التصوف وعلاقته بالتشيع.. الافتراق والالتقاء
ليس بالجديد ولا الغريب أن نثبت ما للتصوف من علائق ووشائج قديمة بالتشيع؛ إذ ليس مِن قبيل المصادفات أن تَنشأ الحركةُ الصوفية المتطوِّرة في البصرة، وهي بيئةٌ شِبه فارسية، والواقع أنَّ الدارسَ لا بدَّ أن يتوقَّف عند هذا العدد الهائِل مِن المتصوفة الذين تعود أصولهم إلى إيران، والذين ترِد ترجماتهم في كتُب التصوُّفِ العربية، وأنْ يستوقفَه أيضًا أنَّ هؤلاء جميعًا كانوا مِن أصحاب جوامع الكَلِم، وأنَّ بداية التعمُّق الصوفي والإغراق في الرَّمز، أو ما عُرِف باسمِ الشطح على يدِ أبي يَزيد البسطامي، وهو مِن أصلٍ فارسي [التصوُّف عند الفرس، إبراهيم الدسوقي شتا].
غير أنه يجب أن نفرق بين التصوف في منابعه الأولى والتصوف الذي انحرف فاتصل بالتشيع وغيره؛ فهذا العلمُ ــ علم التصوف ــ من العلومِ الشرعيَّة الحادثة في المِلَّة، وأصلُه أنَّ طريقَ هؤلاء القوم لَم تَزَل عند سلفِ الأمَّة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، طريقة الحقِّ والهداية، وأصلُها العكوف على العبادةِ والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زُخرف الدنيا وزينتها، والزُّهد فيما يُقبلُ عليه الجمهور من لذَّةٍ ومال وجاهٍ، والانفراد عن الخَلْقِ في الخَلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسلف، فلمَّا فشَا الإقبالُ على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجَنَح الناسُ إلى مخالطة الدنيا، اخْتُصَّ المُقبلون على العبادة باسم الصوفيَّة والمتصوِّفة [المقدمة، عبدالرحمن بن خلدون].
لهذا يجب ألا نسحب تلك العلاقة بين الصوفيَّة والشيعة على كل تاريخ التصوف الذي مر بمرحلتين في النشأة: أولاها: تلك المرحلة التي استغرقت القرنين الأولين وغلب فيها الزهد والخوف الشديد من الله تعالى، أما المرحلة الثانية: فتبدأ مع القرنين الثالث والرابع الهجريين حين تكلم المتصوفة عن السلوك والمقامات والأحوال والفناء والحلول والاتحاد، وما عُرفَ بـ "علم الباطن/علم الحقيقة"، أو ما يسمى بمرحلة "الشطح"، ولقد حاول الغزالي والقشيري استرداد التصوف من تلك الحمأة بترسيخ وتثبيت دعائم التصوف السني في القرن الخامس الهجري، ولكن قوَّض ما فعلاه ظهور تيار جديد "تيار التصوف الفلسفي" والذي أدخل فيه صوفية القرنين الخامس والسادس الميلاديين مصطلحات فلسفية استمدوها من مصادر عديدة متأثرة ومحملة بالمذاهب والفلسفات الأجنبية.
عند هذه النقطة من التاريخ قامت الصلة بين التصوف والتشيع وتوطدت، الأمر الذي لم يَفُت ابن خلدون أن يرصده ويتحدث عنه، فقال:
)ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملؤوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب "المقامات" له وغيره وتبعهم ابن عربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم، وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبًا لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم، وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه: رأس العارفين، يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد من مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان، وقد اشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب "الإشارات" في فصول التصوف منه، وهو بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الأئمة عندهم)[ المقدمة، عبدالرحمن بن خلدون].
ثم وضع أبو سعيد محمد أحمد الميهي الصوفي الإيراني 430هـ أول هيكل تنظيمي للطرق الصوفية بجعله متسلسلا عن طريق الوراثة, ويمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية للطرق الصوفية وانتشارها حيث انتقلت من إيران إلى المشرق الإسلامي, فظهرت الطريقة القادرية المنسوبة لعبدالقادر الجيلاني 561هـ .كما ظهرت الطريقة الرفاعية المنسوبة لأبي العباس الرفاعي 540هـ , وفي القرن السابع الهجري دخل التصوف الأندلس وأصبح ابن عربي أحد رؤوس الصوفية 638هـ.
إن الخطأ الجلي في تسويق فكر الشيعة والصوفية على أنهما فكرين متطابقين تمام الانطباق، وفي هذا افتئات على المنهج العلمي، ينافي الحاصل في الواقع الذي يؤكد أن بينهما مناطق التقاء، ومناطق افتراق، وسأذكر بعض ما يختلفون فيه، وعلى الأقل الغلاة من الجانبين: أن الصوفية يؤمنون بكتاب الله تعالى بكامله، أما الغلاة من الشيعة فيزعمون تحريفه، ولقد أثبتُ في كتابي: "سياحة الوجدان في رحاب القرآن" أن معظم القوم ينكرون ذلك التحريف وهذا من باب الأمانة العلمية، ولا ينكر أحد مدى محبة الصوفية للرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته، فيما يبحر الشيعة بقارب الإيذاء في بحار الشتم واللعن لآله الكرام رضي الله عنهم، ويوقر الصوفية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويترضوَن عليهم، ويقولون بأن أفضل الأمة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليًا رضوان الله عليهم وعلى الصحابة أجمعين، أما الشيعة فيبغضون الصحابة جميعًا بل يُكفِّرونهم ما عدا أربعة، وأخيرًا يؤمن الصوفية بالسنة المطهرة وكتبها، بينما الشيعة ينكرونها.
قد يظن البعض أن قوة العلاقة بين التشيع والتصوف لا تسمح بوجود خروقات ونزاع عقدي بينهما، وهذا ظن خاطئ؛ فقد تسرب الشيعة إلى الطرق الصوفية تحت راية حب آل البيت ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان التصوف هو البوابة الملكية لعبورهم إلى ضفة أهل السنة والجماعة والتشغيب على معتقداتهم، وهو ما فعله التصوف في المقابل حين اخترق التشيع في عقر داره عن طريق "العرفان" الذي يعتبر أحد المراتب العليا من السلوك ـ بزعم الصوفية ـ وليس كل صوفي بعارف.
يرفض بعض علماء الشيعة "العرفانية" باعتبارها "فلسفة" متشكلة من كلمتين: "فل" يعني: "محب"، و"سفة" يعني: "عرفان"، لهذا الفلسفة تعنی "محب العرفان"، و العرفان یعنی: الشيء الذي بواسطته تعرف الله و تعرف کنه وذات رب العالمین. وهم يحذرون من العرفاء وانحرافاتهم، كما أن الصوفية في وجه من الوجوه أكبر أعداء الشيعة، عن البزنطي عن الرضا، قال: قال رجل من أصحابنا للصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: قد ظهر في هذا الزمان قومٌ يُقال لهم: الصوفية، فما تقول فيهم؟ قال: إنهم أعداؤنا! فمن مال إليهم فهو منهم ويُحشر معهم! وسيكون أقوام يدّعون حبنا ويميلون إليهم ويتشبّهون بهم ويلقّبون أنفسهم بلقبهم ويأوّلون أقوالهم! ألا فمن مال إليهم فليس منا وأنا منه براء! ومن أنكرهم وردّ عليهم كان كمن جاهد الكافر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله[مستدرك الوسائل ج12 ص322 عن حديقة الشيعة للمولى الأردبيلي].
كما ورد عن السلطان الرضا، أنه قال: "من ذُكر عنده الصوفية، ولم ينكرهم بلسانه وقلبه فليس منا! ومن أنكرهم كان كمن جاهد الكفار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله[مستدرك الوسائل ج12 ص323].
لقد كان العرفان ماثلًا في باطن التصوف على مدى التاريخ، لكن بدأ نبذ الصوفية من أواخر العصر الصفوي، على الرغم من أنّ الملوك الصفويين أنفسهم كانوا من المتصوفة، وقد أشهر الشاه إسماعيل الصفوي ـ مؤسس السلالة الصفوية ـ السيف باسم التصوف، لكنّ بعض ممارساتهم، وخاصة ما صدر من شيوخ قبائل القزلباش، أدّى إلى نبذ التصوف، وقد قارن ذلك شيوع التفسير الفقهي للدين وحالة من السطحية تخالف بطبيعتها التصوّف؛ فساهم ذلك كثيرًا في تشويه صورة التصوف نفسه، وأطلق بعض أهل السلوك في هذه الظروف اسم "العرفان" على "التصوف" وصاروا يدافعون عنه، لكي لا يصنّفوا على المتصوّفة المنبوذين.
لو عدنا للتشيع الحقيقي وتناولنا بحث الولاية، لرأينا أنّ التشيع هو الولاية بمعناها العرفاني؛ إذ يعتقد الشيعة الحقيقيون باستمرار الحقيقة المعنوية للنبوة.... ولو اعتبرنا الإذعان بالولاية حقيقة التشيع، أمكننا إذًا اعتبار التشيع مرادفاً للتصوّف؛ إذ انفرد المتصوفة في الاعتقاد بعدم انقطاع حالات النبي الروحية وعدم موت حقيقة الإسلام الروحية بوفاة الرسول واستمرارها في الإمام علي والأئمة من ولده، والأوصياء ـ أي من نالوا مراتب الكمال ـ من بعدهم، ولم يطرح الفقهاء ولا المتكلمون بحث الولاية بهذا الشكل، بل انفرد العرفاء به[دكتور شهرام بازوكي، "الدين والتصوف والعرفان، العلاقة والارتباط"، نصوص معاصرة].
سخط الشيعة على المتصوفة لقولهم بالولاية وبالقطب الغوث مما يعطل علم الإمامة عندهم، فضلًا عن أن تجمع المريدين حول مشايخ الصوفية حرم الشيعة من رصيد بشري هائل كان من الممكن استمالته إلى التشيع وتجميعه حول الإمام الشيعي[دكتور محمد بركات البيلي، الزهاد والمتصوفة في بلاد المغرب والأندلس حتى القرن الخامس الهجري].
ذلك أن الإمام الشيعي فقط وليس الصوفي هو إمام الوقت في كل وقت، وفي أي مكان من العالم الإسلامي، خاصةً بعد نجاح الثورة الإيرانية على يد إمامهم الخميني في إيران، ومحاولة تصديرها إلى المناطق السنية من العالم الإسلامي واستثمار نجاحها سياسيًا في نشر أفكار المذهب الشيعي.
من أكثر أوجه الاتفاق والالتقاء بين الشيعة والصوفية ما يشيعونه من عقائد خاصة بالغلاة منهم، والتي لا يقرهم عليها بقية المذاهب الإسلامية، من مثل: ما يشيعه الصوفية من أن الله خلق نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم من نور اتكاءً على حديث باطل سندًا ومتنًا، ولا يتخلف الشيعة عن ركب الادعاء هذا حين يضفون الخَلق النوراني على أئمتهم.
ولقد اتفق الطرفان الشيعة والمتصوفة على الزعم بأن للدين باطنًا وظاهرًا، في محاولة للاستعلاء بالعلم على العلماء من أهل الظاهر، باعتبارهم هم أهل الباطن والباطن هو المراد على الحقيقة, ولا يعلمه إلا الأئمة والأولياء بينما علم الظاهر هو المتبادر من النصوص ويفهمه العامة وغيرهم! وحجتهم في هذا، أن منهج النقل معارض للمنهج الذوقي الذي يأتي منه العلم مباشرة إلى القلب دون حاجة إلى رواية، وفي ذلك ما يقوله الصوفية للفقهاء: (أخذتم علومكم من ميت عن ميت، وأخذنا علومنا من الحي الذي لا يموت)، وهو ما يعبر عنه ابن الفارض بقوله في التائية الكبرى:
فثمَّ وراءَ النقلِ علمٌ يدقُّ عنْ مَداركِ غاياتِ العُقُولِ السّليمَة
أما المشترك الأكبر بينهما فيأتي في تقديسهم للأئمة والأولياء؛ فرفع الشيعة مرتبة أئمتهم فوق مرتبة الأنبياء عليهم السلام أو مثلها، فادعوا لأئمتهم العصمة من الزلل، فلا تجوز عليهم الكبائر ولا الصغائر، لا عمدًا ولا سهوًا، من طفولتهم إلى موتهم، كما يعتقدون فيهم الإحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين [انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (21/1). شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (12/7). عقائد الإمامية ص 51. الحكومة الإسلامية للخميني ص 91].
وانتهج صنيعهم الصوفية فأنزلوا صفات من صفات الخالق عز وجل على أوليائهم وأقطابهم وأبدالهم من التصرف في الكون، وتدبير شؤونه ونحو هذا.
يلي تقديس الأولياء والأئمة، تقديس الموتى والقبور، والاستغاثة بهم؛ فتقديس القبور وزيارة المشاهد ركن من أركان المعتقد الشيعي، وهم أول من بنى المشاهد على القبور، وجعلوه شعارهم [رسائل إخوان الصفا: 4/119].
وأدركهم الصوفية فجعلوا أهم شعائرهم زيارة القبور, وبناء الأضرحة, والطواف بها, والتبرك بأحجارها والاستغاثة بأصحابها كما أسلفنا.
المشترك الأكبر والأقوي والأظهر هو اجتماع الصوفية والشيعة معًا ليس فقط في تقديس أوليائهم وأئمتهم، ولكن في إعداد الحدث والتاريخ وجعله في خدمتهم ولصالحهم بحسب رؤيتهم وإن نحروا المنهجية التاريخية والعلمية أيضًا على قربان التقرب إليهم، ولو زيفوا الوقائع.
إن من يطالع القصائد الحارة فى مراثي النبي صلى الله عليه وسلم من كافة المسلمين على اختلاف عصورهم ومشاربهم، سيتكشف له أن قصائد الشيعة غالبًا ما يكون مفتتحها مدح أو رثاء الرسول بينما غايتها الكامنة هى مديح أو رثاء آل البيت والمعصومين من أئمتهم، يشهد بهذا الدكتور محمود على مكي حيث يقول : (على أن ما نلاحظه على شعر السيد الحميري، وغيره من شعراء الشيعة، أن تناولهم لجوانب من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مقصودًا لذاته، بل هو موظَّف لخدمة عقائدهم فى آل البيت، فهو مجرد منطلق لهم لكي يبسطوا قضيتهم وحججهم لأحقية أئمة آل البيت فى الخلافة) [المدائح النبوية، ص73].
ذلك في الوقت الذي يتجرد فيه أهل السنة من هذا النَّزق؛ فمبتدأ رثائهم ومدحهم وخاتمته هو خالص محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن بدت قصائدهم ـ للوهلة الأولى ـ أقل لوعة وحرقة واشتياقًا لأنها تقوم على العقل أو ما يسمى الرشدنة، بينما يفتقد الصوفية هذا الرشد فتبدو قصائدهم أكثر حرارة وموجدة لأن محبتهم دعائمها العاطفة المحمومة غير الرشيدة التي تستمد سخونتها من الأحاديث الضعيفة والموضوعات والقصص الموضوعة المدسوسة على سيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
ومع هذا فلا يستطيع منصف إلا أن يشهد بأن المتصوفة خالفوا الشيعة من حيث كون مدحهم للرسول صلى الله عليه وسلم ومراثيهم فيه إنما غايته حب الرسول ذاته دون أن يخلطوا به حبهم لمشايخهم وأقطابهم وأبدالهم، وهي نظرة تتفق مع أهل السنة حينًا ثم لا تلبث أن تفارقها حين تتبنى مفهوم أزلية الوجود المحمدي وأن هذا الوجود أول شيء خلقه الله وأن كل موجود يستمد منه، فهو مبدأ الوجود والحياة وأن نوره تجسم في صورة آدم وصور الأنبياء من بعده. وهو يتجسم بعد الرسول في صور الأولياء من أقطاب الصوفية الذين يصلون منه إلى مرحلة الذوبان بما يسمى بالفناء الكلي فى الذات العلية، لتجد أنهم ما كادوا يلامسون أهل السنة حتى يميلوا كل الميل تجاه الشيعة فيتجاوز حبهم لمشايخهم وأقطابهم حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا عندهم أصل الأصول للقربى والوصول فيسبحوا بعيدًا عن مرفأ النهج النبوي القويم وإن ظنوا المثول.
وكان وراء هذه البيئة الصوفية والبيئة الشيعية السالفة بيئة أهل السنة، لكنها لم تبنِ هذا الإجلال على أفكار المتصوفة والشيعة وما ذهبا إليه من قِدَّم النور المحمدي أو من قِدَّم الوجود المحمدي ولم تبنه أيضًا على أنه صورة الذات الإلهية وكل وجود مستعارٌ منه، وإنما بنته على قدسيته وأنه مَثَلٌ أعلى في الحياتين الدينية والخُلُقية، ومن أجل ذلك تعلقت بلألائه قلوب أهل السنة، ولهجوا بمديحه والثناء عليه بقصائد رنانة أكثروا فيها من الاستغاثة به. وكانوا إذا حجُّوا أو أدَّوا فريضة الحج زاروا قبره الطاهر في ذهابهم أو في إيابهم خاشعين متبتلين[دكتور شوقي ضيف، فصول في الشعر ونقده].
كما يتأكد اتفاق المشرب والمسلك والمنهج بين الشيعة والصوفية في حبهم وتوقيرهم ــ إلى حد المغالاة ــ الإمام علي بن أبي طالب وأولاده، ومشايعتهم له حتى زيفوا الحقائق التاريخية دون أن تجفل لهم عين؛ فقد احتل ابن عم النبي وصهره في عقائد أهل السنة والجماعة المكان الأول في الحياة الروحية للمسلمين ــ رفعه أهل السنة بلا استثناء، رفعوه "روحيًا" على مقام كل من أبي بكر وعمر ولكن وضعوه فقهيًا في النسق، رابع خلفاء محمد صلى الله عليه وسلم ــ أما الصوفية وهم في مجموعهم أهل سنة وجماعة .... فكان الإمام علي رأس سندهم، وقمة سلاسلهم وإليه نهاية الطريق ووضعوا على لسانه آثارًا ونسبوا إليه العلم اللدني ... وإلى علي يتشوف التصوف السني.
أما الشيعة فقد رأوا في علي ابن أبي طالب "الإمام الأول" بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبتوا له الوصاية، وقداسة خاصة تأرجحت بين كونه معصومًا، ووصيًا، ووليًا، وإمامًا، ومهديًا، ونبيًا، وإلهًا، كما صوروه وبيده كرامات لا تقل عن المعجزات، وعددوها، وتكلموا عن بدء وجوده على الأرض حتى صار "محمد" هو النور المحمدي الأول، و "علي" ظلاله أو انعكاسه.
هذا عن "علي" في حياته بحسب تصور الشيعة بعامة، أما عن مدفنه بالنجف قريبًا من كربلاء فعند الشيعة الإمامية المعتدلة أن سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قد أنبأ أن هذا المكان سيكون قبر "علي" وعليه مشهد عظيم يفوز به سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ويشفعون لغيرهم! فكان القبر هو "وادي السلام" وهو جزء من جنة الله الباقية وإليه تحشد أرواح الشيعة، ويلتمسون من "علي" الشفاعة، ومن "قبره" الشفاء في الدنيا، فينادونه: (يا صاحب العصا والميسم.. يا قسيم الجنة والنار.. يا وارث النبيين".
ومن العجيب أن الشيعة قبل أن يخطوا باب المشهد العلوي بأقدامهم يتجهون نحو يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، يصيحون: (أتأذن يا رسول الله أن أدخل على "علي" ابن عمك، وزوج ابنتك)، ولكنهم حين يتخطون الباب الخارجي لمشهد علي ويقفون أمام قبره يرددون: (السلام على الذات العليا، السلام على ذات الله القائمة بالسنن، السلام على المن والسلوى) [انظر "شجرة محمد" للدكتور علي سامي النشار، ومحمد شاكر].
وزيارة الشيعة لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد بجلاء صحة ما ذهبتُ إليه أن رسول الله صلى عليه وسلم بالنسبة للشيعة وسيلة ليس إلا، وإنما الغاية فهو ابن عمه "علي" رضي الله عنه، وهو ما يثبت أن هذا نهج مركوز فيهم تبنوه عقيدة وشريعة، وأظهرت قصائدهم مكنون قلوبهم حين يفتتحونها بمدح أو رثاء الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الوسيلة، بينما غايتهم ومقصدهم هي مديح أو رثاء آل البيت والمعصومين من أئمتهم وعلى رأسهم علي بن أبي طالب الذي حاولوا تلفيق وقائع التاريخ ليكون له مع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أوقاته ورحلاته صحبة ومشاركة وإن استلزم هذا نفي الأشخاص الذين شهدوا تلك الوقائع، ذلك أن العقل الشيعي يسمح بتجاوز ذلك كله وهضمه بمنتهى الأريحية.
وسوم: العدد 736