بداية إصلاح منظومتنا التربوية يبدأ بالضرورة من إصلاح المكون البشري أولاً

من المعلوم أن كلمة منظومة في اللسان العربي تطلق على مجموعة أشياء  سواء كانت مادية أو معنوية تنتظم في  شكل كل متكامل ، ومن ذلك قولهم عقد منظوم من لؤلؤ أو مرجان، وكلام منظوم سواء كان شعرا فنيا أو شعرا تعليميا ، ومنظومة فكرية، وهي كل أطروحة تتضمن مفاهيم حول قضية فكرية  ما ، ومنظومة اقتصادية، وهي نمط اقتصادي يجمع بين بلدان يتكامل اقتصادها ....إلى غير ذلك من المنظومات. ومن ضمن تلك المنظومات المنظومة التربوية وهي مجموعة متفاعل من العناصر أو المكونات والتي تكوّن كلا متكاملا  تتطور فيه تلك العناصر أو المكونات  وترتبط  فيما بينها بعلاقات ،ويكون غرضها تحقيق  أو بلوغ هدف معين أو مجموعة أهداف . ومعلوم أن النظام التربوي يتفاعل مع غيره من الأنظمة  السوسيوثقافية والسياسية والاقتصادية ... إلخ  ويرتبط بها جدليا أي عبر علاقة التأثير والتأثر . ومن الخطأ أن يعزل موضوع إصلاح المنظومة التربوية عن موضوع إصلاح باقي المنظومات المتفاعلة معها ، ذلك أن اختلال المنظومة التربوية قد يكون سببه اختلال تلك المنظومات التي يتفاعل معها ، ومن ثم لا بد من البحث عن سبب الاختلال في تلك المنظومات أيضا.

وتختلف الآراء في أسباب اختلال منظومتنا التربوية حسب اختلاف زوايا النظر إليها ، وحسب اختلاف توجهات الأطراف والجهات التي تخوض في موضوع اختلالها . وفي الغالب يتحول السجال حول اختلال المنظومة التربوية إلى عملية تبادل التهم بخصوص مسؤولية هذا الاختلال بين أطراف المنظومة التربوية فيما بينهم ،وحتى بين أطراف منظومات أخرى، ذلك أن أطراف المنظومة السياسية على سبيل المثال ينحون باللائمة على أطراف المنظومة التربوية ويحملونهم مسؤولية اختلالها ، والواقع أن اختلال المنظومة التربوية لا يخلو من أن تكون له علاقة باختلال غيره من المنظومات الأخرى الفاعلة فيه بشكل أو بآخر .

ولما كان العنصر البشري هو أهم عنصر في كل المنظومات التي تهدف كلها إلى تحقيق هدف واحد في نهاية المطاف هو خدمة هذا العنصر البشري ، فلا بد أن يعالج اختلال منظومتنا التربوية بداية من إصلاح العنصر البشري  ، فهو بمثابة القلب النابض للمنظومة إذا صلح صلحت سائر مكوناتها ، وإذا فسد فسدت سائر مكوناتها وعناصرها  ومن ثم كانت مختلة . ويمكن تقسيم العنصر البشري المنضوي تحت المنظومة التربوية إلى قسمين : قسم فاعل، وهو كل من تسند إليهم مهمة تدبير المنظومة التربوية بشكل أو بآخر ، وقسم منفعل وهم الناشئة المتعلمة التي تستقبلها المؤسسات التربوية لتستكمل تربيتها عبر برامج تعليمية متدرجة حسب أعمارها . والقسم الفاعل في المنظومة التربوية يجمع كل الموظفين التابعين للوزارة الوصية على الشأن التربوي من قمة هرمها إلى قاعدته . ولقد درجت بعض عمليات إصلاح منظومتنا التربوية على تغيير قمة  هرم  الوزارة حيث تسند مهمة تسيير هذه الوزارة كل مرة إلى وزير جديد يكون إما تكنوقراطيا أو محزبا ، وقد جرب المغرب لحد الساعة من هؤلاء ومن هؤلاء وكانت النتيجة واحدة وهي استمرار اختلال المنظومة التربوية، الشيء الذي يعني أن تغيير الوزراء قد تأكد عدم جدواه ، وأنه يتعين على أصحاب المنظومة السياسية مراجعة اختلال منظومتهم التي تراهن على إصلاح المنظومة التربوية من خلال عملية استبدال وزير بآخر في فترات زمنية قصيرة جدا . ولا يمكن  إصلاح هرم فيه خلل من خلال التركيز على قمته دون قاعدته ، ذلك أن العناصر الفاعلة في المنظومة التربوية تبدأ بوزير وتنتهي عند عون كنس ، وبين هذا وذلك كل العناصر الأخرى التي تتبادل الأدوار المختلفة والمتكاملة لتحريك عجلة  هذه المنظومة . وإذا ما تعطلت هذه العجلة فالكل يكون مسؤولا عن ذلك الوزير بقراراته ، وعون الكنس بمكنسته وما بينهما من أطراف وعناصر كل بمهمته .  فقد يكون القرار في قمة الهرم صائبا ولكن تنزيله لا يكون كذلك في قاعدته ، فيصير بلا جدوى . وقد يقوم صاحب المكنسة بالدور المنوط به ، فيجد عرقلة من صاحب القرار ، وتكون المنظومة التربوية هي المتضررة . ومعلوم أن الأطراف الفاعلة في المنظومة التربوية نوعان : نوع  يحكمه ضمير مهني حي وآخر لا ضمير له، الشيء الذي يؤثر على حركة عجلة المنظومة .وفي كل صنف من أصناف موظفي الوزارة الوصية على الشأن التربوي الصالح والطالح في المركز وفي الجهة ، وفي الإقليم وفيما دون ذلك . وقد تتضافر جهود العناصر الطالحة لعرقلة جهود العناصر الصالحة، الشيء الذي يوقف عجلة المنظومة التربوية أو يجعل وتيرة سيرها بطيئة جدا . وقد يكون الوزير صالحا ولكن تكون ضمن بطانته المركزية عناصر طالحة لا تساير صلاحه بل تكرس فسادها. وقد يكون الوزير عكس ذلك طالحا فيعرقل صلاح بطانته المركزية الصالحة ، ويجعل جهودها دون جدوى . وما يقال عن الوزير وبطانته المركزية يقال عمن يمثله في الجهات والأقاليم وبطاناتهم . وقد يتسم هؤلاء جميعهم بالصلاح ،ولكن لا جدوى من صلاحهم إذا كان الذين يحتكون بالعناصر المتفاعلة الذين  هم المتعلمون يفسدون ولا يصلحون . وقد يوجد داخل المؤسسة التربوية الواحدة من يعرقل سير عجلة المنظومة التربوية ، ويواجه كل من يحاول تحريكها بصدق وإخلاص وتفان  في الجهد . ومن المؤسف يتهم المصلحون على اختلاف مهامهم ومسؤولياتهم وينعتون بنعوت ظالمة من قبل لوبيات المفسدين الذين يتكتلون في تنظيمات نقابية أو جمعوية للتغطية على فسادهم المخل بسير المنظومة التربوية . ولقد أصبح في زماننا من يقوم بواجبه على الوجه المطلوب متهما ، بينما يمتدح المتهاون وتلتمس له الأعذار الواهية ، ويصير تهاونه قضية مشروعة  تحظى بالاهتمام والدفاع عنها . وقد تستجيب مع شديد الأسف الوزارة لتيار اللوبي  الفاسد ، فتنزل العقوبة بالصالح لفائدة الطالح، ولا توفد من يتحرى الموضوع جيدا بموضوعية  وتجرد وحياد ، بل قد توكل التحري إلى عناصر فاسدة ومكرسة للفساد، الشيء الذي يوفر للتيار الفاسد غطاء ويعطيه مشروعية  ليزداد نشاط فساده وإفساده فتدفع المنظومة التربوية ثمن ذلك غاليا .

 وقد تكون الأطراف الفاعلة في المنظومة التربوية كلها صالحة تقوم بدورها على الوجه الأكمل ، ولكن الأطراف المنفعلة وهم المتعلمون يلجون المؤسسات التربوية بتربية أسرية مختلة لا تجدي معها التربية النظامية . فإذا كان المتعلم في التعليم الأولي يلج المؤسسة التربوية  بتربية أسرية مختلة ،وهو لا يتوفر على الحد الأدنى من  هذه التربية التي هي أساس التربية عبر كل مراحل العمرـ  وقد صدق من قال : " من شب على شيء شاب عليه "ـ  فليس بمقدور التربية النظامية أن تفعل فعلها فيه إذا كانت الأسرة تحتج عليها حين تريد إعادة تربيته التربية الصحيحة ، وتصر على مواصلة سوء تربيته على طباع وأخلاق مختلة . ومعلوم أن المتعلمين منذ التعليم الأولي يفدون على المؤسسات التربوية بطباع  وأخلاق مختلفة فيها السوي وفيها المنحرف ، فكم من أسرة ترسل طفلها إلى مؤسسة تربوية وهو على طباع جيدة وأخلاق حسنة ، فتصيبه عدوى طفل أو أطفال سيئة طباعهم فينحرف طبعه السوي . ولا زالت المؤسسات التربوية لم تنجح بعد  في بصم المتعلمين منذ التعليم الأولي بتربية نظامية تهيمن على أصناف التربية الأسرية المختلفة سويها ومنحرفها . ومن المفروض أن يسلم الآباء والأولياء فلذات أكبادهم إلى المؤسسات التربوية، فيلمسون في وقت قصير تغييرات جوهرية في تربية أبنائهم، فيصير ما ربوهم عليه من طباع وسلوكات أحسن وأفضل . ومع شديد الأسف قد يسيء كثير من الآباء والأولياء فهم  نمط تربية المؤسسات التربوية السوية  المختلف عن نمط التربية الأسرية المختلة ، فيتهمون المؤسسات التربوية بتهم باطلة لأنهم يقيسون تربيتها  السوية على التربية المختلة  التي ربوا عليها أبناءهم ، فيطالبونها بعدم تصحيح اختلال تربيتهم ، فيظل الأبناء على طباعهم الفاسدة بل تصيب عدواهم غيرهم ممن تلقوا تربية سليمة، الشيء الذي يجعل الآباء والأولياء الذين تكون تربيتهم الأسرية سوية يشتكون من فساد طباع أبنائهم ، ويحملون المؤسسات التربوية مسؤولية ذلك ، وهم محقون .

ويشكو الآباء والأولياء من اختلال المنظومة التربوية ولا يخطر ببالهم أبدا أنهم طرف في هذا الاختلال من خلال تقصيرهم في واجبهم تجاه أبنائهم حيث يتقاعسون عن توفير الحد الأدنى من التربية السوية لأبنائهم قبل إرسالهم إلى المؤسسات التربوية لاستكمال تربيتهم . فكم من متعلمين  التحقوا بالمؤسسات التربوية بطباع فاسدة فأفسدوا كل من فيها ، ولا يلتفت آباؤهم وأولياؤهم إلى أنهم هم سبب فساد المنظومة التربوية لأنهم لم يحرصوا على تربية أبنائهم التربية السوية قبل إرسالهم إلى المؤسسات التربوية .

ويزداد فساد طباع المتعلمين عبر أطوار التعليم بدءا بالتعليم الأولي ومرورا بالتعليم الابتدائي فالإعدادي ثم التأهيلي والعالي . وقد يزداد بعض المتعلمين فسادا في الطباع والأخلاق كلما تدرجوا في أسلاك التعليم ومراحله ، ويزداد فساد طباعه  تحديدا عند بلوغهم سن المراهقة ، وهي سن تتعذر على آبائهم وأولياء أمورهم ضبطهم ، ولا تستطيع المؤسسات التربوية القيام بما لم يستطعه الآباء والأولياء ، و حينئذ يتراشق هؤلاء التهم مع المسؤولين عن المؤسسات التربوية بخصوص استفحال فساد أبنائهم ، والحقيقة أن المسؤولية مشتركة بين الجميع . ومما يكرس استفحال فساد المتعلمين غياب الإجراءات الانضباطية الفعالة حيث بلغ الأمر حد استصدار وزارتنا آخر مذكرة انضباطية غير ذات جدوى وربما تكون قد اقتبست من مجتمعات ذهبت بعيدا في تربية ناشئتها وتضافرت جهود الآباء والأولياء فيها مع جهود المؤسسات التربوية لتوفير مستوى أخلاقيا راقيا للمتعلمين . ومعلوم أن بعض تلك المجتمعات تقتصر برامج منظومها التربوية  خلال مراحل عمرية على تطوير برامج التربية الأسرية  قبل أن تشرع في تلقين المتعلمين المعلومات . وإذا كان الإجراء الانضباطي الذي تبنته وزارتنا صالحا في مثل تلك المجتمعات  المتقدمة ،فليس من الضروري أن يكون الأمر كذلك عندنا ، ففي تلك المجتمعات قد يكون تصحيح سلوك منحرف عن طريق تكليف المتعلم بالقيام بعمل يعود على مؤسسته بالنفع إجراء فعالا في حين  لا يكون ذا جدوى بالنسبة لمجتمعنا حيث يشعر المتعلم هناك بجدوى تصحيح سلوكه بينما يزداد المتعلم عندنا إمعانا في السلوك الفاسد ، ولا يفهم مغزى الإجراء التصحيحي ، لهذا يتعين البحث عن إجراءات تصحيحية تناسب مجتمعنا وثقافتنا . ولا شك أن النسج على منوال مجتمعات سارت أشواطا بعيدة في الرقي  لا يفيدنا  في شيء ،ونحن على ما نحن عليه من تخلف ، ويكفي أن نستشهد بتجربة  السجون التي  صارت إصلاحيات تقليدا للمجتمعات الراقية  وجريا وراء تقليدها ولكن نزلاء هذه الإصلاحيات عندنا لم يستوعبوا فكرتها بل ازداد الإجرام عندنا لأن المجرمين أساءوا فهم  نظام الإصلاحيات ، واعتبروها تنازلا من طرف الجهات المسؤولة بل انهزاما  منها ،الشيء الذي جعل هذه الإصلاحيات بلا جدوى ولا تحقق أهداف الإصلاح المنشود . وكذلك الشأن بالنسبة للإجراءات التأديبية التي تبنتها وزارتنا والتي اقتبستها من منظومات تربوية لمجتمعات بيننا وبينها أشواط بعيدة لبلوغ ما هي عليه من تقدم ورقي .

ومعلوم أن اختلال منظومتنا التربوية والذي يعكسه ضعف نتائج ومردودية التعلم يعود بالدرجة الأولى إلى فساد العنصر البشري سواء تعلق الأمر بالفاعلين التربويين على اختلاف مهامهم أو بالمنفعلين المتعلمين . وللآباء والأولياء دور كبير في هذا الاختلال لا يعترفون به مع شديد الأسف والحسرة لأنهم لا تعنيهم سوى نتائج نهاية الموسم الدراسي ، فإن كانت جيدة امتدحوا أنفسهم وأبناءهم ، وإن كانت خلاف ذلك صبوا جام غضبهم على الوزارة ومن فيها . ولا يهتم معظم الآباء والأولياء بأبنائهم طيلة موسم دراسي كامل حتى إذا جاء وقت النتائج تصرفوا وكأنهم كانوا مواظبين على مصاحبتهم . ومن الظواهر المألوفة عند معظم هؤلاء أن يقصدوا المؤسسات التربوية أوالأكاديميات أوالمديريات الإقليمية يطالبون بالإطلاع على أوراق امتحانات أبنائهم ويطالبون بإعادة تصحيحها وهم جازمون بأن أبناءهم محقون فيما يدعونه من إجابات صحيحة، وفي المقابل يكذبون المصححين ويتهمونهم بالغش أو التهاون في التصحيح ، وهو أمر قد يحدث ولا  يستبعد ولكن ليس بالشكل الذي يدعيه هؤلاء .

وفي الأخير نؤكد على أن إصلاح منظومتنا التربوية من الضروري أن يبدأ بتصحيح العنصر البشري فاعلين ومنفعلين ومسؤولين عنهم من آباء وأولياء . ومن المؤكد أن فشل المنظومة  التربوية يتقاسمه الجميع، كما أن نجاحها يتقاسمه الجميع أيضا. وكل من فرط في واجب تجاه هذه المنظومة يكون قد ساهم مباشرة في تعطيل أو إيقاف عجلة حركتها .وحين يحصل الوعي والقناعة  بهذا الأمر لدى الجميع  حينئذ ستبدأ عملية إصلاح المنظومة التربوية ، وتكون النتائج في المستوى المأمول ، ولن تبقى لدينا حشود الفاشلين والعاطلين ، وسينطلق قطار التنمية الشاملة بقاطرة تجره وهي المنظومة التربوية الموفقة .

وسوم: العدد 737