علماء الإسلام هكذا كانوا وهكذا غابوا
«يا خراشي»، إنْ كنتَ مِمَّن عاشوا أيامًا على أرض مصر، ستُدرك أنَّ هذه الكلمة لازِمةٌ تجري على ألسنة المصريين عندما يسمعون خَبرًا مُفزعا.
اعتقدتُّ لِوهْلة وأنا بينهم أنها تحريف لكلمة «يا خرابي»، لكنْ بالبحث تبيَّن أنهم ينطقونها ولا يُدركون أنها نداء قديم للمصريين يتوجَّهون به إلى الشيخ محمد الخراشي أوَّل من تولَّى مشْيَخة الأزهر، عندما كان لأحدهم مظْلمة أو شكْوَى من الوُلاة والحُكام، فينبَرِي لها هذا العالِمُ الوَرِع، الذي لا يخَاف في الحق لومة لائم، ويَردُّ إليهم حقوقهم، ويسعى لقضاء حوائجهم لدى أهل السلطة والنفوذ.
هكذا كان علماء الإسلام، مِحْور ارتكاز الأمة، تلْتفُّ حولهم الجماهير، لم يكونوا يؤمُّون الناس في المساجد، ثم يتركونهم في مُعترَك الحياة، ولم تقتصر مَهامّهُم على الوعظ والإرشاد، والأمر بتقوى الله، دون تقديم حُلول عمليَّة للشعوب، كانوا يتفاعلون مع الأحداث، ذوي مَهابة ومَكانة فرضتْ على الولاة أن يَدْمجُوهم في أي مُعادلة سياسية.
لماذا باتت هذه النماذج بعيدة عن واقعنا بُعْد المشرِقَيْن؟ لماذا صار أهل العلم – إلا من رحم ربي- ما بين مُدلّس يُفصّل الفتاوى على هوى السلطة، يبيع دينه بعَرَض مِن الدنيا قليل، وما بين أمين ضعيف مغلُوب على أمره، أقصى ما يطْمح إليه أن يصمت عن قول الباطل محفُوفًا بالسلامة؟ لماذا غاب عنا العلماء الذين يصْدَعون بالحق غير عابِئين بالبطش والقمع؟ لماذا فقدوا تأثيرهم في الأمة؟
لقد غاب العلماء بغياب الحاضنة الشعبية، لأنهم يستمدون قُوَّتهم من وعي الشعوب، فتأثيرهم كان نابِعا من وعي جماهيري عام، إذْ كان الناس يُدركون أهمية العلماء والحاجة إلى الالتفاف حولهم، فهم القيادات الجماهيرية التي تلْتحِم مع الشعوب، وتتَبنَّى تطلُّعَاتها، وحلقة الوصْل بينها وبين الحكام.
هذا الوعي أوْجد لدى الساسَة وأهل السلطة، نوعًا من الرهبة تجاه هؤلاء العلماء، الذين يملكون مفاتيح تشكيل الرأي العام، ولهم القدرة على تعبئة الجماهير.
عندما وصل العزُّ بن عبد السلام إلى مصر، رأى أن الأمراء الذين يعتمد عليهم الملك الصالح أيوب لا يزالون في حُكم الرِّقّ، فهم في الأصل مماليك تمَّ جلْبُهُم من أسواق الرقيق صغارا وتدريبهم حتى شبُّوا وتنَفَّذوا في السِّلك الأمني والإداري.
وبناء على ذلك رأى الشيخ أن هؤلاء لا تثْبُت لهم وِلاية، ولا تَصَرُّف في الشأن العام، ما لم يُحرَّرُوا، فأدَّى ذلك إلى تعَطُّل مَصالِح الأُمراء، كان من بينهم نائب السلطان نفسه، فحاولوا مُساومة الشيخ لتمرير المسألة دون ضجيج، فأَبَى إلا أنْ يُباعوا وتُرد أثمانُهم إلى بيت مال المسلمين، ويُعقد لهم مجلسٌ ليُبَاعوا فيه ويَنالوا العِتْق بطريقة شرعية.وأَبَى الشيخ أن يستجيب لمُراجعة السلطان، الذي أصَرَّ على أنّ المسألة لا تتعلق بسلطات وصلاحيات العز بن عبد السلام، فانسحب الشيخ، وعزَل نفسه من القضاء وغادَر القاهرة.
وفي مشهد تاريخي، خرج الشعب وراء العز مُغادِرا البلاد، احتجاجا على موقف السلطان من العالم الجليل وتأييدا للحق، فما كان من السلطان بعد أن أدْرَك خُطورة الموقف إلا أن ركِب في طَلب العزّ واسترْضاه للرجوع، فوافق الأخير على أن يتمَّ بيْع الأمراء، وبالفعل وقف الشيخ في مجلس البيع يُنادي عليهم، ويُغالي في أثمَانهم لإِفادة بيت المال، وسُمِّيَ من وقْتها «بائع الأمراء».
الحاضنة الشعبية والالتفاف الجماهيري، هو ما خَدَم العالم الجليل في قضيته في إقرار الحكم الشرعي رغم أنْف الوالي. ولكن في المقابل، ضعْف الحاضنة الشعبية له أسباب من ضِمْنها ابتعاد العلماء عن دوائر التأثير في المجتمعات، والتوَارِي خلْف الفكر الانْسِحابيِّ، والانعزال عن ميادين الحياة العامة للناس، وغفَلوا أو تغافلوا عنْ أنهم يدخلون في مُصطلح (أولي الأمر)، وهو ما نصَّ عليه أئمة التفسير، كابن عباس ومجاهد والحسن البصري وعطاء وغيرهم. فهي إذن مسؤولية مُشتركة، غاب تأثير العلماء نتيجة غياب الوعي الجماهيري، الذي ضعُف بدوْره بسبب إهمال العلماء وغفلتهم.
وغاب العلماء نتيجة لسيطرة العلمانية على دهاليز السياسة وأَرْوِقة الحُكّام، وتمّ عزْل الدِّين عن مَناحي الحياة وجوانبها المتعددة، وترتَّب عليه اخْتزال دور العلماء في الوقوف على المنابر للوعظ والتلقين، وانعزالهم عن القرارات السياسية، فغاب دورهم في تنْقيح القرارات ومتابعة الحكام، وتقوقعوا في الزوايا والمساجد، وتنكّبوا عن التلاحُم مع الشعوب، واندمجوا في هيئات هي أشْبَه بمؤسسات روحية أخلاقية.
في السابق كان العلماء في صَدارة الصفوف، ترَاهم على رأس الحاكم يعترضون على قراراته، إذا ما خالفت الشريعة، يقودون الجماهير في الثورات، يتقدمون المسيرات في عرض مطالب الشعب ورفع الظلم، ويُفْتون في النوازِل، ويُقدِّمون الحُلول العملية للناس. العالم الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية، خرج إلى «غازان» ملِك التتار الذي ادَّعى الإسلام لغزو الشام، وعنّفه وحذّره من قتل المسلمين، وكان يرفع صوته أمامه ويُخوِّفه، حتى خَشِيَه ملك التتار وأنْصت له.
ولكن في المقابل يُلام العلماء لأنهم أَناخُوا مَطاياهُم للنُّفُوذ العلماني، وانبطح كثير منهم أمام الحكام، إيثارا للراحة وطلبا للسلامة، مع أن التاريخ امتلأت صفحاته بعلماء صمَدُوا أمام المحاولات الجارِفة لتغيير الهوية، على رأسهم الإمام أحمد في محنته أمام المعتزلة الذين تسلَّطوا بسيف الخليفة.
فقد العلماء تأثيرهم ومَهابتُهُم لدى الحكام، عندما صارت جُهودهم مجرد وظيفة يتكسَّبون منها، بعد أن عمَدَت الأنظمة العلمانية إلى إدْراج الأنشطة الدينية في ميزانية الحكومات، وسلْب الأوقاف التي كان يُوقِفُها أهل البِرِّ على العلماء لكفايتهم، وعلى سبيل المثال: قيام عبد الناصر بسحب مُعظم أوقاف الأزهر من الأراضي الزراعية، وإصدار قانون 1961 وبموجبه تمّ سحْب أوقاف الأزهر مُقابل إدْراجه في الميزانية المعتمدة من الحكومة، حيث صار مؤسسة تابعة للدولة، فتمَّ تسييس وتطويع هذه المؤسسة العريقة لخدمة النظام.
لكنْ في المقابل أيضا، ليس ذلك بِعذْر للعلماء في التنكُّب عن أداء دورهم، وقبول هذا التلاعب بهم وبمكانتهم من أجل لُقمة العيش.
عندما دخل إبراهيم باشا (والي محمد علي في سوريا) المسجد، وأقبل عليه الناس، ظلَّ الشيخ سعيد الحلبي جالسا مادَّا رجليه، فاستشاط إبراهيم باشا غضبا، وأراد إنهاء هذا المشهد المُزعج بألف ليرة أرسلها للشيخ مع وزيره، فما كان من الحلبي إلا أن قال للوزير: عُد بنقود سيدك ورُدّها إليه، وقل له: إن الذي يمُدُّ رِجله، لا يمُدُّ يده».
هكذا كان العلماء، وهكذا غابوا، نسأل الله لهم عودا حميدا.
وسوم: العدد 725