المسجد المحزون
لشوقي قصيدة رائعة قالها يوم زار سورية، واحتفى به أهلها احتفاء يليق به، خاصة أن شهرته يومها كانت قد ملأت الآفاق، مطلعها:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا مشت على الرسم أحداث وأزمان
وقد وصف فيها دمشق وصفاً بديعاً، وصور غوطتها الخضراء، وبردى الذي يصفق لزوارها، وتذكر كيف كانت العاصمة الثانية للإسلام، وتذكر كيف جعلها بنو أمية منطلقاً للفتوحات التي شرقت وغربت مقرونة بالظفر والعدل، وبلغ التوفيق عند الشاعر الكبير ذروته حين قال في المسجد الأموي الذي يعد من أعظم مساجد الإسلام:
مررت بالمسـجد المـحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروان تغير المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرار وعبدان فلا الأذان أذان في منارته إذا تعالى ولا الآذان آذان
وهي أبيات غالية عالية، معنى وصورة وموسيقى ولغة، وأجمل ما فيها أنها تضعك أمام التناقض الحاد بين أمس رائع غالب وحاضر يائس مغلوب، وأنها جعلت من المسجد العريق رمزاً لهذا التناقض، فبالأمس كان الخليفة في دمشق السيد المطاع والفاتح المظفر، وكان المسجد العريق موئلاً للعلم والشموخ، وكان الأذان يعلو فيه ليعلن هوية الأمة إعلاناً يقترن بالغلبة والعزة، أما اليوم فدمشق في أسر الغاصب الفرنسي، وأما بنو أمية فخبر في زوايا الكتب والنسيان، وأما الأذان، فإنه يعلو مختلفاً عما كان عليه بالأمس، الأذان غير الأذان، والآذان غير الآذان، والخطباء غير الخطباء. هل لي أن أقول: إن هذه الأبيات الثلاثة تعدل قصيدة كاملة؟
لقد صدقت أبيات شوقي على مسجد دمشق، لكنها أكثر صدقاً على المسجد الأموي العظيم في قرطبة، فمأساة المسجد القرطبي أكبر وأحزانه أشد والمصير الذي انتهى إليه أفجع. وإذن فلا غرابة أن أسميه >المسجد المحزون< تقليداً لشوقي.
بدأ أمر المسجد في قرطبة مع الأمير الأموي الداهية الشجاع المرزأ عبدالرحمن الداخل، الذي فر من سيوف بني العباس في مغامرة طويلة ملأى بالصبر والحذر والشجاعة، حتى وصل الأندلس فقاتل فيها حتى خلصت له، وأعاد الدولة الأموية فيها غالبة ظافرة، ووطد قواعدها وأرسى نظمها وأحكم بنيانها، حتى فرض الإعجاب به حتى على خصومه ومنهم أبو جعفر المنصور الذي لقبه من فرط إعجابه به >صقر قريش<(
>[1]< الدولة الأموية من أعاجيب الدول، وهي ـــــــــ بما لها وما عليها ـــــــــ أعظم دول الإسلام بعد دولة الخلفاء الراشدين، والإلحاح على نقدها بحق وبباطل، وبداعٍ وبدون داعٍ، مع السكوت عن إنجازاتها الباهرة، أمر شائن يدل على جهل صاحبه، أو باطنيته، أو شعوبيته، أو على ذلك جميعاً. إنها أقل من الدولة الراشدية بكثير، لكنها أعظم من الدول التالية لها بكثير، وحسبها شرفاً ومجداً أنها ــــــــ وهي التي عاشت أقل من قرن ــــــــ أوصلت الإسلام إلى الصين شرقاً، وإلى الأندلس غرباً، وحين سقطت في الشرق أعاد مجدها في الغرب ابنها العبقري الداهية الجبار صقر قريش، فارتقت إسبانيا على يديه وأيدي خلفائه من بعده رقياً عظيماً.
وسوم: العدد 726