مخازي التطبيع

أيسر ما نلاحظه في سيرة نائب رئيس الوزراء السوداني ووزير الاستثمار مبارك الفاضل ولعه بالوشاية والنميمة اللتان ملكتاه واستأثرتا به، ولن نتكلف مشقةً أو عنتاً لاثبات هذا الزعم، فقد كان صاحب الدعوة للتطبيع مع عدونا الأزلي مصدر رهق و عناء لارومته التي ينحدر منها، فقد نظر السود في لهفة واكبار لمصنع دواء فخيم شيده أحد الأثرياء وقد لاح في أذهانهم أن البلسم الشافي لن يتجافاهم أو يتمنع عليهم، وأن هذا المصنع الأكبر على نطاق أفريقيا سوف يكون بمثابة حصن يذب عنهم موتاً غير مدفوع، وحتفاً نازلاً غير مردود، ولكن "السيد" مبارك المهدي مقت هذا الانجاز، وضاق بهذا الحدث، فأقدم على فرية نفخ فيها من نظمه ألقاً صافياً، وبثّ فيها من خبثه شر لا تطفأ نائرته لادارة كانت تلهث لاغبة وراء فرقعة تطغى على فعلة شنعاء، وسوأة فاضحة، اقترفها رئيسهم بيل كيلنتون، تلك الفضيحة التي طالته مع متدربة البيت الأبيض التي كانت ترفل في عقدها الثاني مونيكا لوينسكي،  لقد انساق "بيل" وراء نزوة ذاق من لذاتها ما لا يرتجي، ونال من عقابيلها ما لا يحتسب، وجنى في نهاية المطاف هيعةً منكرة عرفت في الأوساط السياسية بـــــ"مونيكا غيت"، 

استبهمت وجوه الأمر، وخفيت أعلامه على من يقطنون البيت الأبيض في تلك الفترة، فكيف لهم أن يزودوا عن فارسهم المغوار الذي ألمّت به تلك المحنة؟، وما هو مصيره بعد أنّ تنجاب عنه هذه المحنة الجنسية؟ وماذا هم فاعلون حتى يخمدوا صوتها، ويخففوا من غلوائها؟.

وجدت إدارة الرئيس ضالتها في سياسي موتور عرف ببلادة الحس، وفتور الشعور، آثرته حكومة الإنقاذ المستبدة بمودتها حين من الدهر ثم لفظته بعد أن تبدى لها أنه رحى تطحن قروناً، ولم تأبه لأحقاده وسخائمه التي لم تجعل من صاحبها نبراساً يحتذى، ولا أنموذجا يتوخى في كظم الغيظ، والصبر على الأذى، ومجمل القول أن "بيل" وعصبته احتفوا بمن أظهر لهم أنه يبلو كنه هذا المصنع وما يدور فيه، بلاء الملم به، والمداخل له، والقريب منه، وأن هناك عدة جهات تظاهرت وتناصرت على تشييده حتى تنثر الرعب، وتنشر الإرهاب، وأسرف مبارك الفاضل في الإغراق في الدعوى، والمبالغة في التصوير، حتى ينتهي بالانقاذ إلي لوعة لا تنتهي، وحسرات لا تنقضي، ولكن الشعب الذي لا يداني الإنقاذ أو يحابيها هو من تجشم أهوال هذه الخيانة، وتكبد فداحة هذا الاختلاق، وتجرع مرارة هذا الافتئات، تحمل السود في صبر وأناة صواريخ العار والشنار التي أمطرها بهم كيلنتون حتى يربأ بنفسه عن الدنايا، ويتصّون من العيوب.

وآلان بعد عقدين من تلك الحادثة يعود "السيد" مبارك الفاضل إلى الواجهة، ويبدو أنه لم يتطهر من آصار تلك الوصمة التي لا يمحوها كرور الأيام، وتعاقب الحدثان، وأنه لم يعمد على تذكيه نفسه التي تعاني من أوضار الانحراف السياسي، ولم يسعى لتنقية قلبه، وتطهير ضميره، من تمجيد سادته الصهاينة والأمريكان والثناء عليهم، فهو من قبيلة الساسة الذين يرون أن السياسي الطامح لن تفتح له الأبواب ويحظى بالقبول والمباركة ويتعاقب على الرتب والمناصب حتى يحوز على أعلاها وأسناها إذا لم تتوثق عرى صلاته بصلف الولايات المتحدة وجبروت ربيبتها إسرائيل، وأن يصادف التطبيع من فكره الناضب استعداداً وقبولا، هذه هي آفة  أشباه الساسة ومن هم على شاكلتهم من أهل السذاجة والخنوع، جحد كل عارفة، وانكار كل فضل لنضال هذه الأمة، فهذه الناجمة ترى أن أقرب إلى الصواب، وأدنى إلى الراحة، أن يندمج صاحب الأرض مع الدخيل الباغي في كينونة سياسية، ثم يبزه ويفوقه تعداداً، وهذا تصوراً نجد فيه ما يثير الحنق والاستياء، وما يدفعنا إلى الضحك والاغراق فيه، فهذه الطغمة البائسة تجهل أن أفئدة أصحاب الحق وأفئدتنا ليست مثلهم محتفظة بالوداد لاولئك الأوغاد، فالعهد الذي بيننا وبين سادتهم هو الوحشة والقطيعة، وألا يجمعنا ظل، وأن نظل نندب الشيخ المجاهد الأصيل، ونبكي دوماً على الشاة والناقة والفصيل، إن الشيء الذي ترجحه الأمة وينكره الساسة أشد الانكار، هو أننا لا نصور الوقائع على غير صورتها، أو نصيغ الأحداث على غير هيئتها، فإسرائيل كائن بغيض قذر سامنا الخسف والهوان، ولن نتهالك عليه، ونفني فيه كرامتنا، بل نسعى لاستئصال شأفته، وقد كظمنا هذه الغريزة طويلاً، ولن نقدر على كبتها أكثر من ذلك، وحرياً بنا قبل أن نمضي في نضالنا الضروس مع عدونا الغاشم، أن نخرس أبواقه في ديارنا، من  بهاليل سادة، وكرام قادة، وكماه زادة، ولن يكون ذلك بالنطع والسيف، ولكن أن نبين في جلاء و وضوح لا غموض فيه ولا عوج أن فلاناً ثوى في المذلة، واطمئن إلى الغضاضة، ودعا لمخازي تصدّع الكبد، وتدمي الفؤاد، ولن نلجأ إلى إخفاء آرائنا ايثاراً للعافية، وضناً بالنفس، فالأمن أجدر أن يهرب من قلب النذل الجبان، وأن يلازمة عوضاً عنه الأرق والفرق والخذلان.

وسوم: العدد 735