حروف الخط العربي .. التطور في الرسم والترتيب
(1)
لخَّص الشيخ حسين والي ما فصَّله الشيخ نصر الهوريني في كتابه "المطالع النصرية"، وما فصَّله الخطاط المكي محمد طاهر عبد القادر الكردي في كتابه "تاريخ الخط العربي وآدابه"- في مقدمة كتابه "الإملاء" ص ص 6-8، فسرد تاريخ الكتابة العالمية وتحولها من الكتابة الصورية الرمزية إلى الكتابة اللفظية المسمارية ومنها الكتابة الحرفية التي هي تصوير اللفظ بحروف هجائية.
ثم بدأ يتتبع نشأة الخط العربي من حِمْير الذي كان خطهم يُسمى المُسْنَد، ثم كان انتقاله إلى الحِيرَة على يد مُرَامِر بن مُرَّة وعامر بن جَدْرة وأَسْلم بن سِدْرة كما يروي القاموس، وكلهم من عرب طيئ. ثم جزموا أي اقتطعوا منه خطا آخر هو الخط العربي المسمى بالجزم الذي سُمي بعد ذلك بالكوفي بعد اتساع دولة الإسلام وظهور علماء الكوفة.
ويرفض الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف .. دراسة لغوية تاريخية" ص ص 32-33 علاقة خط المسند خط جنوب الجزيرة بخط الجزم خط شمالها قائلا: "قد جاءت الاكتشافات الحديثة لتنفي كل صلة بين الخط العربي الشمالي الذي كتب به القرآن وبين المسند الذي كان أهل اليمن يكتبون به قبل الإسلام، ولعل ما بينها من صلة لا يتعدى أنهما اشتقا من أصل سامي واحد. وأشكال حروف الخط المسند تختلف اختلافا أساسيا عن أشكال حروف الخط العربي، ويظهر ذلك الاختلاف بمجرد النظر إلى أي نص يمني جنوبي كتب بالمسند ومقارنته بنص كتابي عربي قديم كتب بالخط الشمالي".
ثم أخذ يسرد تاريخ انتقال الخط من العراق إلى دومة الجندل إلى الطائف إلى الحجاز، فيكون أصل الخط هو الخط النبطي المنحدر عن الآرامية لا المسند.
وجاء في كتاب "المصاحف" لابن أبي داود السجستاني الطبعة الثانية ص ص151-152 تحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ، باب خطوط المصاحف- عن أولية الكتابة العربية هذه الروايات:
[12- حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَيْنَ تَعَلَّمْتُمُ الْكِتَابَةَ؟ قَالُوا: مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ. وَسَأَلْنَا أَهْلَ الْحِيرَةِ: مِنْ أَيْنَ تَعَلَّمْتُمُ الْكِتَابَةَ؟ قَالُوا: مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ.
13- حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: أُكَيْدِرُ دُومَةَ هُوَ الْأُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْكِنْدِيُّ وَأَخُوهُ بِشْرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الَّذِي عَلَّمَهُ أَهْلُ الْأَنْبَارِ خَطَّنَا هَذَا، فَخَرَجَ بِشْرٌ إِلَى مَكَّةَ فَتَزَوَّجَ الصَّهْبَاءَ بِنْتَ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ جَارِيَتَيْنِ.
وَقَالَ غَيْرُ عَلِيٍّ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إِنَّ خَطَّنَا هَذَا سُمِّيَ الْجَزْمَ، وَأَوَّلُ مَا كُتِبَ بِبَقَّةَ، كَتَبَهُ قَوْمٌ مِنْ طَيِّ يَقُولُونَ: هُمْ مِنْ بُولَانَ. وَكَانَ الشَّرْقِيُّ يَقُولُ: مُرَامِرُ بْنُ مُرَّةَ وَسَلَمَةُ بْنُ حَزْرَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ وَضَعُوا هَذَا الْكِتَابَ.
قَالَ هِشَامٌ الَّذِي غَضِبَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي قَتْلِ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ.
وَقَالَ غَيْرُ عَلِيٍّ: إِنَّ بِشْرًا لَمَّا تَزَوَّجَ الصَّهْبَاءَ بِنْتَ حَرْبٍ عَلَّمَ هَذَا الْخَطَّ سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ. وَقَالَ: إن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَنْ بِمَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ تَعَلَّمُوا الْكِتَابَ مِنْ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَتَعَلَّمَهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَمِّهِ سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَقَّةُ قَرْيَةٌ وَرَاءَ الْأَنْبَارِ لَهَا بَقَّةٌ].
واعتمد الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف .. دراسة لغوية تاريخية" ص36 على هذه الرواية في تفسير تلقيب الخط الشمالي بالجزم تفسيرا يخالف كونه مقتطعا من الخط المسند قائلا: "الجزم في بعض معانيه ضرب من الكتابة وهو تسوية الحرف، فكأن دور الرجال الثلاثة - مُرَامِر بن مُرَّة وعامر بن جَدْرة وأَسْلم بن سِدْرة- كان تسوية الحروف وتنسيقها بحيث تبدو أكثر تنظيما واستجابة لسرعة الكاتب أو شيئا من هذا القبيل، فأطلق على عملهم في تحسين الخط اسم الجزم لا على أنهم اقتطعوا الخط وأخذوه من المسند".
ويقول الشيخ حسين والي ص9 في كتابه "الإملاء": (وكان تعليم الحروف في أول الأمر على ترتيب أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ. ثم أورد رواية تقول: روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعروة بن الزبير أنهما قالا: أول من وضع الكِتَاب العربي قوم من الأوائل نزلوا في عدنان بن أدّ بن أدد أسماؤهم: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت. فوُضِع الكِتَاب العربي على أسمائهم، ووجدوا حروف ستة ليست من أسمائهم وهي "ثخذ ضظغ" فسموها الروادف).
ويرفض الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف .. دراسة لغوية تاريخية" كون هذه الكلمات أسماء أشخاص ملوكا أو غيرهم، ويجعلها طريقة في ترتيب الحروف في مجاميع للتسهيل.
(2)
هكذا كانت رحلة الحروف العربية واكتمالها ثمانية وعشرين حرفا بالترتيب الأبجدي، ثم جاءت التطويرات نتيجة خدمة القرآن الكريم.
كيف؟
يقول الدكتور أحمد بن أحمد شرشال في تقديم تحقيقه كتاب "الطراز في شرح ضبط الخراز" في مباحث الباب الأول المعني بتعريف موضوع الكتاب التي هي: تعريف النقط والشكل والإعجام، وسبب النقط والإعجام، وشكل الخليل وسببه، وأهمية النقط والشكل، وأول من نقط المصاحف.
يقول الدكتور ص33: "كلمة النقط استعملت في معنيين متقاربين: الأول: الدلالة على النقط الحمراء المنسوبة إلى أبي الأسود الدؤلي التي تمثل الحركات القصيرة والتنوين، وتسمى نقط الإعراب أو النقط المدوَّر. والآخر: نقط الإعجام المنسوب إلى نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر العدواني، وهو نقط الحروف في ذاتها لتمييز الحروف المتشابهة في الصورة". ويبين ص 37 أن نقط الإعراب يكون بصبغ مخالف، ونقط الإعجام يكون بمداد كتابة الحرف نفسه. وفي ص39 ينقل عن الخطاط المكي محمد طاهر عبد القادر الكردي في كتابه "تاريخ الخط العربي وآدابه" قوله: "إن نقط الإعجام صار من بنية الحرف".
ويذكر ص 44 قول حمزة الأصفهاني عن السبب الداعي إلى نقط الإعجام: "الذي أبدع صور الحروف لم يضعها على حكمة ولا احتاط لمن يجيء بعده حيث وضع لخمسة أحرف صورة واحدة وهي الباء والتاء والثاء والنون والياء، وكان وجه الحكمة فيه أن يضع لكل حرف صورة مباينة للأخرى حتى يؤمن عليه التبديل".
ثم يذكر ص ص 49-50 سبب تغيير الترتيب فقال: "وبعد أن نقطوا بعض الحروف وأهملوا بعضها الآخراتفقوا على جمع الحروف المتشابهة بعضها بجانب بعض، ولذلك اضطروا إلى مخالفة الترتيب القديم المألوف عند أكثر الأمم والترتيب الحديث الذي روعي فيه ترتيب المخارج- إلى ترتيب آخر وهو ترتيب أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ... إلخ. وقد تم إعجام خمسة عشر حرفا، وبقيت الحروف غير المتشابهة وعددها ثلاثة عشر حرفا من دون إعجام".
ويشير صاحب "تاريخ الخط العربي وآدابه" ص 77 إلى أن أتباع نصر بن عاصم تفننوا في شكل النقط بين مربع أو مدور مسدود الوسط أو مفتوحه.
وخالف العلامة حفني بك ناصف ذلك في كتابه "تاريخ الأدب أو حياة اللغة" نقلا عن "تاريخ الخط العربي وآدابه" ص ص 84-85 بقوله:
[المشهور أن اختراع الإعجام كان في زمن عبد الملك بن مروان، والتحقيق أنه قبل الإسلام، ولنا على ذلك ثلاثة أدلة:
أولها: ما روي عن ابن عباس من أن عامر بن جدرة هو الذي وضع الإعجام.
وثانيهما: أنا نجد للباء والتاء والثاء مع اختلافها في النطق صورة واحدة، وكذلك للجيم والحاء والخاء، وللدال وللذال، وهلم جرا. ويبعد كل البعد أن تكون الحروف موضوعة في أول أمرها على هذا اللبس المنافي لحكمة الواضعين الذاهب بحسن الاختراع؛ فإما أن يكون لكل حرف شكل مخالف لسائر الحروف، ثم اتحدت الأشكال المتقاربة، وصارت شكلا واحدا بتساهل الكتاب وطول الزمن. وإما أن يكون بعض الأشكال موضوعا لعدة أحرف، ووضع الإعجام معها لتمييزها بعضها عن بعض. وقد ثبت مما نقلناه عن المؤرخين أن الروادف، وهي أحرف "ث خ ذ ض ظ غ" لم يكن لها صورة في الخط الفينيقي الذي هو أساس الخط العربي- فلابد أن يكون واضع الحروف العربية قد أخذ لها صور الباء والجيم والدال والصاد والطاء والعين، ووضع لها النقط لتمييز المأخوذ عن المأخوذ عنه.
وثالثها، وبه فصل الخطاب: أنه قد عُثر على كتابات قديمة محررة قبل خلافة عبد الملك فيها إعجام بعض الحروف كالباء وما يشبهها.
فيفهم من جميع ذلك أن الإعجام موضوع قبل الإسلام لكن تساهل الكتاب في أمره شيئا فشيئا حتى تنوسي ولم يبق منه إلا النادر إلى أن جاء زمن عبد الملك فحتَّم على كتاب دولته رعايته].
وبعد أن يذكر الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف .. دراسة لغوية تاريخية" هذا الرأي وغيره من آراء حديثة وروايات مأثورة حول بدء نقط الإعجام يقول ص476: "ويكفينا أن نشير إلى أن العلماء متفقون على أن الروايات التاريخية بشأن استعمال نقط الإعراب في المصاحف ليست موضع شك. أما قول بعضهم: إن نقط الإعجام قديم، وإنه ربما وضع مع الحروف أو إنه استعمل قبل الإسلام استنادا إلى ما تقدم من أقوال وأخبار، واستنادا إلى دلالة بعض الوثائق- فنرى أن الاعتماد على تلك الأقوال وحدها غير كاف خاصة أنها تخلو من غموض أو تناقض، أو أنها قيلت في فترات متأخرة مع غياب معرفة التاريخ الصحيح لبداية نقط الإعجام عن القائلين بها".
ويذكر الشيخ حسين والي ص ص 10-11 في كتابه "الإملاء" اختلاف الترتيب الأبجدي المشرقي عن المغربي الذي جعل الترتيب الألفبائي يختلف على النحو الآتي:
(الترتيب المشرقي: أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن و هـ ي
الترتيب المغربي: أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ و ي)
ويستغرب الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف .. دراسة لغوية تاريخية" هذا الاختلاف، ويشير إلى أن هذا الاختلاف يستحق أن يدرس لمعرفة أسبابه.
ثم ذكر الشيخ حسين والي سبب الترتيب الألفبائي وأسراره من ص14حتى ص17 نقلا عن أبي عمرو الداني في كتابه "نقط المصاحف"، وسأنقل قول أبي عمرو بعد قول الشيخ حسين والي.
يقول الشيخ حسين والي:
[أما سبب ترتيب الحروف الهجائية على النسق المعروف، واختصاص بعضها بالنقط دون بعض، وما يتعلق بذلك فقد بينه بعضهم فقال:
(أ) تقدمت لتقدمها في حروف أبجد التي هي أصل حروف التهجي، ولتقدم مخرجها.
( ب ت ث) وليت الباء الألف؛ لأنها كذلك في "أبجد"، ووليتها التاء والثاء لمشابهتهما لها في الصورة، وقدمت التاء لكونها من حروف أبجد والثاء من الروادف، ولكثرة دور التاء في الكلام.
(ج ح خ) قدمت الجيم لتقدمها في "أبجد"، ووليها الحاء والخاء لمشابهتهما لها في الصورة، وقدمت الحاء لكونها من حروف أبجد والخاء من الروادف، ولتقدم مخرج الحاء عن الخاء.
(د ذ) قدمت الدال لتقدمها في "أبجد"، ووليتها الذال لمشابهتها لها في الصورة، وأهملت الدال لأنها الأصل والذال من الروادف، ولأن الذال أقل من الدال في الكلام. وجعلتا من حروف الانفصال لئلا تشتبها بالكاف في حالة الاتصال.
(ر ز) قدمت الزاي لتقدمها في "أبجد" عدا الهاء والواو؛ لأنهم أرادوا أن يجعلوا الحروف المزدوجة متوالية لا يفصل بينها شيء من الحروف المفردة. وجاورتها الراء لمشابهتها لها في الصورة، وقدمت الراء على الرغم من تأخرها في ترتيب أبجد؛ لكونها أكثر ورودا في الكلام، ولهذا أهملت الراء وأعجمت الزاي. وجعلتا من حروف الانفصال لئلا تشتبها بنحو الباء والتاء في بعض مواضع الاتصال.
وإلى هنا يتفق أهل المشرق والمغرب في الترتيب، واختلفوا فيما بعد ذلك.
(س ش) وليت السين الزاي لمؤاخاتها لها في الصفير، ووليتها الشين لمشابهتها لها في الصورة. وأهملت السين لأنها أكثر دورا في الكلام، وجعلت نقط الشين ثلاثا ولم يكتف في تميزها بنقطة واحدة؛ لئلا يتوهم أن ما وقعت النقطة عليه نون، ولا باثنتين لئلا يتوهم أنها تاء.
ورسم أهل المغرب بعد الزاي الطاء لتقدمها على ما بعدها في أبجد، وجعلوا بعدها الظاء لمشابهة الظاء لها في الرسم.
(ص ض) قدمت الصاد لكونها قريبة من السين المشاركة لها في الصفير والهمس، ووليتها الضاد لمشابهتها لها في الصورة. وأهملت الصاد لكونها أكثر دورا في الكلام من الضاد، ولأنها جاءت على الأصل في التعرية.
(ط ظ) قدمت الطاء على ما بعدها لتقدمها في "أبجد" عدا الهاء والواو؛ لأنهم أرادوا أن يجعلوا الحروف المزدوجة متوالية لا يفصل بينها شيء من الحروف المفردة. وجاورتها الظاء لمشابهتها لها في الصورة. وخصت الظاء بالنقط لقلة ورودها في الكلام، ولأن الاشتباه إنما جاء من قبلها؛ لأن الطاء عريت على الأصل.
(ع غ) قدمتا لكونهما آخر ما بقي من المزدوج المطلق، وقدمت العين لكونها أكثر من الغين في الكلام ولتقدم مخرجها عن الغين، ولهذا أخليت من النقط.
(ف ق) قدمت الفاء لكونها تلي العين في "أبجد"، ووليتها القاف لموافقتها لها صورة في غير الأطراف من الكلام، فأشبها المزدوج المستحق التقديم على المنفرد.
وكان القياس يقتضي إهمال الفاء لكثرتها وتقدمها وإعجام القاف لقلتها وتأخرها غير أنهم التزموا إعجامهما معا؛ فميز أهل المشرق الفاء بنقطة والقاف بنقطتين وجعلوهما فوق الحرف، واكتفى أهل المغرب في التمييز بنقطة واحدة جعلوها في الفاء من تحت وفي القاف من فوق. فإذا وقعتا في آخر الكلمة نحو مشرف ومشرق لم ينقطوهما أصلا - المغاربة- لتميز كل واحد منهما بصورته.
(ك ل م ن) هذه الأحرف جاءت على الأصل لموافقتها للفظة "كلمن"، ولم تنقط لعدم الاحتياج إليه إلا النون فإنها تنقط بنقطة واحدة من فوق إذا وقعت في أول الكلمة أو وسطها لئلا تشتبه بالباء أو التاء أو الثاء أو الياء، وتعرى من النقط إذا وقعت في الآخر نحو كمن لعدم الاشتباه حينئذ (في الرسم المغربي).
(و هـ ي) هذه الأحرف الثلاثة هي آخر الحروف، وهي مهملة إلا الياء فإنها تعجم؛ لأنها إن وقعت في غير الطرف اشتبهت بالباء والتاء والنون، وإن وقعت في الطرف اشتبهت بالألف المكتوبة على صورة الياء. والذي عليه المعول أن النون والفاء والقاف إذا انفردت أو تطرفت جاز فيها النقط وعدمه، وأن الياء إذا تطرفت أو انفردت لا يجوز نقطها].
واستغرقت الصفحات من 17 حتى 21 في الحديث عن الألف المدية، ونفي كون "لا" التي هي "لام ألف" حرف هجائي؛ لعدم ورودها في عد الخليل ولا سيبويه للحروف، ولأنها حرف مركب وليس مفردا.
ويزيد أبو عمرو الداني في كتابه "المحكم في نقط المصاحف" بَاب ذكر القَوْل فِي حُرُوف التهجي وترتيب رسمها فِي الْكِتَابَة (ص ص 28-33)- الأمر وضوحا بإيراد سر ترتيب الحروف بالترتيب المشرقي والمغربي كالآتي: "قَالَ أَبُو عَمْرو: ... وأنا أزيد فِي شَرحه وَبَيَانه مَا لم أجده لسالف وَلَا رَأَيْته لمتقدم فَأَقُول:
إِنَّمَا تقدّمت الألف وَإِن كَانَت مُنْفَرِدَة للمذكور فِي الْخَبَر وَالنَّظَر من اسْتِحْقَاقهَا ذَلِك، ولتقدمها أَيْضا فِي أول الْفَاتِحَة الَّتِي هِيَ أم الْقُرْآن، ولكثرة دورها فِي الْكَلَام وترددها فِي الْمنطق؛ إِذْ هِيَ أكثر الْحُرُوف دورا وترددا.
ثمَّ وليتها الْبَاء وَالتَّاء والثاء؛ لكثرتهن؛ إِذْ هن ثَلَاث، وكونهن على صُورَة وَاحِدَة. وَمَا كثر عدده واتفقت صورته فالعادة جَارِيَة على تَقْدِيمه، وَتَقَدَّمت الْبَاء لتقدمها فِي التَّسْمِيَة الَّتِي يستفتح بهَا مَعَ التَّعَوُّذ الَّذِي أوله الألف الْمُتَقَدّمَة، ولتقدمها فِي حُرُوف أبي جاد الَّتِي هِيَ أصل حُرُوف التهجي، وَلِأَنَّهَا أيضا تنقط وَاحِدَة وَالتَّاء اثْنَتَيْنِ والثاء ثَلَاثًا على تَرْتِيب الْعدَد، فَوَجَبَ أن تكون الْبَاء أولا ثمَّ التَّاء ثمَّ الثَّاء لذَلِك. وَقد يكون تقدم التَّاء لكثرتها وَتَأْخِير الثَّاء لقلتهَا؛ إِذْ الْكثير اولى بالتقديم من الْقَلِيل الدّور.
ثمَّ وليتهن الْجِيم والحاء وَالْخَاء لكثرتهن ايضا واتفاق صورتهن إِذْ هن ثَلَاث على صُورَة وَاحِدَة واتصال الْجِيم بِالْبَاء فِي كلمة أبي جاد وَتَقَدَّمت الْجِيم الْحَاء لتقدمها عَلَيْهَا فِي ذَلِك وَتَقَدَّمت الْحَاء الْخَاء لتقدمها عَلَيْهَا فِي الْمخْرج من الْحلق إِذْ هِيَ من وَسطه وَالْخَاء من ادناه الى الْفَم فَلذَلِك جَاءَت آخرا
ثمَّ وليتهن الدَّال والذال وهما على صُورَة وَاحِدَة؛ لاشتباه صورتهما بصورتهن، وَتَقَدَّمت الدَّال لتقدمها فِي حُرُوف أبي جاد، وَلِأَنَّهَا أقْربْ إلى الْجِيم من الذَّال. ثمَّ وليتهما الرَّاء وَالزَّاي وهما على صُورَة وَاحِدَة؛ لقرب صورتهما من صورتهما، وَتَقَدَّمت الرَّاء وَإِن كَانَت الزَّاي مُتَقَدّمَة على الرَّاء فِي حُرُوف أبي جاد مُوَافقَة للحاء وَالْخَاء وَالدَّال والذال من جِهَة الإعجام إِذْ كَانَت الْحَاء الْمُتَقَدّمَة على الْخَاء وَالدَّال الْمُتَقَدّمَة على الذَّال غير منقوطتين، فَكَذَلِك الرَّاء الْمُتَقَدّمَة على الزَّاي مثلهمَا سَوَاء؛ ليَأْتِي المزدوج كُله على طَريقَة وَاحِدَة وَلَا يخْتَلف.
إلى هَا هُنَا اتّفق تَرْتِيب الْجَمِيع من السّلف وتابعيهم من أهل الْمشرق وأهل الْمغرب، وَاخْتلفُوا فِي تَرْتِيب مَا بعد ذَلِك من المزدوج وَالْمُنْفَرد إلى آخر الْحُرُوف؛ فرسم أهل الْمشرق بعد الرَّاء وَالزَّاي السِّين والشين وهما على صُورَة وَاحِدَة؛ لمؤاخاة السِّين الزَّاي فِي الصفير الَّذِي هُوَ زِيَادَة الصَّوْت، وَتَقَدَّمت السِّين الشين كَمَا تقدم غير المعجم من المشتبهين فِي الصُّورَة المعجم؛ لأن الِاشْتِبَاه وَقع بِالثَّانِي من المزدوج لَا بالأول؛ لَأن الأول جَاءَ على أصله من التعرية، فَفرق بَينهمَا بِأَن نقط الثَّانِي؛ لأن النقط إِنَّمَا اسْتعْمل ليفرق بِهِ بَين المشتبه من الْحُرُوف فِي الصُّورَة لَا غير، وَلَوْلَا ذَلِك لم يحْتَج إليه وَلَا اسْتعْمل؛ فَهُوَ فرع، والتعرية أصل، والأصل يُقدَّم على الْفَرْع؛ فَلذَلِك تقدم غير المنقوط من المزدوج.
ثمَّ الصَّاد وَالضَّاد وهما على صُورَة وَاحِدَة لمشاركة الصَّاد السِّين فِي الصفير والهمس جَمِيعًا، وَتَقَدَّمت الصَّاد الضَّاد كَمَا تقدّمت السِّين الشين. وَلم يرسموهما قبل السِّين والشين وَإِن كَانَتَا متقدمتين عَلَيْهِمَا فِي حُرُوف أبي جاد لمؤاخاة السِّين الزَّاي فِي الصَّوْت، ومشاركة الشين الْجِيم فِي الْمخْرج؛ فَقدما لذَلِك عَلَيْهِمَا.
ثمَّ الطَّاء والظاء وهما على صُورَة وَاحِدَة لمشاركتهما الصَّاد وَالضَّاد فِي الإطباق والاستعلاء فولياهما لذَلِك، وَتَقَدَّمت الطَّاء الظَّاء كَمَا تقدّمت الصَّاد الضَّاد، ولتقدمها أَيْضا فِي حُرُوف أبي جاد، ومؤاخاتها الدَّال فِي الْمخْرج.
ثمَّ الْعين والغين وهما على صُورَة وَاحِدَة لِكَوْنِهِمَا آخر مَا بَقِي من المزدوج؛ فَلذَلِك رسما آخرا، وَتَقَدَّمت الْعين الْغَيْن كَمَا تقدّمت الْحَاء الْخَاء من طَرِيق الْمخْرج وجهة الإعجام.
ثمَّ رسموا الْمُنْفَرد، فرسموا بعد الْعين والغين الْفَاء وَالْقَاف، وقدما لِاتِّفَاق صورتهما فِي غير الْأَطْرَاف من الْكَلم، فأشبها المزدوج بذلك فَقدما على سَائِر الْمُنْفَرد؛ إِذْ الْفَاء مُتَّصِلَة بِالْعينِ ومرسومة بعْدهَا فِي حُرُوف أبي جاد. وَتَقَدَّمت الْفَاء الْقَاف؛ لتقدمها عَلَيْهَا فِي حُرُوف أبي جاد، ولتعاقبها مَعَ الثَّاء الْمُتَقَدّمَة فِي حُرُوف التهجي فِي نَحْو جدث وجدف وثوم وفوم.
ثمَّ الْكَاف ثمَّ اللَّام ثمَّ الْمِيم ثمَّ النُّون مُوَافقَة لترتيب رسمهن فِي كلمة كلمن، وَتَقَدَّمت الْكَاف لتقدمها فِي ذَلِك، ولاشتراكها مَعَ الْقَاف الَّتِي وليتها فِي مخرج أقْصَى اللِّسَان. وَتَقَدَّمت اللَّام الْمِيم وَالنُّون؛ لاشتباه صورتهَا بِصُورَة الْألف الْمُتَقَدّمَة فِي حُرُوف التهجي، وَتَقَدَّمت الْمِيم النُّون لقوتها وَلُزُوم صَوتهَا؛ إِذْ كَانَ غير زائل عَنْهَا من حَيْثُ امْتنع إدغامها فِي مقاربها، وَكَانَ صَوت النُّون قد يَزُول عَنْهَا بالإدغام، وَيذْهب لَفظهَا من الْفَم أيضا فَلَا يبْقى مِنْهَا إِلَّا غنة من الخيشوم، ولأن الْمِيم من مخرج الْبَاء الْمُتَقَدّمَة فِي حُرُوف أبي جاد، ولأنها تبدل من النُّون إِذا لقِيت بَاء.
ثمَّ الْوَاو ثمَّ الْهَاء ثمَّ الْيَاء، وَهن آخر مَا بَقِي من الْمُنْفَرد. وَتَقَدَّمت الْوَاو لقرب صورتهَا من صُورَة الْقَاف الْمُوَافقَة للفاء فِي الصُّورَة، وَتَقَدَّمت الْهَاء الْيَاء؛ لتقدمها عَلَيْهَا فِي حُرُوف أبي جاد، وَصَارَت الْيَاء آخر الْحُرُوف للتعريف بصورتها إِذا وَقعت آخر الْكَلِمَة؛ إِذْ صورتهَا هُنَاكَ مُخَالفَة لصورتها إِذا وَقعت أَولا ووسطا، وَكَذَلِكَ أخروا اللَّام ألف ورسمت قبلهَا لاخْتِلَاف صورتهَا فِي الِانْفِرَاد والاختلاط.
ورسم أهل الْمغرب بعد الرَّاء وَالزَّاي الطَّاء والظاء؛ لكَون الطَّاء من مخرج الدَّال، وَكَون الظَّاء من مخرج الذَّال، وَتَقَدَّمت الطَّاء الظَّاء كَمَا تقدّمت الدَّال الذَّال. ثمَّ الْكَاف وَاللَّام وَالْمِيم وَالنُّون مُوَافقَة لرسمهن فِي كلمن، ولتقدمهن على سَائِر المزدوج فِي حُرُوف (أبي جاد)، ولإتيانهن بعد الطَّاء فِي ذَلِك أَيْضا. ثمَّ الصَّاد وَالضَّاد لِكَوْنِهِمَا مرسومين بعد كلمة كلمن فِي قَوْلهم: صعفض. وَتَقَدَّمت الصَّاد لتقدمها فِي ذَلِك، وَلكَون غير المنقوط من المزدوج مقدما على المنقوط؛ ليتميز بذلك الثَّانِي من الأول والمؤخر من الْمُقدم.
ثمَّ الْعين والغين؛ لكَون الْعين بعد الصَّاد فِي حُرُوف أبي جاد، وَشبه الْغَيْن بهَا فِي الصُّورَة. وَتَقَدَّمت الْعين؛ لتقدمها هُنَاكَ وَفِي الْمخْرج من الْحلق لأنها من وَسطه والغين من أدناه إلى الْفَم، ولخلوها أَيْضا من النقط. ثمَّ الْفَاء وَالْقَاف لكَون الْفَاء فِي حُرُوف أبي جاد بعد الْعين، وَشبه الْقَاف بهَا فِي الصُّورَة وَتَقَدَّمت الْفَاء لتقدمها هُنَاكَ. ثمَّ السِّين والشين؛ لِكَوْنِهِمَا آخر المزدوج، وَتَقَدَّمت السِّين الشين كَمَا تقدّمت الصَّاد الضَّاد. ثمَّ الْهَاء وَالْوَاو وَالْيَاء، وَهن آخر حُرُوف التهجي، وَتَقَدَّمت الْهَاء الْوَاو لتقدمها عَلَيْهَا فِي حُرُوف أبي جاد فِي قَوْلهم: هوز. وَتَقَدَّمت الْوَاو الْيَاء لتقدم هوز على حطي.
قَالَ أَبُو عَمْرو: فَهَذِهِ علل تَرْتِيب الْحُرُوف فِي الْكتاب على الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف وَالله ولي التَّوْفِيق).
ويقول أبو عمرو الداني في كتابه "المحكم في نقط المصاحف" بَاب ذكر الْبَيَان عَن إعجام الْحُرُوف ونقطها بِالسَّوَادِ ص ص 35-36:"وَرُوِيَ عَن الْخَلِيل بن أحْمَد أنه قَالَ: الألف لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْء من النقط؛ لأنها لَا تلابسها صُورَة اخرى، وَالْبَاء تحتهَا وَاحِدَة، وَالتَّاء فَوْقهَا اثْنَتَانِ، والثاء ثَلَاث، وَالْجِيم تحتهَا وَاحِدَة، وَالْخَاء فَوْقهَا وَاحِدَة، والذال فَوْقهَا وَاحِدَة، والشين فَوْقهَا ثَلَاث، وَالضَّاد فَوْقهَا وَاحِدَة. وَالْفَاء إِذا وصلت فَوْقهَا وَاحِدَة، وَإِذا انفصلت لم تنقط؛ لأنها لَا يلابسها شَيْء من الصُّور. والْقَاف إِذا وصلت فتحتها وَاحِدَة وَقد نقطها نَاس من فَوْقهَا اثْنَتَيْنِ، فَإِذا فصلت لم تنقط؛ لَأن صورتهَا أعظم من صُورَة الْوَاو، فاستغنوا بِعظم صورتهَا عَن النقط. وَالْكَاف لَا تنقط لأنها أعظم من الدَّال والذال، وَاللَّام لَا تنقط لأنها لَا يشبهها شَيْء من الْحُرُوف، وَالْمِيم لَا تنقط لأنها لَا تشبه شَيْئا من الْحُرُوف وقصتها قصَّة اللَّام. وَالنُّون إِذا وصلتها فَوْقهَا وَاحِدَة لأنها تَلْتَبِس بِالْبَاء وَالتَّاء والثاء، فَإِذا فصلت لم تنقط؛ استغنوا بِعظم صورتهَا لَأن صورتهَا أعظم من الرَّاء وَالزَّاي. وَالْوَاو لَا تنقط لأنها أصغر من الْقَاف فَلم تشبه بِشَيْء من الْحُرُوف، وَالْهَاء لَا تنقط لأنها لَا تشبه شَيْئا من الْحُرُوف وقصتها قصَّة الْوَاو. وَلَام ألف حرفان قرنا فَلَيْسَ وَاحِد مِنْهُمَا ينقط، وَالْيَاء إِذا وصلت نقطت تحتهَا اثْنَتَيْنِ؛ لِئَلَّا تَلْتَبِس بِمَا مضى فإذا فصلت لم تنقط".
وعلق الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف .. دراسة لغوية تاريخية" ص 557 مشيرا إلى أن هذه الرواية تتعلق بصور حروف الخط الكوفي.
وتابع أبو عمرو الداني في كتابه "المحكم في نقط المصاحف" قصة الإعجام فذكر رواية أخرى ص 36: "وَقَالَ غير الْخَلِيل: حُرُوف المعجم ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ حرفا مُخْتَلفَة مُنْفَرِدَة فِي التهجي، وَهِي سواكن، وَقد دخل فِيهَا لَام ألف موصولين لانفرادهما فِي الصُّورَة. وَهِي أَرْبَعَة اصناف: صنف مِنْهَا سِتَّة أحرف متباينة لَا تحْتَاج إلى الْفَصْل بَينهَا وَبَين غَيرهَا بِشَيْء من النقط أ ك ل م وهـ، وصنف مِنْهَا سَبْعَة أحرف متلابسة مخلاة ح د ر س ص ط ع، وصنف مِنْهَا أحد عشر حرفا متلابسة يفصل بَينهَا وَبَين مَا قبلهَا من المتلابسين بالنقط ب ت ث ج خَ ذ ز ش ض ظ غ، وصنف مِنْهَا أربعة أحرف تخلى إِذا لم يُوصل بهَا شَيْء وتنقط إِذا وصل بهَا غَيرهَا ف ق ن ى. فَجَمِيع مَا ينقط مِنْهَا لالتباسها بغَيْرهَا خَمْسَة عشر حرفا مِنْهَا ثَمَانِيَة أحرف كل حرف مِنْهَا بِنُقْطَة وَاحِدَة خَ ذ ز ض ظ غ ف ن، وَاثْنَانِ بنقطتين من فَوْقهمَا ت ق، وَاثْنَانِ بِثَلَاث نقط من فَوْقهمَا ث ش، وَاثْنَانِ بِوَاحِدَة من تحتهما ب ج، وحرف وَاحِد بنقطتين من تَحْتَهُ ى".
ويخالف العلامة حفني بك ناصف ما قيل عن الفاء والقاف في كتابه "تاريخ الأدب أو حياة اللغة" نقلا عن "تاريخ الخط العربي وآدابه" ص86 فيقول تعليقا على اختلاف المشارقة والمغاربة: (ومعنى هذا الخلاف أن الناقلين عن ناصر بن عاصم ويحيى بن يعمر غير متفقين على كيفية إعجام هذين الإمامين لهذين الحرفين؛ فذهب المشارقة إلى رأي، والمغاربة إلى رأي، وكلاهما لا وجه له؛ لأن القياس إهمال الأول وإعجام الآخر.
فإن قلت: إن سبب إعجام الحرفين الاشتباه بالعين والغين في وسط الكلمة، فجعلت العين والغين على القياس، وأعجمعت الفاء والقاف معا- قلت: هذا لا ينهض؛ لأنه على ذلك يبقى الاشتباه بين العين والفاء عند المشارقة، وبين الغين والقاف عند المغاربة .
والذي نعتقده في حكمة هذين الإمامين أنهما أعجما الفاء بنقطة من أسفل والقاف بنقطتين من أعلى؛ ليتم التمييز بين الأحرف الأربعة: العين مهملة والغين معجمة بواحدة من أعلى، والفاء بواحدة من أسفل والقاف بنقطتين من أعلى؛ فالمشارقة أخطأوا في الفاء وأصابوا في القاف، والمغاربة أخطأوا في الفاء وأصابوا في القاف. فالإمامان أصابا في الوضع، والمشارقة والمغاربة أخطأوا في السمع. وقد ركبت كل فرقة رأيها ومضت على غلوائها فلم تلو على أحد، فلتتفق الفرقتان على الصواب أو بالأقل على أحد الخطأين).
ويعرض الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف .. دراسة لغوية تاريخية" ص509 شبهات المستشرقين كالمستشرق جويدي وأتباعهم مثل جورجي زيدان وحسن عون- عن تاريخ حركات الضبط ونقاطه وعن كونها مستمدة من السريان، ويدحض تلك الأوهام ويبين زيفها من ص 511 حتى 515.
(3)
هذا عن نقط الإعجام وتطوره، فماذا عن نقط الإعراب الذي بدأه أبو الأسود؟
يقول عبد الفتاح إسماعيل شلبي نقلا عن مقدمة تحقيق كتاب "الطراز في شرح ضبط الخراز" ص48: "وربما كان يحيى بن يعمر يقوم بنقط المصاحف لمن أراد من الناس كما فعل لابن سيرين". وقد ذكر الدكتور الفرماوي نقلا عن الكتاب نفسه ص49: "لعاصم دوران في النقط: الأول: تعميم نقط أبي الأسود على جميع حروف الكلمة...".
يقول الخطاط محمد طاهر صاحب كتاب "تاريخ الخط العربي وآدابه" ص ص 77- 78: "واخترع أهل المدينة علامة للحرف المشدد على شكل قوس طرفاه إلى أعلى يوضع فوق الحرف المفتوح وتحت الحرف المكسور وعلى شمال الحرف المضموم، وكانوا يضعون نقطة الفتحة في داخل القوس ونقطة الكسرة تحته ونقطة الضمة على شماله. ثم استغنوا عن النقطة وقلبوا القوس مع الكسرة والضمة.
ثم زاد أتباع أبي الأسود علامات أخرى في الشكل، فوضعوا للسكون جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه سواء كان همزة أم غير همزة، ولألف الوصل جرة في أعلاه متصلة به إن كان قبله فتحة وفي أسفله إن كان قبله كسرة وفي وسطه إن قبلها ضمة".
ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي فطور - كما ورد ص ص55- 56- نقط أبي الأسود وما عممه نصر بن عاصم على كل حروف الكلمة فأبدل به هذه الحركات المختصرة من الحروف فكان على الوجه التالي: "جعل الفتحة ألفا صغيرة توضع مبطوحة أي مبسوطة وممدودة من اليمين إلى اليسار، وجعلت مبطوحة وصغيرة؛ ليكون الفرع دون الأصل؛ إذ لا بد للأصل من المزية على الفرع. وجعل الضمة واوا صغيرة توضع فوق الحرف المتحرك أو أمامه أو وسطه، وجعل الكسرة ياء صغيرة مردودة إلى خلف توضع تحت الحرف المتحرك بها، وتجعل صغيرة لئلا تشتبه بصورة الياء التي أخذت منها.
قال ابن نجاح: إلا أن الذين جاءوا بعد الخليل اختصروا رأس الياء والواو فحذفوهما، فبقيت مطة الكسرة والخفض تشبه سمة الفتحة الواقعة فوق الحرف وبقيت الضمة تشبه الراء".
ثم يقول الدكتور أحمد بن أحمد شرشال في تقديم تحقيقه كتاب "الطراز في شرح ضبط الخراز" ص57: أقول: "اتفق الجميع على حذف رأس الياء وبقيت تشبه الفتحة، أما الضمة فذهب أهل المشرق إلى الإبقاء عليها دون حذف، وذهب أهل المغرب بحذف رأسها وتبقى معوجة كالدال هكذا "د". ومما تابع الخليل فيه أبا الأسود علامة التنوين؛ فجعل أبو الأسود علامة التنوين نقطتين أي من علامة الحركة نفسها، فكذلك فعل الخليل فجعل علامة التنوين من علامة الحركة نفسها".
ثم يتابع ص58 قائلا: "من العلامات التي أضافها الخليل على ما وضعه أبو الأسود أن جعل علامة السكون الشديد وهو ما يصاحب الإدغام رأس شين بغير نقط ولا تعريق، يراد به الحرف الأول من كلمة "شديد" ... ومن العلامات التي أضافها الخليل بالوضع أن جعل للسكون الخفيف رأس خاء بلا نقط هكذا "حـ" فوق الحرف الساكن الذي يقرعه اللسان، وأراد بذلك الحرف الأول من كلمة "خفيف" ... ومما وضعه الخليل علامة الهمز، ولم تكن لها قبل ذلك صورة مميزة بل كانت ترسم لها صورة ألف وتكتب بما تؤول إليه عند التخفيف ... ومما وضعه الخليل علامة ألف الوصل وهي رأس صاد "صـ" توضع فوق ألف الوصل دائما مهما كانت حركة ما قبلها.
ومن العلامات التي ابتكرها الخليل علامة المد، وهي ميم صغيرة مع جزء من الدال ... ومما ينسب وضعه إليه علامتا الإشمام والروم.
والحاصل أن مجموع ما ابتكره الخليل من علامات سواء بالتجديد أو بالوضع عشر علامات، وهو ما كب له الثبوت والاستقرار، وهو الذي عليه الناس حتى الآن ما عدا تحسينات قام بها أصحابه".
وأشار إلى هذه التحسينات صاحب كتاب "تاريخ الخط العربي وآدابه" ص ص82-83 بقوله: "وقد تفنن أتباع الخليل بحذف جزء من رأس الياء المجعول علامة على الكسرة، وحذف رأس الميم من علامة المد، وأجازوا في الضمتين التتابع أو رد الثانية على الأولى، وأن توضع كسرة الحرف المشدد تحت الشدة فوق الحرف أو تبقى تحت الحرف مع وجود الشدة فوقه، وفي الهمزة المكسورة أن توضع مع كسرتها تحت الألف أو توع الهمزة من فوق والكسرة من تحت".
ويشير الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف .. دراسة لغوية تاريخية" ص ص 529- 530 إلى تلخيص تاريخ استخدام شكل الضبط الخليل ونقط الإعراب الأسودي قائلا: "ويتبين من العرض السابق لتاريخ تمثيل الحركات أن ابتداء أبي الأسود نقط المصاحف لا يعني أن النقط قد استعمل دائما منذ ذلك التاريخ، ولا أنه شمل كل حركات الكلمة. كذلك فإن اختراع الخليل لعلامات الحركات لا يعني أنها استعملت مباشرة في ضبط المصاحف؛ فقد مضت مدة طويلة حتى بدأ إدخالها في المصاحف، وقد لاحظنا أن أهل الأندلس والمغرب ظلوا يستعملون طريقة النقط المدور إلى عصر الداني - ت 444هـ - حيث شاع استعمال علامات الخليل في تمثيل الحركات بعد تلك الفترة".
وكرر كثيرا تجاور شكل الخليل الذي كان يلقب بنقط الشعر ونقط أبي الأسود.
ويورد الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه "رسم المصحف .. دراسة لغوية تاريخية" قول ابن درستويه الذي يظهر أن هناك من كان ينقط الحروف المهملة ص555:"والنقط على ضربين: نقط محض كنقط الباء والتاء والثاء والياء والنون، وضرب قد يجري مجرى النقط كرقم الحاء والراء والسين والصاد والطاء والعين".
ثم أورد ص565 قول ابن درستويه الذي يشرح قوله السابق: "اعلم أن من الكُتَّاب من ينقط على كل مشتبهين من الحروف لا يغفل واحدا منهما كنقطهم الراء والسين والصاد والطاء والعين من تحت لأن نظائرها ينقطن من عل، والجمهور على غير ذلك".
ثم مضى الدكتور يعرض من خلال الروايات التي تحمل أقوال العلماء صور ذلك الرقم غير المشهور.
(4)
ثم جاء تطوير رسم الحروف.
كيف؟
يقول كتاب "تاريخ الخط العربي وآدابه" ص ص 68-71: "ثم لما جاء عصر بني أمية اشتغل كثير من الناس بالعربية، وفي عهدهم أخذ الخط يسمو ويرتقي ويتحسن أكثر مما قبل، وفي أواخر أيامهم اشتهر بحسن الخط رجل يقال له: قطبة المحرر، وهو الذي بدأ في تحويل الخط العربي من الشكل الكوفي إلى ما يقارب الشكل الذي هو عليه الآن.
ثم جاء أبو علي محمد بن مقلة المتوفى 328هـ، فأتم ما بدأ به قطبة المحرر من تحويل الخط عن شكله الكوفي إلى الشكل الذي هو عليه الآن، وهو أول من هندس الحروف وقدر مقاييسها وأبعادها بالنقط وضبطها ضبطا محكما. ثم جاء أبو الحسن علي بن هلال البغدادي المعروف بابن البواب المتوفى 413هـ فأكمل قواعد الخط وهندسته واخترع عدة أقلام.
وسوم: العدد 731