فلسطينياً سواء كان رئيساً للسلطة أو رئيساً للحكومة، أو زيراً للحكم المحلي أو رئيساً للمخابرات العامة، أو آخرين غيرهم ممن لا نعلم عن جهودهم وأنشطتهم السرية، يقوم بالاتصال بمنسق شؤون الاحتلال يؤاف مردخاي، ويطلب منه تجويع شعبه، ومحاصرة أهله، وقطع النور عنهم، ومنع الكهرباء من أن تصل إليهم، والامتناع عن تزويدهم بوقود السيارات وغاز الطهي، والسولار المشغل لمحطة كهرباء غزة، وتقليص الخدمات الطبية المقدمة إليهم، ومنع التحويلات المرضية إلى المستشفيات الإسرائيلية، والتوقف عن شحن الأدوية وحليب الأطفال، والقائمة بعد ذلك قد تطول وتتنوع.
اليوم السلطة الفلسطينية هي التي تراقب وتدقق، وهي التي تتابع وتنسق، وهي التي تضع القوائم وتعيد تصنيف الممنوعات، وهي التي تقترح على السلطات الإسرائيلية حجب سلعٍ معينةٍ، أو تقليص كمياتها والتأخير في توريدها، فهي تعرف حاجات المواطنين في قطاع غزة، وتدرك معاناتهم، ولهذا فهي تحجب بعلمٍ، وتمنع عن قصدٍ، إذ أنها تتطلع إلى ثورة جياعٍ، وانتفاضة محرومين، وترى أنها الوسيلة الأنجع لاقتلاع حكم حماس من غزة، وخلق نقمةٍ شعبيةٍ ضدها، وتأليب الشارع وتحريضه للخروج عليها والانقلاب على سلطتها.
قد لا يمانع المحرضون على حصاره، والمتآمرون على أبنائه، والغرباء عن أهله، أن يتدخل جيش الاحتلال ويحسم النتيجة بالقوة، ويتدخل بقوة السلاح ليسحق المقاومة ويركع أهلها، ويقدم القطاع راكعاً لهم وخاضعاً لسيطرتهم، ليعودوا إليه ولو على ظهر دبابةٍ إسرائيلية، إذ لا يعنيهم من تكون الأداة ولا كيف يكون الأسلوب، ولا هوية البندقية التي نفذت المهمة وقامت بالدور، بقدر ما تعنيهم العودة إلى القطاع حكاماً وسلطة، وآمرين ومتسلطين، بعد أن عجزوا على مدى عشرة أعوامٍ خلت عن العودة إليه بالتفاهم والحوار، والتفاوض والاتفاق، ولا يبدو في الأفق أمامهم فرصةً حقيقية أخرى لفرض موقفهم وبسط هيمنتهم.
ولكن من سوء طالعهم وقلة حظهم، أن العدو يخشى المقاومة، ويحسب لها ألف حسابٍ وحسابٍ، ويخاف أن يتورط في حربٍ جديدةٍ لم يستعد لها، أو لا يضمن نتائجها، ولا يعرف يقيناً مآلاتها، ولا يحيط علماً بمفاجئاتها، ولا بالأسلحة المعدة لها والمجهزة لاستخدامها، ولهذا فهو يقدم رجلاً في تطبيق الحصار ويؤخر أخرى، ويتردد في الاستجابة إلى طلبات السلطة، وبعض قيادتهم ينتقدونها ولا يرون فيها حكمة، ويخافون من تداعياتها، ويرون أنها معركة فلسطينية داخلية فلا ينبغي أن يكونوا طرفاً فيها، أو أداةً بيد أحدهما ضد الآخر.
القائمون على هذه المؤامرة والمنفذون لسياستها، الذين يهددون باللجوء إلى إجراءاتٍ عقابية غير مسبوقة، لا يستهدفون حركة حماس وجمهورها وحدها وحسب، ولا يخصون المؤيدين لها بإجراءاتهم العقابية، إنما يشمل عقابهم المواطنين بأسرهم، ويعم الفئات كلها والتنظيمات على اختلافها، ولعل في المقدمة منهم أبناء حركة فتح جميعاً، حيث شملت الإجراءات موظفي حركة فتح القدامى، والعسكريين والنواب والعاملين في مختلف الهيئات والمؤسسات، فضلاً عن ذوي الأسرى والمعتقلين، والشهداء والجرحى والمصابين، الذين بدأ بهم قبل غيرهم، واستهدفهم أكثر من سواهم، إذ أطاع ترامب ونفذ أمره، وإن لم يرض عنه نتنياهو بَعدُ، إذ يرغب في المزيد.
هل يوجد في التاريخ قادةٌ يتحالفون مع عدوهم ضد شعبهم، ويطالبونه بالتضييق عليه وتشديد الخناق على أبنائه، وعدم تقديم أي تسهيلاتٍ ممكنةٍ له، وتركه وحده يعاني ويكابد، ويصرخ ويتألم، ويدعون عدوهم إلى الصمود والثبات، وعدم التراجع والانكفاء، أو الضعف والتراخي، وألا تأخذهم بالشعب المعنى المحاصر أي رحمةٍ أو رأفةٍ، وألا يشعروا تجاهه بالشفقة والرفق، وألا يستجيبوا إلى الضغوط الدولية والنداءات الإنسانية، ويطالبونه بالاستمرار في الضغط عليه ليموت وحده، أو يثور على حكامه وينقلب عليهم، ويعلن انتفاضةً ضدهم أو عصياناً لأوامرهم، إلا أن يسلموا مقاليد حكم القطاع وزمام أموره إلى سلطة رام الله، التي تعدهم بعد ذلك بالرخاء والرفاهية ورغد العيش، فهل نترحم على التنسيق الأمني القديم، أم نلعن الاثنين معاً، نرجم القديم ونفضح الجديد، ومن عمل بهما ونسق فيهما.